عبدالعالم بجاش- المشاهد
من سياسة أقصى الضغوط العسكرية لتحقيق هدف سياسي، وهو جلب جماعة الحوثيين لطاولة المفاوضات، إلى سياسة معاكسة تم فرضها عبر اللجنة الرباعية التي تضم بريطانيا والولايات المتحدة والإمارات والسعودية.
سياسة فرضت تجميد معركة تحرير الحديدة وخفض الأعمال العسكرية من جانب الحكومة والتحالف في كافة الجبهات باليمن، والذهاب في مسار الحل السياسي.
لكن لا شيء أثمر على الصعيد السياسي، بل زادت الأزمة في اليمن تفاقماً منذ ديسمبر الماضي، حيث تم اعتماد المسار السياسي بديلاً عن مسار الضغط العسكري لتحقيق الهدف السياسي.
تحول، تحمست له أبوظبي في إطار التحالف، وقبلت به الرياض والحكومة اليمنية على مضض، وثبت عدم جدواه على الواقع بصورة أدخلت الأزمة اليمنية في طور أكثر تعقيداً.
فقد تزايدت منذ اتفاق ستوكهولم في الـ13 من ديسمبر من العام الماضي، حدة هجمات جماعة الحوثيين على المصالح الحيوية في السعودية.
كما زادت هجمات الحوثيين، بحسب التحالف العربي، على المدنيين في الحديدة، ومواقع القوات الموالية للحكومة الشرعية، بشكل يومي.
هذا التحول من الضغط العسكري إلى التركيز على الجهود السياسية في اليمن، دخل شهره الـ10، بينما تظهر مؤشرات عدم فاعلية كافة الجهود الدولية والإقليمية حتى الآن، في تحقيق أي تقدم يذكر نحو السلام.
وزاد من سوء الوضع جمود الحكومة الشرعية، وغيابها، وغرقها في حالة واسعة من الفساد على كافة المستويات العسكرية والإدارية والدبلوماسية، وافتقارها للإرادة والعزم والتفكير الخلاق لإثبات نفسها على الأرض، إضافة إلى ميل معظم قادتها للرفاهية خارج البلاد أغلب الوقت.
هذا الوضع، ترك البلاد رقعة شطرنج مشاعاً للعبة صراع إقليمية-دولية، دونما لعب دور فعال حتى في سياق اللعبة الدولية والتجاذبات الإقليمية نفسها.
ويخشى أن تكون السياسة التي تحمست لها واشنطن تبعاً للمقاربة البريطانية، قد جعلت اليمن أكثر بعداً عن السلام، ومنحت طهران مزيداً من الوقت والفرص لتثبيت أقدامها في اليمن.
غريفيث… رومانسية سياسية وخلط أوراق
المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، البريطاني الجنسية، حظي بدعم على مستوى رفيع من قبل حكومة بلاده، ومن قبل الولايات المتحدة، وحصل على تنازلات كبيرة من جانب الحكومة في اليمن، تحت أقصى الضغوط الدبلوماسية.
لكنه، من وجهة نظر الحكومة، لم يقم بأي تحرك واضح للحصول على ضغط دولي فعال يرغم جماعة الحوثيين وإيران على تقديم تنازلات بالمقابل.
وسبق للرئيس هادي وحكومته مطالبة الأمم المتحدة بضمانات وخطوات مزمنة لتنفيذ اتفاق السويد بداية باتفاق الحديدة.
غير أن تلك الدعوات بوضع حد لتهرب جماعة الحوثيين من تنفيذ الاتفاق.. تبخرت.
كما تلاشت مطالب الحكومة للأمم المتحدة بتزمين الاتفاق أو السماح للشرعية والسعودية باستئناف المسار العسكري.
ويواصل غريفيث في إحاطاته أمام مجلس الأمن الدولي، ترك الأمور معلقة، وتمييع الأزمة بدعوى الحياد، ودون تقديم مقترحات ذات فاعلية.
وقد طرح مؤخراً مبادرة من 7 نقاط لما يسميه حلاً شاملاً للأزمة اليمنية، ودعا الأطراف للمضي معه، في تجاوز صريح لكل الاتفاقيات أو المرجعيات، بما فيها اتفاق ستوكهولم.
خطوة اعتبرها مستشار في رئاسة الحكومة اليمنية، عبارة عن تصور رومانسي من قبل غريفيث، لا يمت للواقع بصلة.
غير أن الفاعلين الدوليين، وفي طليعتهم الولايات المتحدة، يمنحون غريفيث دعمهم، ويؤيدون أفكاره، ويمنحونه حالياً دعمهم ضمن ما يسميه حلاً شاملاً للأزمة اليمنية، ينهي الحرب، حتى وإن كان ذلك عبر القفز من تصور إلى آخر لا يعالج جوهر الأزمة.
