ترجمة: عربي بوست
دائماً يتم الحديث عن الحروب الجهادية التي أدت إلى خلق أجيال من الإرهابيين المسلمين، ولكن في المقابل يتم تجاهل حرب أوروبية خلقت أجيالاً من الإرهابيين المسيحيين الذين تركتهم الحكومات الأوروبية بلا رادع.
ومن هذه الحرب خرج إرهابيون مسيحيون لينشروا الموت في بلادهم، ولكن لا يتم التركيز على الخطورة التي يمثلها هذا النوع من الإرهابيين.
حرب أوروبية خلقت أجيالاً من الإرهابيين المسيحيين
كان الغزو السوفييتي لأفغانستان وما تلاه من حرب أهلية بمثابة بذرة مؤثرة للتطرّف الإسلامي، وهكذا كانت حروب أخرى، من الشيشان إلى العراق.
ولكنْ ثمة صراع حاسم واحد شكّل مسار التطرّف العالمي والإرهاب يجري تجاهله؛ فقد نضج مُعظم اليمين المتطرّف العالمي بفعل صراعات البلقان في التسعينيات، لا سيّما حرب البوسنة، حسبما ورد في تقرير لمجلّة Foreign Policy الأمريكية.
والطرف المُسلم في هذه القصّة معروف جيداً؛ فقد انضمّ آلاف المتطوّعين الأجانب إلى الميليشيات المُسلّحة في البوسنة، وكان بعضهم مُجنّدين جُدداً من أوروبا الغربية، بينما كان آخرون مُقاتلين قدامى في حِراك الجهاد بأفغانستان ضد الغزو السوفيتي في الثمانينيات.
وقد أرست مهارات القتال التي تطوّرت على يد المُتطوّعين الأجانب في الحرب، والاتّصالات التي أقاموها مع آخرين في أنحاء العالم، بالإضافة إلى تطرّف احتدام المعركة أُسُس شبكات كاملة من عنف التطرّف الإسلامي الذي يكافحه العالم حتّى يومنا هذا.
«ولكن على الجانب الأوروبي كان هناك أيضاً متطرفون»، فقد انضمّ أيضاً آلاف المتطوّعين من جميع أنحاء أوروبا إلى جيش صرب البوسنة الأرثوذكسي، والجيش الكرواتي البوسني الكاثوليكي.
كرواتيا تلجأ إلى إحياء ماضيها النازي
وقد اجتذب الطرف الكرواتي على وجه الخصوص العديد من النازيين الجدد من جميع أنحاء القارة خلال هذه الفترة، وكان ذلك إلى حدِ كبير بفضل قرار الحكومة الوطنية في العاصمة الكرواتية زغرب بإعادة خلق رموز دولة كرواتيا المُستقلّة في زمن الحرب العالمية الثانية، والتي كانت نظاماً فاشياً خاضعاً كلياً لقبضة الرايخ الثالث الذي يقوده هتلر.
ومثلما حدث مع المتطوّعين المُسلمين، عاد المُحاربون المسيحيون إلى بلدانهم الأصلية بعد الحرب، مُتطرّفين، وجاهزين للحِراك الجديد، وأصبح على الأقل بعض هؤلاء المُحاربين نواةً للميليشيات اليمينية الجديدة التي تحوّلت بمرور الوقت إلى قوى سياسية قويّة.
واليونان احتفت بالحزب الذي شارك في قتل آلاف المسلمين
ولعلّ أحد أبرز النماذج على ذلك هو حزب الفجر الذهبي في اليونان.
ومن المعروف عن أعضاء الفجر الذهبي الأساسين أنّهم شاركوا في مذبحة سريبرينيتسا التي أودت بحياة 8 آلاف من المُسلمين البوسنيين في عام 1995، خلال الحرب.
ومثلما هو الحال مع المتطوعين المسلمين، كانت الحكومات الأوروبية بطيئة للغاية في إدراك الخطر الذي شكله هؤلاء المقاتلون المتطرفون على مجتمعاتهم عند عودتهم.
واحتفى كثيرون في اليونان في ذلك الوقت، بما في ذلك أشخاص في الحكومة، بالمشاركين اليونانيين في المذابح، بالأخص على أسس دينية وأيديولوجية. وينطبق الأمر نفسه على العديد من بلدان أوروبا الشرقية، لا سيما أوكرانيا، ورومانيا وروسيا، وفي بعض الدوائر بأوروبا الغربية أيضاً.
