كشف تقرير لوكالة «رويترز» عن كواليس الساعات الأخيرة لسقوط حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي يقبع حالياً في السجن، بعد الإطاحة به من قبل الجيش، عقب احتجاجات شعبية استمرت لأسابيع.
وقال أحد أفراد الدائرة المقربة من البشير، كان من عدد يعد على أصابع اليد الواحدة ممن تحدثوا مع البشير في تلك الساعات الأخيرة، إن الرئيس ذهب لأداء الصلاة. وقال هذا المصدر لرويترز «كان ضباط الجيش في انتظاره عندما أتم صلاته».
أبلغ الضباط البشير أن اللجنة الأمنية العليا المؤلفة من وزير الدفاع وقادة الجيش والمخابرات والشرطة قررت عزله، بعد أن خلصت إلى أنه فقد السيطرة على البلاد.
وتم نقل البشير إلى سجن كوبر بالخرطوم، الذي سبق أن زج فيه بالآلاف من خصومه السياسيين خلال فترة حكمه، ولا يزال فيه حتى الآن.
تدهور العلاقات مع الإمارات في آخر أيام البشير
وكشفت مصادر وكالة «رويترز» كيف أساء البشير إدارة العلاقة المهمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد سبق أن ضخت الإمارات مليارات الدولارات في خزائن السودان.
كان البشير قد خدم مصالح الإمارات في اليمن، حيث تخوض الإمارات والسعودية حرباً بالوكالة على إيران.
إلا أنه في نهاية 2018 ومع تفاقم الوضع الاقتصادي في السودان خرج المحتجون إلى الشوارع، واكتشف البشير أن هذا الصديق القوي والثري ليس بجانبه.
وروت المصادر كيف أن قوش رئيس جهاز الأمن والمخابرات اتصل بمسجونين سياسيين وجماعات معارضة، سعياً للحصول على تأييدها في الأسابيع التي سبقت عزل البشير.
وقالت المصادر إن قوش أجرى في الأيام التي سبقت الانقلاب مكالمة واحدة على الأقل مع مسؤولين في المخابرات الإماراتية، لإخطارهم مسبقاً بالحدث المرتقب.
ولم ترد الحكومتان في الإمارات والسعودية على أسئلة تفصيلية من رويترز عن مضمون هذا التقرير.
رغم الإغراءات المالية التي قدمتها أبوظبي للسودان
كانت العلاقات لا تزال دافئة بين البشير والإمارات، في فبراير/شباط 2017، عندما زار البشير ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد في أبوظبي. وكان حوالي 14 ألف جندي سوداني يقاتلون متمردين متحالفين مع إيران في اليمن تحت راية تحالف عسكري بقيادة السعودية والإمارات.
وقال مصدر رفيع في الحكومة السودانية، أطلعه البشير على ما دار في اللقاء بينهما، إن ولي العهد كان يأمل تعاون البشير الآن في موضوع آخر يتمثل في التضييق على الإسلاميين.
وكانت الإمارات تقود مساعي إقليمية للتصدي للإسلام السياسي، الذي تعتبره هي والسعودية تهديداً مباشراً للحكم الملكي وللمنطقة.
واكتسبت تلك المساعي أهمية أكبر اعتباراً من العام 2011، عندما اجتاحت انتفاضات الربيع العربي الشرق الأوسط. فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تزداد قوة. وتعتبر الإمارات والسعودية الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً. وتقول الجماعة إنها سلمية.
ويقول المسؤول الحكومي الكبير إن البشير والشيخ محمد بن زايد توصلا إلى «تفاهم» يقضي بأن يتخلص البشير من الإسلاميين مقابل دعم مالي تقدمه الإمارات. ولم يذكر البشير كيف ينوي تحقيق ذلك.
وتدفقت مليارات الدولارات من الإمارات على السودان
وذكرت وكالة أنباء الإمارات أن الإمارات حولت للسودان في السنة المنتهية في مارس آذار 2018 ما قيمته 7.6 مليار دولار في صورة دعم للبنك المركزي السوداني واستثمارات خاصة واستثمارات عبر صندوق أبوظبي للتنمية.
وتم تكليف واحد من أوثق مساعدي البشير وهو مدير مكتبه طه عثمان الحسين بتولي أمر علاقات السودان مع الإمارات والسعودية. ويقول زملاء للحسين ضابط المخابرات السابق إنه طموح ومحنك. غير أن نفوذه أثار استياء وزراء في الحكومة اشتكوا من عجزهم عن الاتصال بالبشير إلا عبر الحسين وأنه يتحكم فعليا في السياسة الخارجية.
وفي إحدى المناسبات أصدر إعلانا مهما يتعلق بالسياسة الخارجية لوكالة الأنباء السودانية ووكالة الأنباء السعودية بالالتفاف على وزارة الخارجية.
وقالت قمر هباني أمينة شؤون المرأة بحزب المؤتمر الوطني السوداني الذي كان البشير يتزعمه «كان هو الرجل صاحب القبضة السحرية على عقل البشير».