القفز إلى تصور للحل الشامل لأزمة الحرب في اليمن، بأي ثمن كان، تحت ضغط مخاوف عبر عنها غريفيث من اندلاع حرب إقليمية تنزلق اليمن في بؤرتها، ليس فكرة جذابة فعلياً، خصوصاً في الوضع الراهن.
بالنسبة للتحالف، تحديداً المملكة، والحكومة، فكرة الحل الشامل خطوة غير محسوبة، وهروب من قبل الأمم المتحدة إلى الأمام، ينطوي على خطورة تثبيت انقلاب الحوثيين في اليمن، وتعزيز نفوذ إيران، بدلاً من الحد منه وتحجيمه.
يرى التحالف والحكومة أن تنفيذ اتفاق السويد بخصوص الحديدة، خطوة أساسية للانتقال إلى جولة أخرى.
بناء الثقة أولاً هي المقاربة المأمونة، خاصة في ظل التعامل مع جماعة انقلابية، يقول التحالف إنها نقضت 70 اتفاقاً معها من قبل.
ناهيك عن الشكوك الراسخة حول من يملك قرار الحرب والسلام في اليمن: المليشيا أم إيران؟
بمرور الوقت، تبدو الحرب إقليمية بامتياز، وقرار إيقافها واستمرارها بيد أطراف خارجية.
ومثلما يشكك البعض بامتلاك جماعة الحوثيين القرار، الوضع ذاته بالنسبة للحكومة، حيث يبدو القرار بيد المملكة العربية السعودية التي تقود التحالف، وتخوض صراعاً محورياً مع إيران.
على الأرض، يسود الجمود الوضع في الحديدة، والملف اليمني برمته، فاتفاق الأسرى تم تعليقه بعد عدة اجتماعات في الأردن، وتفاهمات تعز لم تتم، وتعثر أي لقاء بشأنها، واتفاق إعادة الانتشار في الحديدة تحول إلى مشكلة عالقة داخل الأزمة.
دور إيراني معرقل
ويجعل الدور الإيراني في اليمن، الجهد الدولي لإعادة السلام إلى هذا البلد، ضرباً من المستحيل، كما يجعل من جهود الأمم المتحدة مثار سخرية.
السعودية والحكومة هما الجانب الوحيد، حيث يمكن للأمم المتحدة ممارسة ضغوط.. في الجانب الآخر، لا يظهر أي ضغط دولي فعال، باستثناء آخر ضغط عسكري أثبت فاعليته، عند إطلاق التحالف العربي عملية تحرير الساحل الغربي، وصولاً إلى تحرير جزء من مطار الحديدة ومداخل المدينة، عدا المدخل الشمالي، واقتراب قوات الحكومة الشرعية والتحالف إلى مسافة 5 كيلومترات من ميناء الحديدة.
هذا المسار تم تثبيطه، بداية من أكتوبر 2018، حيث دعا وزير الدفاع الأمريكي السابق ماتيس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، إلى ضرورة وقف إطلاق النار في الحديدة، ووقف التصعيد العسكري فوراً.
ومطلع ديسمبر الماضي، تم توقيف عملية عسكرية لقوات الحكومة، كانت وشيكة لاقتحام مدينة الحديدة ومينائها، بهدف إتمام السيطرة عليها، بحسب ما صرح به محافظ الحديدة لقناة “الحدث”.
تم الدفع بقوة من المجتمع الدولي للانتقال إلى جولة مفاوضات في السويد، وتوقيع الاتفاق، ولم يتم ضمان تنفيذه، حيث ترفض جماعة الحوثيين حتى اليوم تنفيذ أي من بنود الاتفاق، كما صرح المتحدث باسم تحالف دعم الشرعية العقيد تركي المالكي.
المالكي قال إن جماعة الحوثيين ارتكبت انتهاكات تجاوزت 6000 انتهاك، خلال 9 أشهر منذ توقيع اتفاق ستوكهولم.
جماعة الحوثيين، من جانبها، تقول إنها نفذت الشق المتعلق بها في اتفاق ستوكهولم، من طرف واحد، وإنها نفذت عملية إعادة انتشار من الموانئ بحسب الاتفاق، وتتهم الحكومة الشرعية بعدم تنفيذ الشق المتصل بها من الاتفاق.
الحكومة تقول إن جماعة الحوثيين تحايلت على الاتفاق، وقامت بعملية انسحاب مزيفة من موانئ الحديدة، وإعادة تسليمها لعناصرها ممن يرتدون زي خفر السواحل.
