أصيل سارية- Vice
"بعد طول انتظار لحصتنا من المساعدات الطبية، حصلنا أخيرًا عليها وقد أوشكت فترة صلاحيتها على الانتهاء بدرجة لا يمكن معها استعمالها بشكل آمن".. بادرنا علي موسى (40 عامًا) بهذه العبارة، خلال حديثه عن معاناته المضنية في انتظار استلام حصة عائلته من المساعدات الطبية التي سجل بياناتهم في قوائم مستحقيها لدى العديد من المنظمات الاغاثية الدولية والمحلية، لعدم وجود بديل آخر في ظل الحرب المستعرة في اليمن منذ 4 سنوات.
يسترسل موسى بنبرة حزينة: "ما جدوى توصيل أدوية منتهية الصلاحية من الأساس، هل هو مجرد إثبات موقف بغض الطرف عن سلامتها، أو ملائمتها للحالات الطبية التي يصنف جانب ليس بالقليل منها بـ(الحرج)، جراء تدني مستوى الخدمات الطبية ونقص الأدوية، أم أن وراء الأمر إهمال أو فساد طال حتى المنظمات الإغاثية الدولية؟".
صادفنا خلال رحلتنا للبحث وراء القضية قصص كثير مشابهة لما رواه علي موسى، تلقى أصحابها مساعدات إما فاسدة أو منتهية الصلاحية، "ما يجعلها والعدم سواء" حد قول أصحابها، فتحصلهم على مواد غذائية أو أدوية غير صالحة للاستخدام الآدمي يجعلها بلا فائدة، بل ويمكن أن يزيد من معاناتهم بمضاعفات صحية مميتة، في ظل تردي المنظومة الصحية في البلاد.
لم يشفع لليمنيين ضنك العيش الذي بات لسان حالهم بعد أربعِ سنوات عجاف تمر بها بلادهم جراء الحرب والوضع الاقتصادي المتدهور، ليعاني اليمنيين أزمة انسانية أصبح معها أكثر من ثلثي السكان بحاجة ملحة إلى مساعدات عاجلة لإنقاذ من الموت جوعًا ومرضًا. زاد من معاناتهم وصول المساعدات الإغاثية التي تتولاها منظمات دولية، بعضها تابع للأمم المتحدة، فاسدة أو منتهية الصلاحية، لتضاعف من معاناتهم مع الحرب والمرض والجوع.
عبدالله علي (44 عامًا)، أحد أبناء مديرية التحيتا بمحافظة الحديدة (220 كيلو غرب العاصمة صنعاء)، أخبرنا أنه قبل نزوحه إلى المحويت (80 كيلو غرب صنعاء) تلقى ولمرة واحدة مساعدات إنسانية من إحدى المنظمات الإغاثية منذ قيام الحرب، على الرغم من أنه يعيل أسرة من زوجة وثلاثة أبناء؛ إلا أنه تلقى في المرة الوحيدة مساعدات كان بينها أسماك معلبة (تونة)، وبسكويت، ودقيق (طحين) منتهي الصلاحية وغير صالح للاستخدام، حتى رائحته كانت كريهة، على حد وصفه.
طوال خمسة أشهر تحققنا من الوقائع، وقابلنا عشرات المتضررين، بالإضافة إلى مصادر رسمية، وحصلنا كذلك على صور ووثائق تثبت تدفق كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية غير المطابقة للمواصفات إلى اليمن عبر منظمات دولية.
منذ أربع سنوات يعيش اليمنيين حرب لم تتوقف ولا يبدو أنها في طريقها إلى ذلك قريبًا. وحسب تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش في 2018، فإن أكثر من 8 ملايين شخص في اليمن يواجهون شبح المجاعة، بالإضافة لنحو مليون آخرين يعانون من سوء التغذية الشديد بسبب النزاع المسلح في البلاد. واتهم التقرير جميع الأطراف المتحاربة، جماعة الحوثيين من جانب، والقوات الحكومية المدعومة من التحالف العربي علي الجانب الآخر، بعرقلة وصول المساعدات لمستحقيها، عبر فرض قيود على المنافذ الحدودية وإغلاق الطرق، كما تعرض المنظمات العاملة في اليمن والعاملين فيها للقتل والاختطاف.
