لم يكن محمد بوعزيزي مختلفاً عن مئات الشباب التونسيين المطحونين في هذه المدينة الصغيرة المغبرة المحاطة بالشجيرات والصبار. حصل كثير منهم على شهاداتٍ جامعية، لكن أغلبهم لم يكن قادراً على إيجاد عمل، وبقيتهم اضطُر للكدح في بساتين الزيتون تحت الشمس الحارقة لقاء أقل من 3 دولاراتٍ في اليوم.
كل ما امتلكه بوعزيزي كان عربة
يقول موقع middle east eye البريطاني، كان بوعزيزي، البالغ من العمر وقتها 26 عاماً، يبيع الفاكهة والخُضر في طرقات سيدي بوزيد منذ كان عمره 19 عاماً، جانياً ما يكفي عائلته المكونة من ثمانية أفرادٍ، ويُبقي إخوته الخمسة الأصغر منه في مدارسهم.
لكن رزقه تعرض للتهديد حينما صادرت شرطيةٌ موازينه وبضاعته في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2010. ووفقاً لرضا، خال بوعزيزي، فإن الشرطة المحلية كانت تُضايق ابن أخته لسنوات.
وقال لـMEE: «كلما ذهب إلى السوق كانت الشرطة تُغرّمه لإدارته متجراً دون ترخيص». وفي العاشرة من صباح ذلك اليوم، تجاوزت المضايقات الحد. صفعته شرطيةٌ، وبصقت على وجهه، وشتمت أباه المتوفى حين لم يتمكن من دفع الغرامة.
ذهب بوعزيزي، حاملاً إهانته على الملأ، إلى البلدية المحلية مستنجداً. غير أنهم طلبوا منه الرحيل بدلاً من نجدته؛ نظراً لأن المأمور كان منشغلاً في اجتماعٍ، وهو عذرٌ يقول رضا إن أهل البلدة معتادون على سماعه.
غادر بوعزيزي، لكنه عاد بعد ساعةٍ. وفي الحادية عشرة والنصف صباحاً غمر البائع المتجول نفسه بالتنر، وأشعل النار في نفسه أمام المبنى.
وعلى الفور أشعل بوعزيزي حالة هياجٍ في المدينة، كانت شرارة ثورةٍ شعبيةٍ ضد تسلط زين العابدين بن علي. وخلال أربعة أسابيع، أُطيح زين العابدين ولاذ بالفرار إلى السعودية، لينتهي بذلك استيلاؤه على الحكم الذي دام ثلاثة وعشرين عاماً.
وخلال الأسابيع والشهور التي تلت موت بوعزيزي، بات البائع المتجول رمزاً للمحرومين من حقوقهم، الذين أُجبروا على كسب لقمةٍ عيشٍ على هامش المجتمع.
يقول الموقع البريطاني: لكن، وبغض النظر عن أسر البوعزيزي خيال ملايين التونسيين والعرب، فإن إرثه اليوم عرضةٌ للتساؤل.
بعد 9 سنوات.. أين التغيير؟
في السوق الواقع في مركز المدينة يُثير مجرد ذكر اسمه ردة فعلٍ فاترةٍ من العديد من الباعة الجائلين، من بينهم أقارب له. يقول خاله رضا البالغ من العمر 45 عاماً: «كان محمد شاباً طيباً، وقد فعل ما شعر أنه لازم».
وتابع: «لكن أحداً (من أهل سيدي بوزيد) لم يكسب من موته شيئاً. لم يحقق شيئاً». الرأي نفسه كرره شُعيب القادري، التاجر البالغ من العمر 57 عاماً، الذي يقول إنه من المستبعد أن يتقاعد قبل أن يبلغ 65 عاماً.
يقول شُعيب: «عرفت محمد منذ كان طفلاً، كان يلعب مع أبنائي، ولقد حزنت بشدةٍ لموته. لكن ما الذي تغير حقاً في السنوات التي تلت (موته)؟ مازلنا جميعاً نغرق في الفقر».
