بات اسم الإمارات في الفترة الأخيرة متداولا بكثرة، باعتبارها قوة تسعى إلى لعب دور مؤثر ليس في منطقة الخليج العربي فحسب، وإنما في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا أيضا، من خلال البروز اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
ولكن يبدو أن الربيع الإماراتي في القرن الأفريقي بدأ بالأفول بعد تدخلات ساهمت في تعقيد العلاقات الثنائية بين دول المنطقة، وهو الأمر الذي مثل عائقا بوجه أي مساعٍ للإصلاحات الإقليمية.
ويُعتبر القرن الأفريقي، المنطقة الشرقية من أفريقيا ومدخل البحر الأحمر الجنوبي، وخليج عدن وباب المندب، ومن هنا تأتي أهميته الاستراتيجية والاقتصادية للوطن العربي عموما ولا سيما الدول التي يمر نفطها في هذه المنافذ البحرية.
وتتجلى المنافسة الإقليمية والدولية المكثفة حول البحر الأحمر بشكل أوضح في جيبوتي. ومن الجدير بالذكر أن القيادة الأمريكية الأفريقية (أفريكوم) يقع مقرها الرئيسي في جيبوتي، كما تمتلك كل من فرنسا وإيطاليا -ومؤخرا الصين- وجودا عسكريا كبيرا في البلاد. وليس هناك شك في أن هذا قد يقوض ويكون له تأثير سلبي طويل الأجل على المصالح الأمريكية، سواء في أفريقيا أو شبه الجزيرة العربية.
وربما كون المصالح الوطنية والمخاوف المتعلقة بالأمن والبقاء وراء قرار جيبوتي للدخول في مثل هذه التحالفات المتضاربة. وكانت فرنسا الضامن الأساسي والتاريخي لسيادة جيبوتي، لكن الحماية الفرنسية لم تعد كافية في ظل وجود العديد من القوى العالمية المتنازعة، مما يجبر هذه الدول في كثير من الأحيان على البحث عن ضامنين متعددين، وهو وضع يمكن تطبيقه اليوم على جيبوتي.
بالمثل، لدى إريتريا مبرراتها الخاصة في تأجير جزرها وموانئها لقوى متضاربة. ويعتقد أن كل من إيران و(إسرائيل) استأجرت منشآت بحرية وموانئ في إريتريا.
واستأجرت الإمارات ميناء "عصب" الإريتري واستخدمته كمنصة انطلاق في حربها ضد الحوثيين في اليمن. وبدعم من إيران، تم تزويد الحوثيين في ميناء الحديدة على الساحل اليمني من المنشآت الإيرانية المؤجرة في أرخبيل "دهلك" الإريتري، رغم إنكار الحكومة الإريترية لهذا الوجود الإيراني.
وقبل أكثر من 10 سنوات، تصاعد الدور الإماراتي بشكل ملفت في منطقة القرن الأفريقي، وهو الدور الذي بدأ اقتصاديا قبل أن يتحول إلى عسكري ومخابراتي.
وكانت كلمة السر في هذا الدور هو "موانئ دبي"، التي دخلت من خلاله الإمارات للسيطرة على سواحل البحر الأحمر الذي تمر منه ما يقرب من 17% من التجارة العالمية.
ونجحت الإمارات، بالفعل في الحصول على حق الانتفاع بمعظم موانئ القرن الأفريقي، في الصومال وجيبوتي وإريتريا.
ومع مرور الوقت، سعت الإمارات لإنشاء وجود عسكري قوي في الصومال واليمن وباب المندب، وفي نهاية المطاف، كانت مصلحة أبوظبي هي إبراز نفسها في القرن الأفريقي، حتى أصبحت الموانئ التي حصلت عليها قواعد لانطلاق العمليات العسكرية الجوية في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
ومع وقع الأزمة الخليجية، في يونيو/حزيران 2017، رفضت الصومال، عرضا إماراتيا ماليا، لقطع العلاقات مع قطر، وذلك قبل أن تستخدم الدوحة المجال الجوي الصومالي، لتجاوز العقوبات التي فرضتها دول عربية على الطيران القطري.