تدفقت مساعدات إنسانية كبيرة على اليمن من بداية الحرب في العام 2015، عبر مينائي الحديدة وعدن، وكان آخرها حصول اليمن على أكثر من ملياري دولار في مؤتمر المانحين الذي عقد في السويد نهاية فبراير 2019، لمواجهة الاحتياجات الإنسانية الملحة والمتزايدة في المناطق المنكوبة.
ومع تفاقم الوضع الأمني بات نحو ثلثي سكان اليمن بحاجة ملحة إلى مساعدات عاجلة لإنقاذ من الموت جوعًا ومرضًا، وهو ما تولت مسؤوليته منظمات الإغاثة الدولية والمحلية، لكننا حصلنا على صور وتقارير تثبت دخول مساعدات إنسانية للبلاد عبر منظمات دولية ومحلية، منتهية الصلاحية أو غير مطابقة للمواصفات، بغرض توزيعها على المستفيدين. وتثبت هذه التقارير الصادرة عن هيئة المواصفات والمقاييس اليمنية في صنعاء، وصول كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية مقدمة من برنامج الغذاء العالمي، القمح على وجه الخصوص الغير مطابقة للمواصفات وغير صالحة للاستخدام الآدمي، بحسب فحوصات مخبرية.
تقارير الفحوص المخبرية لعينات القمح
بعد حصولنا على التقارير انطلقنا في عملية بحث أعمق للوصول إلى أشخاص تلقوا هذه المساعدات، من بينهم فاطمة علي (40 عامًا) من منطقة بني سعد بمحافظة المحويت. تقول فاطمة إنها في مطلع العام 2019 تسلمت أغذية شارفت على الانتهاء (ثلاثة أيام فقط على تاريخ انتهائها). تضيف السيدة الأربعينية أنها وابنتيها الاثنتين كانتا بحاجة لتلك الأغذية، ولم يكن أمامهم سوى تناولها أو الموت جوعًا، فكان خيارهم بتناول هذه الأغذية شبه المنتهية، مع ما يمثله ذلك من خطر على صحتهم وسلامتهم، لكنهم اعتبروه خطر بعيد في مقابل الخطر القريب المتمثل في الموت جوعًا. إلى جانب فاطمة تحدثنا مع أكثر من 35 شخصًا حصلوا على مساعدات غير صالحة للاستخدام ما بين أدوية ومواد غذائية وألبان أطفال من مختلف محافظات اليمن شمالًا وجنوبًا.
قبلة المساعدات
تدفقت على اليمن مساعدات إنسانية كبيرة من بداية الحرب في العام 2015 حتى اليوم، عبر ميناء الحديدة على الساحل الغربي لليمن، والواقع تحت سيطرة الحوثيين، وميناء عدن التابع للحكومة الشرعية، وكان آخرها حصول اليمن على أكثر من ملياري دولار في مؤتمر المانحين الذي عقد في السويد نهاية فبراير 2019، لمواجهة الاحتياجات الإنسانية الملحة والمتزايدة في المناطق المنكوبة.
وعبر معلومات حصلنا عليها من مركز أريج للأبحاث التابع لشبكة أريج للصحافة الاستقصائية؛ فإن إجمالي المساعدات التي دخلت اليمن تجاوزت أكثر ملياري ونصف المليار دولار في العام 2018 من خلال مجموعة من الدول في مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بزيادة مليار دولار عن العام 2017، وعبر منظمات الأمم المتحدة المختلفة تقدم أغلب هذه المساعدات، أو بطريق مباشر عبر المانحين أنفسهم، كما تفعل دولة الإمارات عبر الهلال الأحمر الإماراتي، ومركز الملك سلمان للإغاثة الإنسانية التابع للمملكة العربية السعودية.
