إيلين لي- بي بي سي
مع افتتاح مزاد خلال أسابيع قليلة في بنما لاقتناص أنواع البن الأكثر تميزا ستتجه الأنظار نحو أعلى سعر يصل إليه البن في المزاد.
وقد سجل المزاد العام الماضي رقما قياسيا بلغ 803 دولارات للرطل (454 غراما) من البن الأعلى جودة؛ وكان من نوع "إليدا غيشا" من مزرعة توارثتها أسرة في أحضان محمية غابات بمنطقة بركانية غربي البلد الواقع بأمريكا الوسطى. وقد اقتصرت الكمية المباعة من هذا البن على 45 كيلوغراما بيعت بالمزاد ووزعت بين مشترين صينيين ويابانيين وتايوانيين، ومشترٍ أمريكي واحد هو "كلاتش كوفي" ومقره لوس أنجليس.
وكانت حصة "كلاتش كوفي" من بُن "إليدا غيشا" نحو أربعة كيلوغرامات و54 غراما من البن، ليحيلها المقهى لأحدث منتجاته المميزة كـ "أغلى فنجان قهوة في العالم"، بقيمة 75 دولارا للفنجان!
يقول دارين دانيال، المدير التنفيذي لاتحاد القهوة الممتازة، وهي منظمة غير ربحية ببورتلاند بولاية أوريغون الأمريكية: "حين نفكر في أفضل أنواع النبيذ أو البراندي لا نستغرب ما ينفق في سبيل اقتنائها، وكذلك مشروبات أخرى منعشة". ويرى دانيال أن الأوان قد آن لمعاملة القهوة الممتازة بنفس الطريقة. ويدعم الاتحاد الذي يديره المزارع الصغيرة المتخصصة في إنتاج أنواع البن المتميزة حول العالم.
ولا غرابة في الأمر إذا عرفنا كم الجهد المبذول في سبيل الوصول إلى فنجان مميز من القهوة! ؟
وحاليا يباع البن بالأسواق العالمية بسعر منخفض يقل عن دولار للرطل، ويعود السبب لوفرة المعروض منه، إذ تُصَعِّب المزارع الضخمة ببلدان مثل البرازيل - التي تمد وحدها الاتحاد الأوروبي بـ 29 في المئة من وارداته من البن - الأمر على المزارع الصغيرة بحيث يتعذر عليها مواصلة الإنتاج والمنافسة.
ووسط أجواء صعبة من الركود في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، بدأت تنشأ وتزدهر المسابقات والمزادات على البن المتميز. ويقول دانيال إن الهدف من ذلك كان إفساح المجال لصغار المزارعين وإيصالهم بالمشترين في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وآسيا.
واليوم غدت هناك عشرات المسابقات والمزادات الخاصة بالقهوة، منها مسابقة "الفنجان الممتاز" التي ينظمها اتحاد القهوة الممتازة وتوصف بأنها "أولمبياد القهوة"، إذ تجتذب منتجين من أحد عشر بلدا. وهناك أيضا مسابقة "أفضل ما تجود به بنما"، وفيها اختير بن "إليدا غيشا" وسط منافسة دولية قوية. وتباع أنواع البن التي تتصدر السباق بأكثر كثيرا من الدولار الواحد للرطل.
يقول ريك راينهارت، المدير الفخري للرابطة الأمريكية للقهوة المتميزة: "يعود هذا بالفائدة على المزارع وعلى المستهلك أيضا، فالمزارع يكسب أكثر بينما يتمتع المستهلك بمنتج أفضل".
وتأتي قهوة "إليدا غيشا" من مزرعة صغيرة قرب بلدة بوكيتي ببنما، وقد تعاقبت أربعة أجيال من أسرة لاماستوس على إدارة المزرعة. وينسب الاسم الأول لهذا البن إلى "إليدا" الجدة التي رعت المزرعة وتحملت بمفردها عبء الأسرة بعد فقد زوجها في عمر مبكر.
ورغم أن الأسرة تزرع البن لأكثر من مئة عام، إلا أن بن "إليدا غيشا" حديث العهد. ويقول ويلفورد لاماستوس الابن، وهو من الجيل الرابع من أصحاب المزرعة، إن مزرعتهم عانت لوقت طويل وخسرت الأسرة الكثير من الأموال، واضطرت لزرع البصل والتوت والشمام إلى جانب البن لتعويض الخسارة، وكان أي شخص عاقل سيقرر ترك هذا المجال بسبب الخسارة".
لكن بدلا من ذلك قررت الأسرة التركيز أكثر على البن، وساهم والده في إنشاء رابطة بنما للقهوة المتميزة بالانضمام إلى غيره من مزارعي البن بالمنطقة وتنظيم مسابقة "أفضل ما تجود به بنما".
وفي عام 2004 وصلت الرابطة لمنعطف هام بعثور مزرعة تديرها أسرة أخرى تدعى مزرعة "هاسييندا لاإزميرالدا" على شتلة بن نادرة تدعى "غيشا". وتفرد بن "غيشا" خلال مسابقة ذاك العام، إذ بيع بـ21 دولارا للرطل وكان رقما قياسيا في حينه. وسرعان ما سعت مزارع أخرى، منها مزرعة لاماستوس، لزراعة تلك الشتلة.
