د. علي الذهب
أتاح انسحاب القوات الإماراتية من بعض مراكز انتشارها في اليمن، خاصة مارب، والمخاء والخوخة في الساحل الغربي على البحر الأحمر، مطلع يوليو/ تموز 2019، المجال أمام دور سعودي عسكري، يمكن أن يؤسس لمعارضة شعبية لا تقل حدة عن ما يجري في محافظة المهرة، إلا أن ما يؤخر وقوع ذلك، أن أجندتها، في الوقت الراهن، غير مكتملة المعالم.
وإن كان الاتجاه يشير إلى السعي نحو إحراز مكاسب جيوسياسية، طالما حاولت الحصول عليها خلال القرن الماضي، وقد باتت الفرصة متاحة في ظل ما يشكله الحوثيون من تهديد لأمنها القومي، وما تمر به السلطة الشرعية اليمنية من ضعف شديد، الذي، للأسف، يقف خلفه التحالف السعودي- الإماراتي، مع ما يدعيه هذا التحالف من مساندة ودعم لهذه السلطة.
بالرغم من مرور حوالي شهر على انسحاب القوات الإماراتية، وإحلال القوات السعودية محلها، وما أعقبه من انسحاب للقوات السودانية من الساحل الغربي، خلال الأسبوع الماضي، إلا أن رئاسة الجمهورية والحكومة اليمنية "الشرعية"، لم تقدما تفسيرات كافية إزاء هذا الحدث، وطبيعة الوجود السعودي، الذي لا يختلف عن الوجود الإماراتي السابق.
ولماذا يصر التحالف على مصادرة القرار العسكري، والأمني، والسياسي، لأجهزة السلطة الشرعية اليمنية، وفرض واقع مشابه لما يجري في المحافظات الجنوبية، بتمكين ميليشيات مسلحة لا تعترف بشرعية الرئيس هادي، ولديها أجندات خاصة من شأنها الإضرار بوحدة اليمن، وإطالة أمد الحرب، وذلك ما يسعى إليه الحوثيون أنفسهم.
[إقرأ أيضا.. وكالة: السعودية تشرع بتأمين موانئ اليمن على البحر الأحمر خلفا للإمارات]
الملاحظ أن الوجود العسكري السعودي في مناطق ساحل ما وراء مدينة (ميناء) الحديدة، حتى باب المندب، يعد مكملا لذات الوجود في جبهات محافظة صعدة، وفي ما قبل وما بعد مدينة (ميناء) ميدي بمحافظة حجة، وانتشار القوات البحرية السعودية قبالة الساحل اليمني، ومحيط الجزر اليمنية في البحر الأحمر، في إطار قناعة السعودية بأهمية هذا الوجود، وفي ظل تصاعد هجمات الحوثيين بالطائرات المسيرة، والصواريخ الباليستية، على مدنها ومصالحها الاستراتيجية في البر، وعلى سفنها وقواعدها العسكرية البحرية، والاعتقاد بأن مناطق الساحل الغربي اليمني، بما فيها موانئ الحديدة، تمثل قنوات تسرُّب لمختلف أنواع الأسلحة والمعدات الحربية وتقنياتها المختلفة.
الحقيقة أن استيلاء الحوثيين على السلطة في اليمن عام 2014، ضاعف من مخاوف السعودية على أمنها القومي؛ حيث تنظر إليهم بوصفهم وكلاء إقليميين لخصمها الإيراني اللدود، إلى جانب مخاوفها من تنامي الخطر الإيراني نفسه، الذي تمدد من الخليج العربي غربا، إلى ما بعد خليج عدن والجزر الإريترية؛ حيث يشكل ذلك تكاملا واضحا في التهديد الخارجي على جانبي الحدود السعودية، الشرقية والغربية.
وقد زاد من تعقيد المسألة، انشغال السعودية عن تأمين الساحل الغربي اليمني، بمقاومة الحوثيين على حدودها البرية الجنوبية، تاركة ذلك للسيطرة الإماراتية، التي ما لبثت أن أوقعتها في فخ معقد، تمثل في اتفاقيات استوكهولم، التي وقع عليها طرفا الحرب اليمنيان؛ وذلك ما منح الحوثيين مزيدا من الفرص للتزود بمتطلبات الحرب، العسكرية، والاقتصادية، والصناعية، ونقل ثقلهم العسكري إلى الحدود السعودية، وتكبيدها خسائر كبيرة قد تتضاعف نتيجة لضربة إماراتية أخرى وجهتها للسعودية، تمثلت في سحب قواتها إلى الجنوب، وتقليص عددها بوجه عام.
