مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية
افتتحت المنظمة التعليمية الدولية غير الربحية (أميديست) مكتباً لها في صنعاء عام 1981، قبل أن تصبح اليمن دولة واحدة (توحد شمال وجنوب اليمن بإعلان قيام الجمهورية اليمنية عام 1990). ومنذ ذلك الحين، مر عشرات الآلاف من اليمنيين عبر المؤسسة، تلقوا فيها التعليم والتدريب والاختبارات المعتمدة وفرص التبادل التي سمحت لهم بالمضي في تعليمهم بمختلف الجامعات حول العالم، وقد جلبوا تعليمهم ذاك إلى اليمن حين عادوا، فأصبح خريجو أميديست وزراء في الحكومة، وبيروقراطيين رفيعي المستوى، وقادة في القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. في بلد فقير ظمآن للعقول القادرة على خلق فرص تنمية اقتصادية واجتماعية، كان لأميديست تأثير هائل في خلق الانتلجنسيا اليمنية.
حتى في ظل الصعوبات الهائلة التي حملها النزاع المستمر، أبقت أميديست أبوابها مفتوحة أمام اليمنيين، ومع ذلك، في 30 مايو / أيار من هذا العام، أعلنت أميديست أن سلطات الحوثيين أجبرت مكتبها في صنعاء على الإغلاق دون أي مبرر. وبذلك أغلقت سلطات الحوثيين آخر بوابة كان يمكن من خلالها لروّاد التقدم الاجتماعي-الاقتصادي المحتملين أن يتطوروا، ولعل إغلاق أميديست هو إغلاق لأهم نافذة يمكن من خلالها لليمنيين ذوي القدرات أن يصلوا إلى عالم الفرص.
بالنسبة للأيديولوجيين المذعورين ارتياباً، يعتبر التقدم الفكري لأفراد المجتمع تهديداً لتماسك العقيدة الشمولية. بعبارة مباشرة: كيف يمكن لزعيم جماعة الحوثيين المسلحة، عبد الملك الحوثي، أن يحتفظ بقشرة من السلطة المطلقة التي يمتلكها اليوم في حال تمكن القابعون تحت قبضته من التعبير عن أفكار أفضل من أفكاره؟ بدلاً من اعتبارهم فرصة للنهوض بالصالح العام، يُعتبر هؤلاء المفكرون الأحرار تهديداً لمصالح الحوثيين المترسخة. إن الخطر الأكبر على عبد الملك الحوثي ليس الولايات المتحدة ولا السعودية ولا الإمارات ولا الحكومة اليمنية؛ الخطر الأكبر هو احتمالية أن ينتبه أتباعه يوماً ما أن هناك في الحياة ما هو أكثر من الحرب، وأن هناك احتمالات حياتية أكثر معنى بكثير من (الشهادة).
لم تبدأ حملة سلطات الحوثيين لإعادة اليمن إلى عصور الظلام الفكري فقط بإغلاق أميديست، فمنذ الاستيلاء على صنعاء عام 2014 وقيادة الحوثيين تنفذ حملة شرسة لإعادة تشكيل عقول السكان الخاضعين لسيطرتها.
يشغل المتعصبون الدينيون الآن معظم الوزارات في الحكومة، ولا سيما وزارة التربية والتعليم، التي يقودها يحيى الحوثي، الأخ الأكبر لعبد الملك الحوثي. كما أصبح تاجر أسلحة مدرج على قائمة الأمم المتحدة وزير دولة في حكومة الحوثيين. وفي الآونة الأخيرة، تمت إعادة صياغة مناهج المدارس الابتدائية لتوسيع الدراسات الدينية، والتي في الواقع لا تدرّس ديناً على الإطلاق – بل تعلّم اليافعين أن هناك تفسيراً واحداً للدين، هو تفسير الحوثيين، وأن جميع التفسيرات الأخرى مجرد هرطقة.
يعني التقدم التعليمي بالنسبة لقادة الحوثيين أخذ الأطفال من دور الأيتام، ومنحهم السلاح، وإرسالهم إلى الجبهات لتعلم القتل أو الموت. وفي الوقت الذي منعت فيه سلطات الحوثيين حملات تطعيم مئات آلاف الأطفال، كانت تقوم بنهب المساعدات من أفواه الجياع حتى خلال شهر رمضان المقدس.
أصبح الاختلاط بين الرجال والنساء في المقاهي والجامعات محظوراً، كما أصبحت الميليشيا النسائية الدينية – والمعروفة باسم الزينبيات – نموذج لتمكين المرأة عند الحوثيين. وكما طالبان في أفغانستان وتنظيم ما يسمى “الدولة الإسلامية”، فجرت قوات الحوثيين منازل خصومها ونشرت بكل فخر مقاطع مصورة لذلك على موقع اليوتيوب. وبعد أن ألغت العمل بالدستور وفرضت قوانين الطوارئ في فبراير 2015، أصبحت الجماعة تعتقل بانتظام – أو في أحسن الأحوال تفرض رقابة شديدة – على أئمة المساجد وقادة المجتمع المدني والصحفيين والناشطين، وحكمت بالإعدام على أبناء الأقليات الدينية في محاكمات هزلية. وقد زرعت قوات الحوثيين ملايين الألغام الأرضية في المناطق المدنية في جميع أنحاء البلاد، بل إن أحد زعماء الحوثيين تباهى ذات مرة أمام أحد الناشطين الحقوقيين البارزين بأن إنتاج الألغام الأرضية يصنعه الحوثيون محليا؛ وربما كان هذا ما هو مثال التقدم التكنولوجي لدى الجماعة. أما الورقة الأربح التي في أيديهم فهي ملايين الناس الذين يعيشون تحت سيطرتهم، والذين يجب النظر إليهم – للدقة- كرهائن لا كمواطنين.
المؤسسات اليمنية منخورة بالفساد منذ فترة طويلة، إلا أن العنصر الجديد الذي تضيفه سلطات الحوثيين اليوم هو الغسيل العقائدي الجماعي. يجب أن يُنظر إلى جماعة الحوثيين المسلحة بكونها ميليشيا أقرب إلى مافيا أيديولوجية، وقد تعلمت بسرعة خلال النزاع كيف تبتز المجتمع الدولي وتربّي طموحاتها الخاصة بإقامة دولتها، تمثل إعادة هيكلة التعليم إحدى أبرز الوسائل التي يمهّد من خلالها الحوثيون لفرض الديستوبيا خاصتهم.