ولم تتم مساءلة أي من الإرهابيين المسيحيين العائدين
بالطبع، لم تنفذ أي حكومة أوروبية أي برامج معروفة لردّ المقاتلين العائدين عن التطرّف وإعادة دمجهم في المجتمع؛ فالفكرة لم تكن حتّى على أجندة الحكومات، ولم تكن هناك أي مساءلة قانونية عن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء أثناء وجودهم بعيداً عن البلاد. وإذا كان هناك شيء قد حدث، فهو أنَّ بعض المقاتلين قد كوفئوا بالصيت الواسع ومنصّة سياسية للمستقبل.
أنتج هذا الفشل أنواعاً وشبكات مماثلة من التطرف الراديكالي في اليمين الأوروبي، مثلما حدث مع الإرهاب الإسلامي. إنَّ قائمة الإرهابيين والدعاة الراديكاليين القوميين الذين خرجوا من رحم حرب البوسنة أو كانت هذه الحرب مصدر إلهامهم طويلة نسبياً.
فبدأوا ينفذون جرائم داخل بلادهم
وهنا يمكننا الإشارة إلى بعضٍ من أكثر الشخصيات المعروفة على المستوى الشعبي خلال العقدين الأخيرين؛ مثل جاكي أركلوف، السويدي الذي قاتل في صفوف الكرواتيين الكاثوليك.
وحتى أندريس بريفيك، بشكل غير مباشر، مرتكب أسوأ هجوم إرهابي في تاريخ النرويج في عام 2011 الذي أدى إلى مقتل نحو 85 من المراهقين في معسكر للحزب الحاكم في البلاد.
كان أركلوف، على سبيل المثال، سويدياً من النازيين الجدد الذين انضموا إلى قوات الدفاع الكرواتية، والذين يقول الضحايا إنَّهم نفذوا وقائع تعذيب وحشية في معسكرات الاعتقال التي يديرها كرواتيون في الهرسك، وقد اعتقلته الحكومة البوسنية وأدانته بارتكاب جرائم حرب، ولكن أُطلِق سراحه بعد عامٍ في إطار اتفاقية تبادل سجناء، وعاد إلى السويد، حيث جرت تبرئته من الجرائم لعدم كفاية الأدلة.
وقد ردّ جميل تساهل الدولة السويدية بتأسيس مجموعة للنازيين الجدد في السويد مع اثنين آخرين. وبعد ذلك بوقت ليس بطويل، قُبض عليهم، وأُدينوا بقتل ضابطي شرطة سويديين في عام 1999.
بريفيك، على النقيض من ذلك، لم يقاتل في الحروب؛ بل كان مُجرّد مراهق في ذلك الوقت، إلا أنَّ منظوره الإيديولوجي كان مستوحى من المتطرفين الصرب الأرثوذكس. وبالفعل، يُعتبر منظوره تمثيلاً لليمين المتطرف الأوروبي على نطاق واسع للغاية.
إنهم يؤمنون بالحرب الأبدية بين المسلمين والمسيحيين
وثمّة فكرة رئيسية متكررة في تفكيرهم، وهي فكرة الحرب الأبدية بين الحضارات الأوروبية والإسلامية، والتي جرى خوضها بضراوة بزيادة تعداد السكّان؛ بين ما يُسمّونه «العِرق الأوروبي الأبيض» الذي يُمثِّل الثقافة الغربية المسيحية أو ثقافة التنوير الغربية والشرق أوسطيين، وهم أعراق خمرية البشرة تمثِّل ما يرونه إسلاماً رجعيّاً وقمعياً من العصور الوسطى.
إذن إنَّ فكرة الحرب المستمرة بين المسيحية والإسلام لها تاريخ طويل في البلقان وما وراءها.