ووفقاً لمسؤولين حكوميين، فإن أكثر من 600 ألف أسرةٍ في كل أرجاء تونس لا تستطيع تلبية احتياجاتها اليومية، ويظل التباين بين المناطق الداخلية الفقيرة والساحل المزدهر نسبياً دون علاجٍ.
يبلغ معدل البطالة في سيدي بوزيد قرابة ثلاثة أضعافه في المناطق الساحلية، وفقاً صندوق النقد الدولي، ويصل إلى 30% بين من هم دون سن الرابعة والعشرين.
يقول أحد المارة في السوق، اسمه هشام، وعمره 37 عاماً: «لا يزال الفساد قائماً». لا يزال الشباب يحتاجون لدفع الرشاوى إن أرادوا العمل في القطاع العام.
وأضاف: «أعمل في الخدمة العامة منذ 9 سنواتٍ، وكل ما أحصل عليه 400 درهمٍ تونسي (140 دولاراً) شهرياً». وتابع: «خذلت الثورة الناس. كيف يمكنني أنا أو غيري تحمل نفقات عيش حياةٍ كريمةٍ بهذا المبلغ؟ لا يمكننا دفع فواتيرنا وتوفير حياةٍ لأبنائنا أفضل من حياتنا. لا نستطيع».
«الناس ما زالوا يقاومون»
واجهت عائلة بوعزيزي كذلك اتهاماتٍ بتدنيس ذكرى ابنهم بعد مزاعم بتلقيهم مبالغ ضخمةً من المال من الحكومة، وهو ما لم يتأكد بعد.
كانت والدة بوعزيزي منوبية، وأبناؤها قد غادروا سيدي بوزيد وانتقلوا إلى المرسى، وهي ضاحيةٌ راقيةٌ في تونس، عام 2011 قبل أن ينتقلوا إلى مونتريال عام 2015.
كثيرون كذلك شعروا بالغيظ؛ لأن كفاحهم اختُزل في حكاية بوعزيزي، بدلاً من الثورة ككلٍ، والتي راح ضحيتها 219 شهيداً تونسياً.
يقول علي بوعزيزي، ابن عم محمد، ورئيس منظمةٍ غير حكوميةٍ تساعد العاطلين عن العمل المحليين في تأسيس أعمالهم الخاصة: «كشفت الثورة مساوئ كثيرة، ونحن ممتنون لمحمد بهذا الصدد».
وتابع: «لم نتخلص من المحسوبية والفساد بعد. وما زالت مطالبنا قائمةً، والناس ما زالوا يقاومون».
«الفساد مسألة أمن قومي»
سيتوجه ملايين التونسيين لمراكز الانتخاب الأحد، الخامس عشر من سبتمبر/أيلول الجاري في ثاني انتخاباتٍ حرةٍ منذ الثورة.
وفي الثامن من سبتمبر/أيلول، في المناظرة التلفزيونية الأولى بين ثلاثٍ جمعت 26 مرشحاً، جدد المرشح الإسلامي حمادي الجبالي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2011 و2013، تعهده بالقضاء على الفساد حال فوزه في انتخابات الأحد القادم.
وقال: «الفساد مسألة أمنٍ قوميٍ، وباتت الحاجة ماسةً الآن لتشريعاتٍ تحاكم الضالعين فيه». وفيما شاهد المناظرة أقل من ثلاثة ملايين تونسيٍ، أو ما يعادل 30% من التعداد، تُظهر الإحصائيات أن عدم مبالاة الناخبين في ازدياد.
كانت نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية العام الماضي بلغت نحو 34%، وجاءت في أعقاب احتجاجاتٍ واسعةٍ حول مستويات المعيشة.
ووفقاً لاقتراعٍ أجراه مؤخراً المعهد الجمهوري الدولي، فإن أعداداً متزايدةً من التونسيين ينتابهم اليأس حيال العملية الانتخابية، و31% من الناخبين فقط يقولون إنهم قد يُشاركون.
وقال المزيد من التونسيين إنهم يرون البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ أكثر من أي وقتٍ مضى منذ عام 2011. وقال محللون إنه من غير المحتمل أن يحصد أيٌ من المرشحين أغلبيةً، ما يعني احتمالية إجراء جولة إعادةٍ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ترجمة: عربي بوست