[للمزيد إقرأ.. ميدل إيست آي: انسحاب الإمارات يقدم كثير من المعلومات عن خلافاتها مع السعودية في اليمن]
يمثل المجال البحري الغربي للسعودية، على البحر الأحمر، مكملا استراتيجيا لمجالها البحري الشرقي، على الخليج العربي، في ما يخص أمن صناعة الطاقة؛ حيث تقوم على السواحل الغربية السعودية مجموعة من الأنشطة الصناعية النفطية، فضلا عن أنشطة صناعية أخرى، تشكل، في مجموعها، متغيرات للأمن الوطني (القومي) السعودي، ومثال ذلك: تصدير جانب كبير من نفط المنطقة الشرقية؛ حيث ينقل بواسطة خطوط أنابيب ممتدة إلى ميناء ينبع على البحر الأحمر، وارتباط مشروع "نيوم" الاستراتيجي السعودي بالموانئ السعودية على البحر الأحمر، فضلا عن موانئ دول أخرى، مثل: مصر، والأردن، وربما اليمن.
إن أمن البحر الأحمر، وإن كان مسئولية مختلف دوله، يحتل أولوية قصوى في الاستراتيجية الدفاعية السعودية، انطلاقا من ارتباط ذلك بأمنها البحري الشديد الحساسية لأي تهديد يتعلق بالطافة وانعكاس ذلك على استمرار النظام السياسي الحاكم، مع ما يشكله من تهديد تزاحم قوى دولية وإقليمية كثيرة على سطح هذا البحر، وفي جزره، وموانئه، خاصة موانئ الساحل الإفريقي؛ حيث يتزايد الوجود الإيراني، والإماراتي، والتركي، والصيني، علاوة على الكيان الصهيوني، والقلق من تمدد ذلك إلى السواحل والموانئ اليمنية.
لعل سعي السعودية المستمر، لتشكيل تحالفات إقليمية في إطار دول البحر الأحمر، يترجم مخاوفها من أي تهديد محتمل قد تتعرض له من هذا المجال، لا سيما التهديد الإيراني، الذي بات واقعيا في ظل تحكم الحوثيين بالسلطة في اليمن، وقد تكون المسألة مجرد وقت، في حال تراخت السعودية في مواجهتهم، لتكتمل الإحاطة الإيرانية بها من الخليج إلى العراق، فالبحر الأحمر، واليمن. ويتبقى دور سلطة عمان، التي يثير السعوديون حولها الكثير من الشكوك، وربما لا تغفل السعودية، كذلك، دور أي سلطة انفصالية في جنوب اليمن، لا سيما الحرك الجنوبي، الذي يمثله "المجلس الانتقالي"، وارتباط قادته بحزب الله، ولا يستبعد كذلك ارتباطهم بإيران.
[للمزيد إقرأ.. وول ستريت: خلافات بين السعودية والإمارات حول الإستراتيجية التي يجب إتباعها في اليمن]
بالرغم من تلك المخاوف، والطموحات السعودية الأخرى، فإن الخيار الأمثل لأمنها، ليس بفرض وجودها العسكري في اليمن، سواء في السواحل أو غيرها؛ إذ أن ذلك سيشتت قواتها أكثر، ويقلل من فاعليتها في الدفاع عن حدود أراضيها، بل إن الخيار الأصوب يتمثل في تمكين السلطة الشرعية من ممارسة وظائفها في المناطق المحررة، وجمع شمل الفصائل المختلفة، التي تقاتل تحت قيادة التحالف، لتعمل تحت قيادة وطنية موحدة، وتجاوز الأخطاء التي ارتكبت خلال السنوات الأربع الماضية؛ لمواجهة الحوثيين، الذين يتهدد خطرهم الجميع.
إن أكثر من سيتضرر من الفوضى، التي تدار بها الحرب الراهنة، واندفاع السعودية في اتجاهات مكلفة وغير ذات جدوى، هي السعودية ذاتها، وبمعزل عن الإمارات، التي قد تقدم السعودية بمثابة كبش فداء؛ لضمان سلامة وحدة أراضيها الهشة، أمام أي تهديدات إيرانية ساحقة، وقد دل على ذلك موقفها الهزيل والغامض من استهداف إيران لعدد من السفن التجارية، بينها سفن سعودية، قبالة ساحل الفجيرة.
وما يثار حول تفاهمات إماراتية- إيرانية، وإمارتية- حوثية، دون علم الحليف السعودي، كشف عنها مسئولون إيرانيون، وآخرون من حزب الله اللبناني، بل والحوثيون أنفسهم، النوايا، التي تبيتها القيادة الإماراتية تجاه وحدة اليمن، وما يمكن أن يشكله ذلك على وحدة أراضي السعودية المهددة بالتشظي.
*على الذهب: دكتوراه في تكنولوجيا النقل البحري، ومحلل سياسي في الشئون الاستراتيجية والعسكرية، وكاتب دراسات في مراكز أبحاث عربية.