خلّفَ الوضع في اليمن أكثر من 3 ملايين نازح، وفقًا لتقارير مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أجبرتهم الحرب على ترك منازلهم، والبحث عن ملاذ آمن، والاعتماد على ما تقدمه لهم المنظمات الدولية والمحلية من وقت لآخر.
الدكتورة مكية الأسلمي، مديرة المركز الصحي بمديرية اسلم التابعة لمحافظة حجة (شمال العاصمة صنعاء)، أكدت وجود شكاوى من نازحين في نفس المنطقة بأنهم تسلموا قمحًا أسود وغير صالح للاستخدام، بعد توزيعه من قبل برنامج الغذاء العالمي. وقالت الأسلمي أن الشكاوي تضمنت الإشارة إلى أن القمح الذي يتضمن في كثير من الأحيان نخالة بنسبة تصل إلى نصف الكميات التي يتم تسليمها (الحصص)، وأن هذه النخالة تتضمن قشريات قد تؤدي لمضاعفات صحية، حسب إفادتها. وأشارت الدكتورة مكية إلى أنه في أحيان كثيرة يأتي القمح - محل الشكاوى - في أكياس مدون عليها أنه صالح لمدة تسعة أشهر من تاريخ الإنتاج، دون أن يكون هناك تاريخ إنتاج من الأساس.
أرسلت جمعية حماية المستهلك اليمنية رسالة إلى ممثل برنامج الغذاء العالمي، للاستفسار عن ضبط باخرة مليئة بالقمح الفاسد والمتعفن قبل تفريغها بميناء عدن لتوزيعها علي المستحقين، كما وجهت جمعية المستهلك العالمية رسالة أخرى إلى البرنامج تتضمن استفسارات عن شرائهم مساعدات منتهية الصلاحية.
دفعنا حديث الدكتورة مكية للتجول في بعض مخيمات النازحين المنتشرة في معظم المدن اليمنية والاستماع إلى شهاداتهم فالتقينا فاطمة أحمد، إحدى النازحات في مديرية اسلم بمحافظة حجة، والتي قالت أنها تسلمت عدة مرات قمح مُقدم من برنامج الغذاء العالمي بشكل وجودة مختلفين في كل مرة: "في إحدى المرات تسلمنا قمح أبيض، والأخرى تسلمنا قمح لونه أسود ورائحته كريهة." وأوضحت فاطمة أنه لم يكن لديها وعائلتها أي خيار سوى تناوله، على الرغم من لونه الغريب وطعمه شديد المرارة، لعدم وجود بديل.
نخالة وحشرات في القمح المقدم كمساعدات إنسانية لسكان مخيمات النزوح باليمن
في المقابل اتخذ عبدالله عدالي (45 عامًا)، قرارًا مغايرًا، بعد تفكير طويل، إذ ألقي بالمساعدات التي تلقاها في القمامة، على ما يمثله ذلك من مجازفة في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها. يقول عبدالله: "النزوح ليس بالأمر السهل، وعندما تضطرك الظروف إلى هذه الخطوة، لا يصبح أمامك إلا العيش على ما تقدمه المنظمات الإغاثية، لكن ذلك لا يعني أن تقبل بمواد غير صالحة للاستخدام." ويتابع عدالي: "لم يكن قرارًا سهلًا، لكنني حسمته في النهاية، مواد غذائية تسد جوع أبنائي وتعرضهم لمخاطر صحية، أم جوع أصبحنا متعايشين معه؟ اخترت الحفاظ على صحة أبنائي وحمايتهم من أي مشاكل صحية في مثل هذه الظروف".
رد برنامج الغذاء العالمي بعد 11 يومًا على رسالة الجمعية العالمية، بالتأكيد على أنهم حريصون على تقديم مساعدات وفقًا لمواصفات قياسية، وبأعلى جودة، وأن حالات رفض دخول الأغذية التابعة للبرنامج متعلقة بتضرر العبوات خلال النقل، وتجاهل البرنامج الرد على رسالة جمعية حماية المستهلك اليمنية.
