بالاب غوش- بي بي سي
أصبح نيل أرمسترونغ من أشهر الشخصيات في تاريخ البشرية.
وعندما عاد من رحلته إلى القمر احتفى به الملوك والرؤساء والزعماء، فاكتسب شهرة عالمية جعلته عند الأمريكيين في مصاف الشخصيات الخارقة التي يشاهدونها في أفلام الخيال العلمي، أو الزعماء مثل الرئيس جون كينيدي.
ولكنه ترك الشهرة والنجومية التي أتته طائعة، وفضل الانزواء عن الحياة العامة.
فلم يكن الناس يعرفون إلا القليل عن هذا الرجل اللغز. ولكننا اليوم بدأنا نتعرف على بعض الجوانب من حياة نيل أرمسترونغ.
يبدو أنه أصبح يميل إلى العزلة. وهذا قد يكون بسبب صدمة أصابته بعد رحلته إلى القمر، لأن الحياة هناك تختلف تماما عن الحياة على الأرض.
ولم يكن يجري حوارات صحفية، وهو ما غذى شائعات بهذا الخصوص أخذت تتكاثر بعد كل احتفال سنوي بوصول الإنسان إلى القمر.
وكنت من بين الصحفيين المحظوظين إذ التقيت، نيل أرمسترونغ، فوجدته أعقل إنسان يمكن أن تقابله.
كنت صحفيا شابا في بي بي سي. وكان يتسلم شهادة شرفية من جامعة كرانفيلد وكلفت بإجراء حوار معه. كنت مرتبكا ومتهيبا بسبب نجومية الرجل. ولكن قابلني بود وابتسام، وهو أول إنسان تطأ قدماه سطح القمر، فبدد مخاوفي وأزال ارتباكي، وراح يرد على جميع أسئلتي بإجابات شافية وافية.
وتفهم أسفي عندما أخبرته عن خيبة أملي بعد إلغاء برنامج أبولو، الذي حطم حلما كان عندي منذ الطفولة أن أسافر إلى الفضاء.
وسألته: ما الذي حدث لحلم فريق أرمسترونغ؟".
فرد علي: "الحلم لا يزال قائما".
كان رده لطفا يهدف من خلاله إلى إيقاد شعلة التفاؤل في نفش شاب يحلم بالهبوط على سطح القمر، أكثر منه ردا على سؤال صحفي.
التقيته مرة ثانية بعد 16 عاما. كان في بريطانيا مع زميليه في برنامج أبولو رائدي الفضاء، جير سيرنن، وجيم لوفل، في إطار جولة عالمية لإحياء الذكرى الأربعين لهبوط الإنسان على سطح القمر.
كلفنا بإجراء حوارات صحفية معهم في فندق متواضع قرب مطار هيثرو في سرية تامة؟
وحجزت غرف رواد الفضاء بأسماء مستعارة. وعندما سألنا موظفي الفندق عن موضوع الحوارات أخبرناهم أنها عن الغولف.
وذركت نيل أرمسترونغ أنني قابلته منذ مدة طويلة، فرد عليه بالابتسامة نفسها وأكد لي أنه يتذكر اللقاء وتحدث عنه بلطف كبير.
تحدثنا قليلا عن الجولة التي يقوم بها، ولكنه اعتذر عن حوار كامل، قائلا إنه لا يريد أن يسرق الأضواء من زميله رائدي الفضاء.
هذه صورة له في شريط وثائقي بعنوان أرمسترونغ بث الجمعة تزامنا مع الذكرى الخمسين للهبوط على سطح القمر.
وجاء ابنه الأصغر مارك وحفيدته كالي، وهما عازفان إلى بي بي سي ليتحدثا لنا عن الشريط.
وعرضنا عليهما صورا التقطتها وكالة ناسا عن الرحلة حتى نحفزهما.
ولاحظت كالي الشبه الكبير بين جدها عندما كان عمره 39 عاما في رحلته إلى القمر ووالدها البالغ اليوم 56 عاما.
وابتسم كلاهما ولم يستطيعا السيطرة على مشاعرهما أمام تلك اللحظات التاريخية العظيمة.
وعلى الرغم من أن مار وكالي يعرفان القصة جيدا، فإنهما تسمرا في مكانيهما يتابعان تفاصيل الصور. فهي أحداث "لا يعفو عليها الزمن".
وراح الوالد وابنته يتابعان خطوات نيل أرمسترونغ وهو يخرج من المركبة القمرية ويطلق كلماته التاريخية: "إنها خطوة إنسان صغيرة، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية".
وقالت كالي وهي تتابع تلك اللحظات التاريخية بعينين مشدوهتين: "أحسنت، يا جدي".
وقال لي مارك إن الشائعات عن ميل والده إلى العزلة وتجنب الناس غير صحيحة.
وأضاف: "أعتقد أن وسائل الإعلام نقلت صورة خاطئة عن والدي". "ولم يكن أبا من النوع الذي يعطي الأوامر دائما. كان بالأحرى مثل الأستاذ الذي يعرض عليك اختيارات ويحضك على التفكير مليا في اتخاذ القرار المناسب، مثلما فعل هو في حياته".
أما كالي فهو بالنسبة لها جدها الذي لا يتحدث كثيرا عن رحلته إلى القمر. ولكنه قال لها ذات مرة إن أكبر تأثير تركته الرحلة في نفسه هو عندما رآى الأرض تطلع على سطح القمر.
فقد نظر في عام 1969 إلى الأرض من الفضاء فوجدها موردا هشا وتمنى أي يحافظ عليه البشر.
والتقيت ابن نيل الأكبر ريك عندما كان في زيارة إلى بريطانيا للمشاركة في احتفالات هبوط الإنسان على سطح القمر. وهو اليوم مهندس برمجيات. يستمع ريك بأنه ابن نيل أرمسترونغ ولكنه يعترف أن عبء الأسطورة ثقيل عليه أحيانا.
ويقول: "كل واحد يتوقع أن يكون تقييمه على أساس كفاءته، ولكن عندما تكون ابن رجل شهير يختلف الأمر".
ويضيف: "أود لو أنني كنت رائد فضاء، وربما لم أسع لذلك حتى لا أقارن بوالدي".
وسألته عن أهم تراث تركه والده فقال: "عندما أتحدث عن التراث لا أتحدث عن والد. أتحدث عن برنامج أبولو وفريق من آلاف الأشخاص ملتزمين بهدف واحد".
عندما تعمل من أجل ذلك الهدف يمكنك أن تحقق إنجازات عظيمة.
"كما أن البرنامج ألهم الكثيرين. فكم من واحد قال لي إنه أصبح عالما أو مهندسا أو طبيبا بفضل ما حدث في الستينيات. وهذا أمر لا يمكن تقديره بثمن".
وبالنسبة لي فإن الإنجاز الأعظم في قصة نيل أرمسترونغ هو أنه أدى دورا في هذا التحول الثقافي العظيم الذي شهدته البشرية. وبكل تواضع اختلى بنفسه ليعيش حياته العادية كاستاذ وموسيقي وأب ومهندس، وهذا هو نيل أرمسترونغ.