ويقول محللون إن العلاقات بين الصومال والإمارات توترت منذ انفجار الأزمة الخليجية لرفض مقديشو التحيز لأي طرف.
كما تغيرت لهجة جيبوتي، تجاه قطر، ودعت إلى "حل الخلاف القائم بين الدول العربية عن طريق الحوار وعبر تكاتف جميع الدول"، مؤكدة تمسكها بالحفاظ على العلاقات الطيبة مع جميع الدول بما فيها قطر.
وبعد بيان جيبوتي بيوم واحد، وتحديدا في 22 فبراير/شباط 2018، قال مكتب رئيس الجمهورية الجيبوتي "إسماعيل عمر جيلي"، إن بلاده أنهت عقدا مع موانئ دبي العالمية لتشغيل محطة "دوراليه" للحاويات لمدة 50 عاما، موضحة أن سبب القرار هو "حماية السيادة الوطنية والاستقـلال الاقتصادي للبلاد".
وبالعودة إلى الأزمة مع الصومال التي تعد أكبر وأكثر تعقيدا، فقد تفاقمت مع مطلع مارس/آذار 2018، عندما أعلنت موانئ دبي العالمية، توقيع اتفاق مع إثيوبيا و"جمهورية أرض الصومال" (صوماليلاند) الانفصالية، تصبح بموجبه أديس أبابا شريكا في إدارة ميناء بربرة في "أرض الصومال" بنسبة 19%، إضافة إلى استثمارها في البنى التحتية اللازمة لتطوير الميناء بصفته بوابة تجارية إلى إثيوبيا، وهو ما اعتبرته الحكومة الصومالية "كأن لم يكن".
وقبل يومين، أعلن رئيس حكومة "أرض الصومال"، "موسى بيهي عبدي"، بشكل مفاجئ، تحويل مطار بربرة العسكري، الذي تديره الإمارات، إلى مطار مدني لاستقبال رحلات داخلية وخارجية.
ولم يفصح رئيس حكومة الإقليم عن دوافع تحويل المطار العسكري إلى مدني، وما إذا كانت الاتفاقية مع الإمارات (مدتها 25 عاما) ما تزال سارية المفعول أم لا.
ومنذ يونيو/حزيران الماضي، بدأت القوات العسكرية التابعة للإمارات في الانسحاب من اليمن ببطء. وقامت القوات الإماراتية بتنفيذ ما وصفته بأنه "انسحاب استراتيجي" من مدينة الحديدة كجزء من عملية السلام التي قادتها الأمم المتحدة، كما قامت بالتراجع تكتيكيا في مدن أخرى بما في ذلك عدن.
وبحلول 2 يوليو/تموز، انسحبت نحو 80% من القوات الإماراتية من محيط مدينة الحديدة إضافة إلى انسحابها بشكل كامل من مأرب، وبالتزامن مع ذلك قلصت الإمارات وجودها في قاعدة "عصب" الإريترية بنسبة 75%.
وقاعدة "عصب" هي المكان الذي كانت تدرب فيه الإمارات الجنود وتشن الغارات الجوية على اليمن انطلاقا منه. وفي 6 يوليو/تموز، تم نقل السيطرة على مقر القوات الإماراتية في المخا إلى السعودية.
ويبدو أن المصالح المتنافسة للوافدين الجدد إلى الاقتصاد السياسي في القرن الأفريقي أدت إلى شروط أفضل وصفقات أكثر إنصافا للحكومات والاقتصادات الناشئة المتعطشة للاستثمار عنها من الإمارات.
كما أن التصدعات العميقة التي عانى منها الصومال بسبب السياسات الإماراتية، أوضحت أيضا المخاطر على مجتمعات القرن الأفريقي، التي قد يؤدي موقعها الاستراتيجي وإمكانياتها الاقتصادية المتناقضة إلى تعقيدها وربما عكس مسارها.
المصدر | الخليج الجديد