توزيع متعمد
"تلجأ بعض المنظمات الدولية في اليمن إلى توزيع المساعدات منتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستخدام، مع علمهم المسبق أنها لا تصلح، يقول ص. ع، أحد المتطوعين في منظمة إغاثة محلية بمحافظة صنعاء، بعد أن تعهدنا له بعدم الكشف عن شخصيته، أن هناك مساعدات تابعة لمنظمة الاغاثة الإسلامية وصلت إلى إحدى المخازن وقد بدأت تتعفن وبدلاً من أن يتم اتلافها كانت المنظمة المحلية وبعلم من منظمة الاغاثة الاسلامية تتهيأ لتوزيعها على المواطنين في منطقة خولان جنوب صنعاء و منطقة بني الحارث احدى مديريات العاصمة صنعاء.
في العام 2017 أرسلت جمعية حماية المستهلك اليمنية رسالة إلى ممثل برنامج الغذاء العالمي، تتضمن استفسارًا عن ضبط باخرة تحمل اسم "إمبريال" مليئة بالقمح الفاسد والمتعفن كانت على وشك التفريغ في ميناء عدن لتوزيعها على المحافظات الخاضعة لسيطرة الشرعية والحوثيين، كما وجهت جمعية المستهلك العالمية رسالة أخرى إلى البرنامج تتضمن استفسارات عن شرائهم مساعدات منتهية الصلاحية، كما هو موضح في الرسالة.
رسالة جمعية حماية المستهلك اليمنية
وكان رد برنامج الغذاء العالمي الذي جاء بعد 11 يومًا من رسالة الجمعية العالمية، أنهم حريصون على تقديم مساعدات وفقًا لمواصفات قياسية، وبأعلى جودة، وأن حالات رفض دخول الأغذية التابعة للبرنامج متعلقة بتضرر العبوات خلال النقل. وتجاهل البرنامج الرد على رسالة جمعية حماية المستهلك اليمنية، حسب مديرها الدكتور فضل منصور، الذي أكد كذلك تجاهل استفسارات الجمعية اليمنية في بيان صحفي أصدره برنامج الغذاء العالمي لاحقًا بالتفاصيل ذاتها الذي ذكرت في رسالته لجمعية المستهلك العالمية.
رد برنامج الغذاء العالمي
وعلق الدكتور فضل منصور، رئيس جمعية حماية المستهلك اليمنية، على تبرير برنامج الغذاء العالمي في تصريح لـ"VICE عربية" بالقول: "من المؤسف عدم التزام المنظمات الدولية بالمعايير والمواصفات القياسية فيما يتعلق بالشراء، وتاريخ الإنتاج والانتهاء، وطرق النقل والتخزين وفقًا للاشتراطات الفنية والصحية؛ فمعظم المساعدات تأتي قريبة الانتهاء وتُخزن بمخازن غير مؤهلة ولا تتوفر فيها أدنى الاشتراطات مما يعرضها للتلف. على الجانب الآخر، حاولنا التواصل مع مسؤولي برنامج الغذاء العالمي للحصول على ردهم أكثر من مرة دون استجابة من جانبهم.
اتهم برنامج الغذاء العالمي جماعة أنصار الله "الحوثيون" بسرقة المساعدات الإنسانية المقدمة من قبلهم لمستحقيها. ودعا البرنامج إلى الحد من التلاعب بالمساعدات الإنسانية، ودعا ديفيد بيزلي، مدير البرنامج، الحوثيين إلى إيصال الطعام لمن يحتاجونه واصفًا ما يقومون به بـ"سرقة الطعام من أفواه الجائعين".
