تقرير: كيو بوست
وعدن بلد جليل عامر آهل حصين.. ودهليز الصين فرضة اليمن وخزانة العرب ومعدن التجارات، كثير القصور، مبارك على مَن دخله، مثرِ لمَن سكنه، مساجد حسان، ومعايش واسعة، وأخلاق طاهرة، ونِعم ظاهرة، وبارك النبي صلى الله عليه وسلم في سوق منى وعدن”، بهذه الكلمات وصف المقدسي رحلته إلى عدن في القرن الرابع الهجري، المدينة التي اشتهرت في صدر الإسلام بإنتاج الجلود وصنع الأحذية وشكَّلت أكبر مراكز الملاحة والتجارة في البحر العربي.
تقع عدن على خط العرض 12 و27 شمالًا وعلى خط الطول 45 و10 شرقًا، وهي أقرب المواني اليمنية المهمة إلى مضيق باب المندب، وهي أيضًا مدينة تهامية باعتبار تهامة اليمن هي الجزء السهلي الذي يفصل البحر عن الهضبة اليمنية؛ فموقعها يجعلها عند ملتقى الطرق البحرية التي تربط الشرق بالغرب.
شاهد: فيديوغراف.. عدن.. خزانة العرب ومعدن التجارات
بعد زيارته لعدن عام 1487، قال الرحالة البرتغالي كوفلهام، عن عدن: “كانت من أكثر بلدان العالم تجارةً، وبها أكثر التجار ثراءً؛ إذ كانت تفِد إليها السفن العديدة المختلفة الأنواع والأحجام من جميع البقاع، فكانت هذه السفن تفِد إليها من جدة محملةً بالبضائع الأوروبية والمصرية والسورية، وتفِد إليها من مواني ساحل إفريقيا الشرقي محملةً بالمواد الغذائية أو بالوفير من سبائك الذهب والفضة، ومن مواني ساحل الهند الغربي وجزر الهند الشرقية حتى ملقا؛ فكان من الصعب معرفة أنواع البضائع أو تقدير أثمانها؛ فهي قاعدة مهمة للتجارة العربية”.
تعرَّضت عدن خلال النصف الأول من القرن السادس عشر إلى كثير من الضغوط الاستعمارية البرتغالية والعثمانية التي استهدفت احتلالها والسيطرة عليها؛ لما تتمتع به من أهمية استراتيجية وتجارية، فواجهت المدينة وشعبها وحكامها هذه الضغوط بأساليب مختلفة؛ فأحيانًا اعتمدت على حصانتها الطبيعية، وفي أحيان أخرى أظهرت المقاومة الباسلة في مواجهة الاحتلال، وثالثة لجأت إلى الأساليب الدبلوماسية بالتقارب من إحدى القوتَين صاحبتَي الأطماع؛ لإبعاد خطر القوة الثانية.
خطَّط البرتغاليون لغزو عدن ووضعوا الأمر موضع التنفيذ لأول مرة عام 1513، بعدما قدموا على رأس قوة بحرية مؤلفة من 20 سفينة تحمل على ظهرها 1700 جندي برتغالي و800 جندي هندي، تحت قيادة البوكيرك، وكان هدفه من الاستيلاء على عدن أن تكون مقدمةً للسيطرة على مصادر التجارة وغلق المنافذ العربية البحرية؛ لكن القوات البرتغالية خرجت مهزومة.
اقرأ أيضًا: المجلس الانتقالي يصدر بيانًا يؤكد فيه مواصلته الحرب على الإرهاب
وضع حاكم المدينة الأمير مرجان الظافري، خطة تقوم على إظهار عدم التعرض للبرتغاليين والتخفِّي داخل المدينة ومباغتة العدو عند الهجوم، وهي الخطة التي أثبتت نجاحها ليس فقط في صد الهجوم ولكن أيضًا في مواجهة البرتغاليين مرة أخرى عندما حاولوا دخول المدينة مجددًا بعد المحاولة الأولى بشهور.
شاهد: فيديوغراف.. 5 سنوات من العمل الإماراتي الإنساني والعسكري في اليمن
فشل خليفة البوكيرك القائد البرتغالي لوبو سواريز، في السيطرة على عدن أيضًا؛ فالقائد العسكري الذي جلس مع الأمير مرجان قال إنه يسعى للقضاء على الأسطول المصري عام 1517، الذي كان يجري تدشينه؛ حيث أجَّل المواجهة إلى حين انتهاء مواجهته مع المماليك، استنادًا إلى الخراب الذي لحق بحصون عدن نتيجة محاولة غزو المماليك لها، لكن الأمير مرجان كان قد أعاد بناء الحصون وجعل من المستحيل على سواريز محاولة السيطرة على المدينة؛ مما أدَّى إلى عزله من منصبه لاحقًا.