لكن فكرة أنَّ هذا الصراع يحتدم في هذه اللحظة من الزمن بسبب التنافس الديموغرافي بين الأجناس لها أصول صِربية مميزة، فلتأخذ على سبيل المثال هذا التصريح الذي أدلى به رادوفان كاراديتش، زعيم الصرب البوسنيين خلال الحرب البوسنية، إذ قال:
«لم يرغب المسلمون في تحويل البوسنة إلى كونفدرالية أو إلى ثلاث ولايات للكروات والصرب والمسلمين. لقد أرادوا البوسنة والهرسك بأكملها لأنفسهم. يريد المسلمون البوسنيون، في نهاية المطاف، أن يُهيّمنوا، بالاعتماد على معدل مواليد مرتفع للغاية، حتى أنَّهم أرادوا نقل بعض الأتراك من ألمانيا إلى البوسنة للمساعدة في بناء مجتمعهم الإسلامي. وبما أن استراتيجية الهيمنة هذه ستكون على حساب الصرب البوسنيين، فقد قاومناها من خلال حماية قُرانا».
إنهم يخشون من تنفيذ المسلمين لخطة الاستبدال العظيم
كان هذا هو نوع التفكير الذي رسخ الميل العام نحو مواقف الإبادة الجماعية بين الصرب على وجه الخصوص، خلال حروب البلقان، والذي تطور لاحقاً إلى الفكرة السائدة في الوقت الحاضر بين صفوف اليمين المُتطرّف الأوروبي (والأمريكي بالتأكيد) عمّا يسمى «الاستبدال العظيم»؛ وهي فكرة أن الثقافة والحضارة والعرق الأوروبيين يُستَبدَلون بفعل الهجرة الإسلامية، وهذا بدوره يبرر الانتقام العنيف.
جعل بريفيك علاقة البلقان بالتطرف اليميني جليّة عندما امتدح، في بيان، كاراديتش قائلاً إنَّه «سيظل في الذاكرة دوماً باعتباره صليبياً شريفاً وبطل حرب أوروبياً نظير جهوده لتخليص صربيا من الإسلام».
وكان ذلك اختياراً للغةٍ ومصطلحات تحمل بفعالية أصداء القومية الصربية في التسعينيات والتطرف اليميني المتطرف اليوم على حد سواء.
وقد تشربوا هذه الأفكار من مشاهد المذابح التي كانت تبث على التلفزيون
وبالرغم من كل ذلك، ربما كان الإرث الأكثر أهمية في حروب البلقان والبوسنة، والأهم من المقاتلين العائدين أو الخطاب المتطرف، هو تحطيم الوهم الأوروبي بعد الحرب المُتمثّل في المجتمع الدولي المتحضر الذي يحرس العالم لضمان سلامته.
كانت حروب البلقان، وخاصة تلك التي اندلعت في البوسنة والهرسك، من أوائل الصراعات التي بُثَّت على الهواء مباشرة على شاشات التلفزيون، بعد حرب الخليج الأولى مباشرة. وما رآه العالم بأسره كان فظائع ومذابح وحشية من اليسار واليمين والوسط، بما في ذلك إبادة جماعية صريحة ارتُكِبت ضد السكان المسلمين البوسنيين.
وكان بمقدور الميليشيات العشوائية التي تتمتع بدعم حكومي إقامة المعسكرات، وممارسة التعذيب والاغتصاب والقتل وإحراق التراث الديني والثقافي بينما يشاهد فحسب ما يُدعى «العالم الحر». لقد راقبوا برعب، ولكن كل ما فعلوه كان المشاهدة فقط بسلبيّة وعجز.
ومرت خمس سنوات أخرى قبل أن تتدخل الولايات المتحدة والغرب ضد صربيا، وأكثر من عقد إلى أن يرى أي شخص على العدالة أن تتحقق في محكمة دولية. وفي الوقت نفسه، كانت الإبادة الجماعية التي تُعرض على التلفزيون عامل حشد كبيراً لتعبئة المتطرفين من جميع الجهات.
ومن الممكن مسامحة أولئك الذين كانوا يشاهدون لتوصلهم لاستنتاج مفاده أنَّه يمكن ارتكاب الفظائع دون عقاب. لذا، إذا أردت منع الفظائع التي يرتكبها أو قد يرتكبها الجانب الآخر، فالطريقة الوحيدة هي التغلب عليه وسحقه قبل أن يسحقك.
شكلت الحرب نقطة محورية في التاريخ الأوروبي. لم يفلت القتَلَة والفاشيون ببساطة فحسب بل جرى تبجيلهم أيضاً، على الهواء مباشرة بشاشات التلفزيون. ومع تلك السابقة التي نُحِتت في الذاكرة الجماعية لجيلٍ، فإنَّ عودة الفاشية الأوروبية بصورةٍ صارخة كانت فقط مسألة وقت.