كما حاولنا التواصل مع هيئة المواصفات والمقاييس في صنعاء لنطرح عليهم تساؤلاتنا عن آليات فحص المساعدات ورفضها؛ إلا أننا لم نجد منهم أي تجاوب، فاتجهنا إلى هيئة المواصفات والمقاييس في مدينة عدن، جنوب اليمن، والتي اتخذتها حكومة الرئيس عبدالربة منصور هادي - المعترف به دوليًا - عاصمة مؤقتة. التقينا بمدير عام الهيئة، المهندس حديد الماس، الذي أكد لنا أنه يتم إتلاف مساعدات إنسانية بشكل مستمر للأسباب ذاتها: "نضطر إلى إتلاف شحنات يوميًا وبشكل مستمر، ونرفض ونمنع دخول أي مواد لا تتوافق مع المعايير والشروط اللازمة للجودة، من المواد الغذائية والصناعية، وبعضها تكون شحنات فاسدة او تلفت بسبب سوء التخزين، ولا نتردد أبدًا في إتلاف المواد التي يتم تصنيفها بأنها غير صالحة للاستخدام الآدمي".
عينات من القمح المضبوطة
ويضيف المهندس الماس: "في الحقيقة أن البرامج الإغاثية هي برامج تحاول مساعدة اليمنيين في ظل الحرب التي شنها (الانقلابين الحوثيين) ونحن صادفنا مثل تلك المواقف بحيث أن بعض المواد تتعرض للتلف بسبب الرطوبة في البواخر أو تتعرض للطفش البحري أثناء النقل، وبعضها تصل وقد أصبح تاريخ صلاحيتها أو عمرها الافتراضي على وشك الانتهاء، ولا يوجد وقت كافي لنقلها وتوزيعها. نحن في هيئة المواصفات والمقاييس نحرص على تعجيل التعامل مع البرامج الغذائية ونقوم بشكل مباشر بالإشراف على المواد الإغاثية وفرزها واستخراج المواد الصالحة وغير الصالحة منها".
وقد اتهم برنامج الغذاء العالمي في السابق جماعة أنصار الله "الحوثيون" بسرقة المساعدات الإنسانية المقدمة من قبلهم لمستحقيها. وفي بيان بتاريخ 1 يناير 2019، دعا البرنامج إلى الحد من التلاعب بالمساعدات الإنسانية، متهمًا منظمات تابعة للحوثيين بالتلاعب بالمساعدات الإنسانية، ودعا ديفيد بيزلي، مدير برنامج الغذاء العالمي، الحوثيون إلى إيصال الطعام لمن يحتاجونه واصفًا ما يقومون به بـ"سرقة الطعام من أفواه الجائعين".
مواد غذائية تابعة لبرنامج الغذاء العالمي ملقاه بإهمال في الحديدة لعدم صلاحيتها للاستهلاك الآدمي
وتكرر اتهام الحوثيون بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها في تقرير خبراء الأمم المتحدة للعام 2018.، لكن محمد علي الحوثي، رئيس اللجان الثورية العليا للحوثيون، رد من جانبه عبر تغريدات في حسابه على تويتر بأن هناك كميات كبيرة من المساعدات الانسانية الفاسدة التي أدخلتها منظمات الأمم المتحدة. و دعا الحوثي إلى تحقيق مستقل لإثبات اتهامات برنامج الغذاء العالمي، وطالب بصرف مساعدات مالية مباشرة بدلًا من المواد الغذائية.
أدوية منتهية الصلاحية
لا يقتصر الأمر على المواد الغذائية، بل تجاوز ذلك ليشمل أدوية ومستلزمات صحية، وبسبب إغلاق المنافذ البحرية والجوية التي كانت بوابة عبور الأدوية لليمن، أصبح الاعتماد أكثر على ما تقدمه المنظمات الدولية من أدوية لتقديمها لمن يحتاجها. وخلال حديثنا مع الدكتورة مكية الاسلمي، مدير المركز الصحي في مديرية أسلم، قالت "إنه في بداية العام 2019 وزع برنامج الغذاء العالمي خليط صويا مخصص للأمهات الحوامل والمرضعات رغم انتهاء صلاحيته. وجدنا في الخليط مسوس ولونه ورائحته وطعمه كانا متغيرين، إضافة إلى توزيع فاصوليا مسوسة أو فاسدة وذات رائحة كريهة، وكأنها ناتج شحوم."
