جانب من

دروس التاريخ تُعلّمنا: استعراض القوة بين إيران وأمريكا لا يمنع وقوع الحرب، بل يجعلها تبدأ (صور)

نادراً ما تسير الحروب كما يتوقعها مهندسوها. بالنسبة للولايات المتحدة، كان هذا هو الحال في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق. ولعل الأمر نفسه يُقال يوماً عن إيران إذا ما أدت عملية نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاملة الطائرات «يو إس إس أبراهام لينكولن» إلى جانب إحدى مجموعات القوة القتالية من السفن الحربية والقاذفات في الخليج إلى مواجهاتٍ عنيفة.

فالهدف من المناورات، على حد قول مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، هو «إرسال رسالة» لإيران. وكان القيصر الروسي نيقولا الثاني والقيصر الألماني فيلهيلم الثاني، الذي يتصادف أنَّهما أبناء عمومة، قد أرسلا رسائل مماثلة لكلٍّ منهما في صيف عام 1914 من خلال تحشيد جيشيهما. لكنَّ استعراض القوة هذا لم يمنع الحرب، بل بدأها.

استعراضات القوة هي مقدماتٌ للحرب

يقول مركز Stratfor الأمريكي، تُقدِّم الحرب العالمية الأولى الكثير من الدروس لأولئك الراغبين في التعلُّم. فإلى جانب الغباء المحيط بحرب الاستنزاف الساكنة على الجبهة الغربية، كانت هناك أمثلة على حوادث جانبية مدمرة في إفريقيا والبلقان والعالم العربي، ونعم، في إيران كذلك. وفي حال نسي الغربيون، فإن الإيرانيين يتذكَّرون احتلال الحليفيتين روسيا وبريطانيا لبلدهم المحايد عام 1914. (وستعودان لاحتلاله مجدداً عام 1941).

قوات بريطانية في مدينة آذربيجان الغربية الإيرانية/ 1918
 
قوات بريطانية في مدينة آذربيجان الغربية الإيرانية/ 1918

إذ أرسل البريطانيون ما قد نُسمِّيها اليوم كتيبة «عمليات خاصة» في مختلف أنحاء إيران لحشد رجال القبائل من أجل منع الأتراك العثمانيين وحلفائهم الألمان من السيطرة على نفط بحر قزوين.

وفي ديسمبر/كانون الأول 1917، كلَّفت وزارة الحرب البريطانية الجنرال ليونيل دانسترفيل بقيادة «قوة دانستر» المكونة من 450 رجلاً. وكان صديقه روديارد كبلينغ قد خلَّده بالفعل بطلاً إمبراطورياً للهند البريطانية باسم «ستوكي». كان دانسترفيل النابض بالحيوية طليقاً في 9 لغات، بينها الفارسية والصينية، وكان هذا استعداداً جيداً لكن غير كافٍ للمهمة في إيران.

عَبَرَت قوة دانستر شط العرب من مناطق العراق الخاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك ودخلت إلى إيران في مطلع 1918 في طريقها إلى باكو، العاصمة النفطية لأذربيجان، والتي كان الروس قد تخلوا عنها بعد الثورة التي أسفرت عن خروج روسيا من الحرب.

«مغامرة مجنونة»

لكنَّ عبور إيران كان صعباً: أغلقت الثلوج الطرق الجبلية، وهاجمتهم ميليشيات محلية. إذ ضربت حركة جانغالي (حركة جانغل في جيلان) القومية قوة دانستر قبل أن تصل باكو، فقلَّصت قوتها وأبطأت حركتها. وحاول دانسترفيل الحصول على قبولٍ شعبي من خلال منع تجار الحبوب من تخزين الحبوب، لكنَّ هذه الخطوة ارتدت بنتائج عكسية حين اتهمه أنصار حركة جانغالي بتسميم طحين الشعب.

الكتيبة البريطانية التاسعة  في الحملة الفارسية 1918/ IWM
 
الكتيبة البريطانية التاسعة في الحملة الفارسية 1918/ IWM

وتسبَّبت ادعاءات أحقية تولي القيادة من جانب القوى المتنافسة من أتباع حركة جانغالي والشيوعيين المحليين والإسلاميين والمسيحيين في تعقيد الأمور بالنسبة لدانسترفيل. وبدَّل الكثيرون من هؤلاء ولاءاتهم أكثر من مرة وفقاً لقرب العثمانيين أو البريطانيين للفوز بالحرب. وصل جزءٌ من قوة دانستر إلى أرومية بمحافظة أذربيجان الإيرانية، لكنَّ وجودها هناك فاقم سوء معاملة المسيحيين الذين ارتبطوا بقضية الحلفاء. وبنهاية الحرب، كان سكان أرومية المسيحيين قد تقلَّصوا من 40% من سكان المدينة إلى صفر تقريباً.

وفي باكو، نظَّم دانسترفيل الدفاعات ضد هجومٍ عثماني. وبدأت المعركة في 26 أغسطس/آب 1918. دمَّرت المدفعية معظم المدينة، ما أجبر دانسترفيل على إجلاء قواته على متن سفينتين عبر بحر قزوين في ليلة 14 سبتمبر/أيلول. ثُمَّ أقدم الجنرال ليونيل مارشال، القائد البريطاني في بلاد ما بين النهرين، والذي وصف حملة دانسترفيل بأنَّها «مغامرة مجنونة»، على تفكيك الفرقة بعد يومين.

الأخطار الآن هي نفسها كما كانت في الماضي

ترامب يحب استعراض قوة الولايات المتحدة أمام الجميع، فهل يتهور باتجاه الحرب مع إيران؟
 
ترامب يحب استعراض قوة الولايات المتحدة أمام الجميع، فهل يتهور باتجاه الحرب مع إيران؟

كان غزو إيران مخاطرةً عام 1918، ولا يزال مخاطرةً اليوم. فالسفن الموجودة في أي مكان بمياه الخليج تقع ضمن نطاق الدفاعات الساحلية الإيرانية. وقد يؤدي أي خطأ أو تبادل للنيران إلى نشر 120 ألف جندي أمريكي كما أفادت صحيفة The New York Times الأمريكية.

وبدا أنَّ رد ترامب على مقال الصحيفة كان تأكيداً أكثر منه نفياً، إذ قال: «إن فعلنا ذلك، سنرسل قوات أكبر بكثير من هذا». وتُصِرُّ الولايات المتحدة، تماماً كما كان حال قيصر ألمانيا وقيصر روسيا وملك إنكلترا في 1914، على أنَّها لا تريد الحرب. فقال بولتون: «الولايات المتحدة لا تسعى للحرب مع النظام الإيراني، لكنَّنا مستعدين تماماً للرد على أي هجوم، سواء تم الهجوم من خلال وكلاء أو الحرس الثوري الإيراني أو الوحدات النظامية الإيرانية».

وطبيعة الرد الأمريكي على أي هجمات متوقعة من جانب إيران سيُحدِّد مستقبل الولايات المتحدة وإيران والشرق الأوسط وكل الدول المصدرة لنفط الخليج طيلة سنوات مقبلة. فهل سيستحق الأمر؟