واتهم الخصوم بمن فيهم رئيس المخابرات حينذاك وساسة كبار الحسين علنا بالتجسس لحساب السعودية. وقالت المخابرات السودانية إن السعودية والإمارات أودعتا 109 ملايين دولار في حساب مصرفي للحسين في دبي.
قبل أن توقف كل أشكال الدعم لنظام عمر البشير
وقال ثلاثة مسؤولين سودانيين إن الإمارات أوقفت في ديسمبر كانون الأول 2018 إمدادات الوقود للسودان لاستيائها من عدم تنفيذ البشير لالتزاماته في الاتفاق الخاص بالتخلص من الإسلاميين.
وقالت هباني «الإمارات والسعودية قررتا عدم دعم البشير ماليا لأنه رفض التخلص من الإسلاميين ولم يذعن للضغوط لدعم السعودية والإمارات في مواجهة قطر». وأضافت «لم تقبلا رفض السودان الانحياز لطرف».
وفي فبراير شباط 2019 بدا وكأن البشير يخطو نحو مصيره المحتوم في اجتماع مع مجلس الشورى السوداني المؤلف من كبار القيادات في البلاد. وكانت الاحتجاجات تنتشر في البلاد على ارتفاع أسعار الخبز. وأعلن البشير انتماءه للحركة الإسلامية وافتخاره بذلك.
وقال المسؤول الحكومي الكبير إن هذه كانت نقطة اللاعودة. كان من الواضح أن البشير لن ينقلب على الإسلاميين.
وخلف الكواليس كانت مؤامرة عزل البشير تتبلور
فقد روى أحد قيادات المعارضة ممن كان ضمن السجناء السياسيين في سجن كوبر المحبوس فيه البشير الآن في الخرطوم كيف ظهر رئيس المخابرات قوش فجأة في السجن في أوائل شهر يناير/كانون الثاني 2019 والتقى بثمانية من شخصيات المعارضة.
وأبلغ قوش السجناء أنه جاء من أبوظبي بوعد من الإمارات لتقديم الوقود ومساعدات اقتصادية أخرى. وطلب من السجناء تأييد خطة عامة من أجل نظام سياسي جديد في السودان. وأكد مصدر وثيق الصلة بقوش هذا الحوار.
وعاد قوش إلى السجن بعد عشرة أيام. وفي تلك المرة زار 26 زنزانة يشغلها سجناء سياسيين.
وقال القيادي المعارض الذي أطلق سراحه الآن هو والآخرون «منذ ذلك الوقت تحسنت الأحوال. وحصل السجناء على سجائر مجانية وعلى جهاز تلفزيون وتبغ للمضغ».
وأضاف «وجدنا الأمر في غاية الغرابة أن يزور رئيس المخابرات السجناء السياسيين. لكن عندما وقع الانقلاب أدركت السبب».
ويقول دبلوماسي غربي كبير في الخرطوم وعضو الدائرة المقربة من البشير والمصدر وثيق الصلة بقوش إن الإمارات وقوش اقترحا في منتصف فبراير شباط مخرجا كريما للرئيس. وكانت تلك الخطة تقضي بأن يظل البشير في السلطة لفترة انتقالية تعقبها انتخابات.
وأعلن قوش في مؤتمر صحفي في 22 فبراير شباط أن البشير سيتنحى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني ولن يسعى لإعادة انتخابه في 2020. إلا أن البشير لم يذكر شيئا في خطاب بثه التلفزيون بعد ذلك بقليل عن الاستقالة من رئاسة الحزب وقال لأعضاء الحزب في اليوم نفسه إن قوش بالغ في الأمر.
وبدأت الخطوات المناهضة للبشير تتسارع
وقال أحد قادة المتمردين ومصدر لعب دورا كوسيط بين الجانبين إن الإمارات أجرت اتصالات بأحزاب المعارضة السودانية والجماعات المتمردة التي شنت حربا على البشير وذلك لبحث «الوضع السياسي في السودان بعد البشير».
وعندما نظم المحتجون اعتصاما خارج وزارة الدفاع على مسافة غير بعيدة عن مقر البشير في السادس من ابريل نيسان لم يفعل جهاز الأمن والمخابرات بقيادة قوش شيئا لمنعهم. وقالت هباني «عندها أدركنا أن الجيش سيستولي على السلطة».
وتواصل قوش مع كبار المسؤولين بمن فيهم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش وقائد الشرطة. واتفقوا على أن الوقت حان لإنهاء حكم البشير. وقال مصدر على صلة وثيقة بقوش إن كل واحد منهم كان يدرك أن «البشير انتهى».
وأكد متحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي الذي يحكم السودان الآن أن قوش لعب دورا رئيسيا.
وكان الفريق أول محمد حمدان دقلو حليف البشير القديم آخر من شاركوا في المؤامرة. ويشتهر دقلو باسم حميدتي الذي أطلقته عليه جدته.
ويقود حميدتي قوات الدعم السريع مرهوبة الجانب وهي قوة شبه عسكرية مدججة بالسلاح ويعد أفرادها بعشرات الآلاف وتسيطر على الخرطوم.
وحُسم مصير البشير وفي الساعات الأولى من صباح 11 ابريل نيسان تم عزله من السلطة.