في مديرية عبس بمحافظة حجة التقينا علي موسى، وهو أب لثلاثة أطفال، ليحكي ما حدث معه حيث يقول: "في مطلع نوفمبر 2018 قام فريق ميداني لـ منظمة لإنقاذ الطفل Save The Children البريطانية بجولة ميدانية وقاموا بتوزيع كمية كبيرة من دواء Plumpy doz الخاص بعلاج سوء التغذية عن الأطفال، وحصل كل طفل من المنطقة على ثلاثة أو أربعة عبوات من ذلك الدواء، راجعت الأدوية لأفاجأ بأنه متبقي على انتهاء صلاحيتها ثلاثة أيام فقط، وأنا أعلم بأن الأدوية لا توزع أم يتم تداولها إذا ما كان تاريخ انتهاء صلاحيتها قريب الانتهاء، وأنا اتحدث هنا عن أشهر وليس أيام معدودة، خاصة وإن كانت مخصصة للعمل الإغاثي في بلد مثل اليمن الذي يعاني من نقص التجهيزات الطبية من الأساس، ما يصعب معه علاج آثار تناول الأدوية حال كانت فاسدة أو منتهية الصلاحية".
وسبق للهيئة العليا للأدوية في صنعاء أن قامت بتحريز وضبط مجموعة من الشحنات الطبية المقدمة من العديد من المنظمات الدولية من ضمنها Save The Children في أكتوبر من العام 2018 كانت على وشك التوزيع بالرغم من عدم مطابقتها للشروط التي حددتها وزارة الصحة.
تكشف وثيقة رسمية حصلنا عليه، وتنشر لأول مرة، عن إتلاف أدوية منتهية الصلاحية للمنظمة ذاتها كانت في طريقها للتوزيع على مجموعة من المستفيدين. ووفقًا للوثيقة التي تتضمن محضر إتلاف وقائمة الأدوية غير الصالحة للاستخدام، فإن عملية الإتلاف تمت بحضور مندوب عن المنظمة في صنعاء. وتحدد وزارة الصحة العامة والسكان اليمنية مجموعة من الشروط لتقديم المساعدات الطبية من قبل المنظمات الدولية والدول كمساعدات إنسانية، ويأتي الشرط الخاص بتاريخ الانتهاء في مقدمتها حيث يجب ألا يتجاوز ثُلثي المدة من تاريخ إنتاجه.
توجهنا للهيئة العليا للأدوية في صنعاء والتقينا رئيسها الدكتور محمد المداني، لنطرح عليه السؤال الأهم: كيف وصلت هذه الأدوية إلى المواطنين بالرغم من الإجراءات المنظمة لعملها، فأكد أن هناك مجموعة من الشروط والتي تم تعميمها على المنظمات التي تقدم الأدوية كمساعدات، وأن دور الهيئة "فني" ويجب أن تكون هناك قائمة تحليل وتعبئة من قبل الشركة المصنعة لنتأكد أنها مرت بالعمليات الفنية المناسبة من قبل هذه الشركات. وأضاف: "على رأس الاشتراطات أن لا تقل فترة صلاحية الأدوية عن ثلثي المدة من تاريخ الإنتاج، وما دون ذلك يتم رفضه تمامًا، وبعض المنظمات للأسف كان تخزينها سيء في جيبوتي. وتصل إلى مطار صنعاء بعد ما كان يتم حجزها لعدم الصلاحية أو مخالفة الاشتراطات، وكان يتم مخاطبة المنظمات بذلك."
وأكد الدكتور المداني أن هناك ثلاث شحنات كبيرة من الأدوية تم ضبطها وإتلافها في ميناء الحديدة خلال عامي 2017 و2018: "هناك شحنات لا تزال حتى الآن محجوزة لمنظمات ننتظر الموافقة على إتلافها من وزارة الصحة لأنها منتهية وغير مطابقة للشروط، وهنا نطالب المنظمات أن تلتزم بالشروط والإجراءات كون الأدوية حق إنساني في ظروف صعبة، وأن لا تقدم إلا أدوية مطابقة للتعليمات والشروط."
