د. أحمد سبيل
معن بن زائدة، سيد من أشراف العرب، قُـتِـل غـيلـةً سنـة 768 م بعد أن بلغ من الجود مبلغاً لا يصدق، حتى لتشعر وأنت تسمع ما يروى عنه وكأنك تصغي إلى أسطورة، ولذلك نعيد الكتابة عنه، بعد أن تناولنا أعاجيبه قبلاً هنا..
كان معن عاملاً على البصرة في أواخر عهد الأمويين، فحضر على بابه شاعر وأقام مدة يريد الدخول فلم يتهيأ له ذلك، فقال يوماً لبعض الخدام: إذا دخل الأمير البستان فعرفوني، فلما دخل أعلموه بذلك، فكتب الشاعر بيتاً نقشه على خشبة، وألقاها في جدول ماء يدخل البستان، وكان معن جالساً على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها وقرأها فإذا فيها هذا البيت:
أيا جودَ معنٍ ناجِ معناً بحاجتي
فليس إلى معنٍ سواك رسولُ
فقال: من صاحب هذه؟ فأتي به إليه، فقال: ماذا قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف، فوضع معن الخشبة تحت بساط، فلما كان في اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط ينظر فيها، ودعا بالرجل، فأمر له بمائة ألف درهم، فلما كان في اليوم الثالث، فعل مثل ذلك، فتفكر الرجل وخاف أن يؤخذ منه ما نال، فخرج من البلد ليلاً بما كان معه، فلما كان في اليوم الرابع طلبه الأمير فلم يوجد، فقال معن: والله هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار إلا أعطيته إياه.
وفيه يقول القائل:
يقولون معنٌ لا زكاةَ لماله
وكيف يزكي المالَ من هو باذله
إذا حال حولٌ لم يكن في دياره
من المال إلا ذكره وجمائله
تراه - إذا ما جئته - متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت آمله
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والبر ساحله
تعوّد بسط الكف حتى لو انه
أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وقيل: كان معن بن زائدة في بعض صيوده، فعطش فلم يجد مع غلمانه ماء، فبينما هو كذلك، فإذا بثلاث جوارٍ قد أقبلن حاملات ثلاث قرب فسقينه، فطلب شيئاً من المال مع غلمانه فلم يجده، فدفع لكل واحدةٍ منهن عشرة أسهم من كنانته، نصولها من ذهب.
فقالت إحداهن: ويلكن لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة، فلتقل كل واحدة منكن شيئاً من الأبيات، فقالت الأولى:
يركّب في السهام نصول تبرٍ
ويرمي للعدا كرماً وجوداً
فللمرضى علاجٌ من جراحٍ
وأكفانٌ لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحاربٍ من فرط جود بنانه
عمت مكارمه الأقارب والعدا
صيغت نصول سهامه من عسجدٍ
كي لا يقصّر في العوارف والندى
وقالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بأسهمٍ
من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجروح عند انقطاعه
ويشتري الأكفان منها قتيلها