ابتهال الصالحي- المشاهد
لا غرابة أن ترى شباباً رضعوا حب الوطن، وهم يحملون البندقية في زمن الحرب. فهكذا فعل آباؤهم مطلع الستينيات، دفاعاً عن الثورة الوليدة حينها، وليس هناك أصدق تعبيراً عن تلك المرحلة من تجسيدها في قصة الأديب الكبير محمد عبدالولي، والتي حملت عنوان “الأطفال يشيبون عند الفجر”.
وها هم شباب اليوم يشيخون من جديد، في سبيل صناعة فجر جديد لمواجهة قوى الظلام التي تحاول أن تعيد الليل لتحجب عنهم الصباح المشرق.
هذا بالضبط، ما فعله العشريني مصعب الزكري، عندما غزت جماعة الحوثي مدينته تعز (جنوب غربي اليمن)، مطلع العام 2015، رغم أنه لم يكن يتخيل يوماً، مجرد خيال، أن يحمل البندقية، إلا أنه حملها عند رؤيته أطفال مدينته وهم يُقتلون بوحشية غير مسبوقة، ومن بينهم الطفل فريد الذي صرخ بعد إصابته: “لا تقبروناش”، كما يقول.
ويضيف مصعب: “الطفل فريد كان السبب الرئيسي لانضمامي إلى إحدى جبهات تعز التي تحارب ضد عناصر جماعة الحوثي”.
الالتحاق بالجيش الحكومي
مصعب الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة، لم يدخل مع أحد بشجار، ولا يعرف العنف قلبه منذ الطفولة، لأنه ببساطة يمتلك إحساس فنان، وطالما كان يطمح أن يكمل دراسته بهذا المجال، لكن نداء فريد المتمثل في تعز محبوبته الأولى، جعله يستبدل ريشة الرسم ببندقية الكلاشنكوف، حسب قوله، مضيفاً أنه التحق بالجبهة الشرقية التابعة للجيش الحكومي المدعوم من قيادة التحالف العربي بقيادة السعودية، في حي الجحملية جنوب شرق مدينة تعز، في الثاني من نوفمبر 2015.
وعلى مدى 3 أشهر تعرض مصعب للموت، أكثر من مرة، لكنه كان ينجو بأعجوبة، وفي المرة الأخيرة أدركت قدميه رصاصة قناص حوثي، في 5 يناير 2016، عندما كان مع رفاقه يطهرون إحدى البنايات التي يتمركز بها القناصة.
لم يكن مصعب ليصاب في ذلك اليوم، لولا مسارعته في إسعاف امرأتين أصيبتا برصاص ذات القناص، الذي باشره في قدميه.
أسعف مصعب حينها إلى مستشفى الروضة الخاص، وهناك أجريت له عدة عمليات. حاول فيها الجراحون المتواجدون بالمستشفى، وفق إمكانياتهم المتاحة في مدينة محاصرة من عدة أشهر.. حاولوا التخفيف من آلامه. لكن مفصل ساقه اليسرى قد تأثر كثيراً، ولم يكن علاجه ممكناً في مستشفيات تعز.
3 سنوات من العلاج
بدأت رحلة مصعب الطويلة، والتي لم تنتهِ بعد، في البحث عن العلاج المكلف الذي تحملته أسرته المتوسطة الحال.
كانت البداية من تعز، ثم عدن (جنوب اليمن)، مروراً بجيبوتي وتركيا، حتى وصل إلى الهند، كما يقول، مضيفاً: “إنها رحلة ألم وخوف وهم ينقلونني على حمالة الموتى فوق أكتافهم”. ولدى وصوله إلى الهند وحيداً، واجه صعوبة في اللغة، ونقصاً في المال، الذي كاد يحرمه من العلاج، لكنه لم يستسلم للجرح.
ما جمعته العائلة والأصدقاء من المال، شكل له رافعة أولية، لإجراء عدة عمليات، قبل أن تتكفل هيئة معالجة الجرحى بمحافظة تعز، بعلاج الجرحى.
مرت 3 أعوام من عمر إصابة مصعب، وهو يتابع العلاج بعيداً عن وطنه المنكوب بحرب لا تكاد تنتهي.
العودة إلى الألوان
بعد هذه الرحلة الشاقة مع الألم، حن مصعب لريشة الرسم، وراح يوصل رسالته بالألوان، بدلاً عن الرصاصة، التي كانت سبباً في شقائه وشقاء المئات غيره.
ويعكف مصعب على رسم عدة لوحات لا تخلو من مشاهد الحرب والدمار، بعد أن أيقن أن رسالة الرسم أقوى من فوهة بندقية الكلاشنكوف التي حملها يوماً للدفاع عن أطفال مدينته.
التحق مصعب بعدة دورات قصيرة في الهند، مجتزئاً تكاليفها من نفقة علاجه، عسى أن يحقق حلمه الذي بدأه قبل أن يراد له حمل البندقية.
وشارك مصعب بلوحات فنية وكاريكاتير، تعبر عن حال الشباب الذين خرجوا إلى ساحة الحرية في فبراير 2011، ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
وحصل على المركز الثاني في مسابقة أجريت للرسم في ساحة الحرية، قبل أن يلتحق في معهد الفنون الجميلة بمدينة تعز.
وخلال أعوام دراسته الثلاثة، كان يحصل على المراكز الأول، آملاً في إكمال دراسته في الخارج، كما حدث مع المتفوقين من قبله. لكن الحرب حالت دون تحقيق هذا الحلم، فاستعاض بالدورات القصيرة التي أتيحت له في الهند.