أين الرقابة؟
يقول مصطفى نصر، رئيس مركز الإعلام الاقتصادي، أن هناك قصور في عمل المؤسسات الرقابية وتحول في أحيان كثيرة إلى ابتزاز وتبادل مصالح، حيث كان يكفي أن تكشف حالة فساد واحدة أو صفقة منتهية الصلاحية كي يتم التحقيق فيها، ولكن هناك هشاشة وضعف كبير في أداء المؤسسات الحكومية التي قد تتفق على صفقات مشتركة مع هذه المنظمات. وتقول المنظمات الدولية أنها تتعاقد مع منظمات للرقابة على عملها في البلدان التي تعمل فيها لكن وللأسف لم نرى أي تطبيق عملي لذلك في بلد يستحوذ على الجانب الأكبر من أعمال المنظمات الدولية في العالم خلال السنوات الأخيرة: "على العكس، يتم التغطية على فضائح من هذا النوع أحيانًا، بطريقة تحمي مصالح المنظمات العاملة في اليمن، والتي من المفترض أن تتم الرقابة عليها بشكل مباشر".
قررنا مواجهة برنامج الغذاء العالمي بما توصلنا إليه من شهادات وصور ووثائق، وحصلنا على موافقة لإجراء مقابلة مباشرة مع مسؤولي البرنامج في اليمن، وكنا في انتظار تحديد الموعد تصلنا رسالة بأنهم لا يستطيعون إجراء اللقاء، وأن علينا إرسال الأسئلة عبر البريد الإلكتروني، وهو ما حدث، أرسلنا أسئلتنا وجاءتنا الإجابة بعد أيام.
وكان رد مسؤولي البرنامج أن: "برنامج الغذاء العالمي يتعامل مع مسألة سلامة المواد الغذائية بمنتهى الجدية من خلال التزامه بأعلى المعايير الدولية في هذا الشأن، حيث نعمل في 80 بلدًا حول العالم وفق لوائح صارمة لضمان استيفاء كافة السلع الغذائية التي نقدمها لأعلى معايير السلامة الغذائية. وأن البرنامج يعمل على توزيع "أكثر من ( 100 ألف طن) من المساعدات الغذائية شهريًا على الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد. وبالتالي، فإن عملية نقل هذه الكمية من المواد الغذائية إلى كافة أنحاء البلاد، لاسيما في ظل استمرار الصراع المسلح ومحدودية البنى التحتية المتاحة وارتفاع درجة والرطوبة في كثير من الأحيان، تمثل تحديًا لوجستيًا كبيرًا أمام البرنامج".
وأضاف مسؤولي برنامج الغذاء العالمي في ردهم، إنه "من حين لآخر، تبقى المواد الغذائية التابعة للبرنامج في المخازن أو على متن الشاحنات لفترات أطول مما ينبغي نتيجة للتأخر في الحصول على التراخيص اللازمة من قبل السلطات، أو لعدم تمكن البرنامج من الوصول إلى المجتمعات المستهدفة، الأمر الذي من شأنه إلحاق الضرر بجودة هذه المواد، ونظرًا لأن الغذاء يعتبر من السلع الأكثر عرضة للتلف، فإننا نناشد كافة السلطات المعنية بالعمل على كل ما من شأنه تسهيل عمل البرنامج وضمان وصوله إلى كافة المجتمعات المحلية المستهدفة في اليمن ومن دون عوائق، حتى نتمكن من إيصال المساعدات الغذائية إلى الأشخاص المحتاجين وهي في أحسن حالاتها."