اقرأ أيضًا: الحوثيون يمزَّقون أفراح اليمنيين ويفسدون عيدهم
شكَّلت محاولات الغزو البرتغالي لعدن أول غزو عسكري أوروبي مسيحي لإقليم عربي في الشرق الإسلامي في مطلع العصور الحديثة، في وقت كانت توجد فيه ثلاث دول إسلامية كبرى بالشرق الإسلامي؛ هي: الدولة الصفوية في فارس، والدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، ودولة المماليك الشراكسة في مصر والشام.
أهمية عدن بالنسبة إلى البرتغاليين تتمثل في الناحيتَين الاستراتيجية والتجارية، وهي نفس الأهمية بالنسبة إلى العثمانيين، مضافًا إليها اعتبارات أخرى تتعلق برغبة العثمانيين في الاحتفاظ بالمناطق التي يصل إليها نفوذهم في جنوب الجزيرة العربية؛ لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
شاهد: فيديو.. الأضاحي في اليمن تحرم المواطنين من فرحة العيد
اتّبع حكام عدن موقفًا مهادنًا للبرتغاليين الذين اكتفوا بإرسال حملات بحرية لمراقبة النشاطات العثمانية البحرية، بينما تواصلت الضغوط البرتغالية على عدن؛ حتى أُجبر حاكمها على قبول معاهدة قاسية عام 1530، والتي اعترفت فيها بالسيادة البرتغالية عليها، واعترف فيها البرتغاليون بحق العدنيين في الملاحة بالمحيط الهندي بشرط عدم ذهاب سفنهم إلى جدة؛ ولكن هذه المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ؛ لإدراك العدنيين ضرورة الصمود من أجل المحافظة على استقلالها، وهو ما سعت له بالفعل حتى سقوطها على أيدي العثمانيين عام 1538.
تأخر وصول العثمانيين إلى عدن؛ بسبب اتساع الدولة العثمانية وانشغالها بالحرب في جبهات عديدة، فضلًا عن سياسة المهادنة التي اتبعها حكام عدن مع السلطان العثماني؛ بدايةً من الاعتذار عن الموقف المهادن مع البرتغاليين، والذي أرسل إلى السلطان سليم الأول بعد الانتصار على المماليك وصولًا إلى الموافقة على معاهدة مع العثمانيين الموجودين باليمن تضمَّنت اعترافًا بقراءة الخطبة باسم السلطان العثماني وإن كانت لم تُطَبَّق فعليًّا لكنها عبَّرت عن سياسة الدبلوماسية التي اتبعها الحاكم؛ للحفاظ على استقلال عدن التي شكَّلت شوكة في حلق العثمانيين؛ بسبب الثورات التي قام بها أهلها ضدهم وكادت تفقدهم نفوذهم بها عدة مرات.
شاهد: فيديوغراف.. نازحون من الحديدة إلى عدن
تمكَّن الأتراك من استعادة السيطرة على عدن بعد قضائهم على الأمير عبد القادر اليافعي الخنفري حاكم خنفر وأبين، عام 1627م، ثم سيطر عليها الأئمة عام 1645م، ثم خضعت لسيطرة السلطنة العبدلية اللحجية ابتداءً من 1732م حتى خضوعها للاحتلال الإنجليزي عام 1839م؛ لتبدأ مرحلة من الازدهار بفضل الحماية البريطانية التي جعلتها بسبب موقعها الاستراتيجي المهم نقطة اتصال بين المستعمرات البريطانية، ومركز تموين وانطلاق للسفن التي تفِد من قارة آسيا؛ لا سيما الهند والصين إلى إنجلترا وأوروبا.
المصادر:
د.نبيل عبد الجواد، الصراع البرتغالي- العثماني حول عدن في النصف الأول من القرن السادس عشر، مجلة كلية الآداب، جامعة طنطا، مصر.
عبد الرحمن العاني، تحول الطريق التجاري من الخليج العربي إلى البحر الأحمر وازدهار عدن، مجلة الآداب، كلية الآداب، جامعة بغداد.
سالم المبارك، ميناء عدن في الفترة من 1990- 2008م التطور والمشكلات.