ويعود الاسم الثاني إلى إقليم "غيشا" الإثيوبي منبت الشتلة في ثلاثينيات القرن الماضي. ووصلت تلك الحبوب إلى مركز بحثي في كوستاريكا في الستينيات، ومنها إلى بنما. حينها وجد المزارعون أن الشتلة قوية ومقاومة للآفات، لكنها شحيحة المحصول وقهوتها ليست جيدة المذاق.
ولم يعرها كثيرون التفاتا على مدار سنوات طويلة، حتى اكتشفتها أسرة بيترسون من مزرعة "هاسييندا لاإزميرالدا" بالصدفة خلال تفقد المزرعة، حيث وجدوا أنها اكتسبت مذاقا فريدا بزراعتها على ارتفاعات أعلى.
يقول راينهارت: "قد تمر حياتك كلها ولا تجد نكهة أو نكهتين (بالزهور أو الفاكهة) معا في بن شديد التميز، أما بن غيشا فيحتوي على سيمفونية كاملة من تلك النكهات الطبيعية".
اشترت أسرة لاماستوس أول بذور لتلك الشتلة وزرعتها في عام 2006، ومرت ثمان سنوات كاملة - وهي الفترة الأطول من أغلب أنواع البن الأخرى - قبل حصد المحصول. وكانت الشجيرات صعبة الاستزراع، إذ يشير لاماستوس إلى أن خُمْسها تقريبا قد مات خلال نقله من المشتل إلى التربة، ومات عدد آخر بسبب التعرض للعوامل الجوية الصعبة والارتفاع الكبير عن سطح البحر.
لكن لاماستوس يقول إن هناك أمورا أخرى ساعدتهم مثل جودة التربة البركانية التي تتمتع بها المزرعة والأجواء الفريدة المرتفعة والتوسط بين البحر الكاريبي والمحيط الهادي. ويستلزم قطف الحبوب ومعالجتها عناية بالغة للحفاظ على مذاق البن. واليوم خُصص نحو 20 في المئة من المزرعة الممتدة على مساحة 65 هكتارا لبن غيشا، وتخطط الأسرة لزيادة المساحة المخصصة لذلك.
وفي عام 2018، فاز بن "إليدا غيشا" لأسرة لاماستوس في فئته، كما فازت الأسرة مرتين هذا العام عن بن "إليدا غيشا الطبيعي" و"إليدا غيشا المغسول". وسيقام مزاد البن على شبكة الإنترنت- بمئة رطل لكل منهما - منتصف يوليو/تموز القادم.
وكان مايكل بيري، مشتري البن من "كلاتش كوفي"، أحد أعضاء لجنة التحكيم العام الماضي بمسابقة "أفضل ما تجود به بنما"، في إطار لجنة دولية تذوق أعضاؤها القهوة معصوبي الأعين ليمنحوا كل نوع تقييما أقصاه 100 درجة. وقد منح بيري قهوة بن "إليدا غيشا" الطبيعي 97 درجة.
يقول بيري: "كان أفضل فنجان تذوقته في حياتي".
ولاحقا انضم بيري لمجموعة من المشترين، منهم بلاك غولد من تايوان، في مزاد على البن. واستمر مزاد البن على شبكة الإنترنت حتى ساعة متأخرة لاختلاف التوقيت، لكن بيري لم يخلد للنوم إلا بعد التأكد من رسو العطاء على مجموعته واقتناص القهوة الفائزة.
وقدر بيري التكلفة النهائية بنحو ألف دولار للرطل، بحيث ينتج كل رطل حوالي ثمانين فنجانا من القهوة. وأحال مقهى "كلاتش كوفي" احتساء تلك القهوة إلى تجربة فريدة في مناسبات خاصة يدفع فيها الزبائن مقابل ارتشاف قهوة نادرة وفريدة من نوعها من جهة، والاطلاع على أصل تلك القهوة وتاريخها من جهة أخرى.
تقول هيذر بيري، نائبة رئيس شركة "كلاتش" ورئيسة الرابطة الأمريكية للقهوة المتميزة: "حتى من يدفعون لاحتساء تلك القهوة لا يعرفون تحديدا السبب وراء ثمنها الباهظ، لذا وجب أن نضع الأمر لهم في سياقه".
وكان دانيال وولش أحد زبائن الشركة ممن دفعوا مقابل تذوق فنجان من تلك القهوة الفريدة. يعمل وولش بصناعة المشروبات ويصف نفسه بأنه من ذواقة القهوة، فقد دأب على اصطحاب مطحنته خلال سفره لطحن البن المفضل لديه وعمل قهوته بنفسه كما اعتاد كل صباح.
يقول وولش: "طبعا لا يدفع المرء 75 دولارا للفنجان كل يوم، لكننا نشتري النبيذ الفاخر والويسكي المعتق ونبذل الغالي والنفيس لاقتناء ساعات وأحذية نرتديها مرة ثم ننساها. أنا عاشق للقهوة ولا مانع عندي من أن أدفع في سبيل تذوق الجديد منها".
وقد تذوق وولش الجديد وتمتع بنفحات من الفاكهة والزهور المتغلغلة في حبات تلك القهوة بشكل غير عادي. ولم يندم بعد ذلك على شرائه تلك القهوة التي تختلف حسبما يقول "عما سواها من قهوة".