تتناقض الحقائق التي توصلنا إليها مع رد برنامج الغذاء العالمي، حيث أن أغلب الصور والشهادات التي حصلنا عليها تؤكد أن معظم الشحنات تم إتلافها في الميناء، ما يؤكد أنها تم وصلت إلى الموانئ وهي إما منتهية الصلاحية او فاسدة. وتثبت الوثائق التي حصلنا عليها والتي تنشر لأول مرة أن هذه المواد في الأساس غير مطابقة للمواصفات حتى وإن لم تتعرض للتلف او التخزين، حيث تشير إجمالي التقارير أن المواد التي تم فحصها لدى وصولها كانت غير مطابقة للمواصفات القياسية وهي مشارفة على الانتهاء.
وثيقة تتضمن كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية التي تم إتلافها لعدم صلاحيتها للاستهلاك الآدمي
وثيقة الرفض رقم 84/4 الصادرة من هيئة المواصفات والمقاييس من صنعاء بتاريخ 2-2-2016 تؤكد رفض باخرة قمح أحمر مقدمة من برنامج الغذاء العالمي باعتبارها غير صالحة للاستخدام الآدمي، وفي تقرير رقم 169 صادر من إدارة ضبط الجودة بهيئة المقاييس بصنعاء بتاريخ 30-12-2018 بعد فحص عينة دقيق أحمر، والتي تبين أنها غير مطابقة للمواصفات المعتمدة. وفي عدن وبتاريخ 12-8-2018 ووفقًا للكشف المرفق رفضت هيئة المواصفات والمقاييس إدخال شحنة قمح أبيض من الميناء نتيجة سوء التخزين ووجود حشرات في أكياس القمح مما يجعلها غير صالحة للاستخدام، وفي نفس الكشف بتاريخ 31-7-2018 رفضت الهيئة في عدن إدخال شحنة دقيق قمح إلى عدن بسبب وجود تكتلات فطرية في بعض الأكياس ومخلفات غير نباتية.
الدكتور فضل منصور يتفق مع رد برنامج الغذاء العالمي جزئيًا، إذ قال إن ما جاء في الرد واحد من الأسباب التي تؤدي إلى تلف الأغذية: "إننا نجزم أن السبب الرئيس هو شراء كميات من الأغذية قريبة الانتهاء وشحنها لليمن ببواخر غير صالحة لنقل مثل هذه السلع، بل أصبحت خارجة عن الخدمة ويتم استئجارها كونها رخيصة للاستفادة من فوارق أجور النقل البحري". لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن التخزين السيئ للمواد الغذائية في مخازن غير مؤهلة أو لا تتوفر فيها الاشتراطات الصحية والفنية للتخزين سبب رئيسي في تعرضها للتلف. ويتابع: "لو أن البرنامج رجع إلى المواصفات الدولية والمواصفات القياسية اليمنية والتي تمنع السماح بدخول أي منتج يتجاوز نصف مدة صلاحيته لتجنب الخسائر التي تتعرض له السلع وتعتبر خسارة تخصم من إجمالي المساعدات التي تقدم لليمن".
وثيقة رفض شحنة قمح لتكتلها وتعفنها وانبعاث روائح كريهة منها.
وأوضح منصور أن كثير من السلع التي يستوردها البرنامج تصل مينائي الحديدة وعدن وهي منتهية أصلًا وهذا يدل على أنه تم شرائها وقد قاربت على الانتهاء، على حد قوله، ويضرب مثالاً على ذلك بوصول شحنة دقيق إلى ميناء الحديدة يوم 18 مايو 2019 مستوردة من سلطنة عمان التي لا تبعد كثيرًا عن اليمن، لكن على الرغم من ذلك وصلت الكمية بالكامل منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستخدام الآدمي، وتم رفض الشحنة من قبل الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس.
وثيقة رفض شحنة قمح واردة من سلطنة عمان لوجود حشرات ميتة في بعض عبواتها
"نموت بطلقات الرصاص أو بغذاء ودواء قاتل،" هكذا اختتم علي موسي، ذي الأربعين عامًا، كلامه معنا، معبرًا عن لسان حاله وغيره من ملايين اليمينيين الذين ينتظرون مواد إغاثية تساعدهم على العيش في بلد أصبح الموت فيه خبر هامشي كل يوم.