ستوكهولم علامة إخفاق في السياسة الأمريكية والدولية
ربحت إيران، ما بعد اتفاق ستوكهولم، أن زادت جرأة جماعة الحوثيين المدعومة منها، على تهديد المصالح الحيوية في السعودية.
يمثل اتفاق ستوكهولم علامة على إخفاق السياسة الأمريكية وسياسة المجتمع الدولي، في الملف اليمني.
وفي ما يبدو، فكرة التركيز على الجهود السياسية التي أقنعت بها بريطانيا الحليف الأمريكي، وفرضتها على تحالف دعم الشرعية، تؤتي نتائج عكسية حتى الآن.
وتؤدي إطالة أمد الحرب في اليمن، لخدمة مخطط إيران، بحسب اتهامات مباشرة وجهها مسؤولون في إدارة ترامب لطهران.
ربحت إيران، ما بعد اتفاق ستوكهولم، أن زادت جرأة جماعة الحوثيين المدعومة منها، على تهديد المصالح الحيوية في السعودية.
الاتهامات تزايدت لإيران بأن جرأتها زادت على تنفيذ أعمال لها طابع العدوان الحربي على دولة أخرى.
كما تتهم جماعة الحوثيين بأنها تنفذ ما تطلبه طهران منها بولاء تام، وتعرقل جهود السلام.
ومع إخفاق كل الجهود من أجل حل سلمي للنزاع في اليمن، يقول عدد من القادة في الحكومة والتحالف العربي، إن جماعة الحوثيين لا تفهم غير لغة القوة.
سياسة أمريكية متقلبة
بلغ تخبط السياسة الأمريكية ذروته بإعلان واشنطن توجهاً جديداً لفتح حوار مباشر مع الحوثيين، والسعي للتقريب بينهم وبين الرياض.
وظهر مسؤول من جماعة الحوثيين، يقول إن مجرد إعلان الولايات المتحدة عن حوار مباشر، يعد بمثابة نصر سياسي للحوثيين.
انتقل المشهد إلى تصعيد أشد خطورة باستهداف أهم معملين في منشآة “أرامكو” النفطية، واندلاع أزمة دولية هي الأخطر.
تقول الإدارة الأمريكية إن إيران هي المسؤولة عن القصف الذي استهدف “أرامكو”.
غطت الأزمة الجديدة على الأزمة اليمنية، ولطالما كان اليمن مكاناً بلا أهمية كبيرة لراسمي السياسات الأمريكية.
إنه بلد غارق في المشاكل، له اهمية محدودة للسياسة الخارجية الأمريكية، كونه قريباً من منابع النفط في السعودية، ومطلاً على مضيق باب المندب، حيث تعبر أكثر من 4 ملايين برميل نفط يومياً من الإمدادات النفطية للعالم.
تكمن استراتيجية واشنطن الأساسية في اليمن، في مكافحة الإرهاب: “القاعدة” و”داعش” حصراً.
لم تدخل جماعة الحوثيين ضمن الجماعات المستهدفة في اليمن من قبل الولايات المتحدة الأمريكية
لا تأخذ واشنطن علاقة الحوثيين بإيران باعتباره يمثل تهديداً، وبعض السياسيين الأمريكيين مقتنعون حتى الآن فعلاً أنه من الممكن فصل الحوثيين عن إيران.
انهيار نظرية إمكانية الفصل بين الحوثيين وإيران
قبل الهجمات على “أرامكو”، كان التوجه الجديد للسياسة الأمريكية فتح حوار مباشر مع الحوثيين، يقوم على إقناعهم بالتخلي عن إيران، مقابل إغراءات كبيرة تضمن دوراً محورياً لهم في حكومة يمنية جديدة، وإنهاء الحرب.
أوفدت واشنطن نائباً جديداً لوزير الخارجية الأمريكي، إلى السعودية ودول المنطقة، للتبشير بالتوجه الجديد، وبدأت مساعي متعددة لعقد لقاءات في مسقط. لم تتح طهران الفرصة للجهود الأمريكية، وقد سقطت دفعة واحدة بضربات استهدفت “أرامكو”، أعلن الحوثيون بإلحاح مسؤوليتهم عنها. لم يأخذ المجتمع الدولي إعلانهم على محمل الجد، وقال وزير خارجية فرنسا إنها لا تصدق.
أثبتت الأحداث الجارية أن سياسة الاحتواء المفضلة أمريكياً ودولياً، في التعامل مع الحوثيين، قد فشلت.
وكان المبعوث الأمريكي الخاص بالملف الإيراني براين هوك، دعا إلى ضرورة منع إيران من تثبيت أقدامها في اليمن، ومنع تكرار نموذج حزب الله في هذا البلد.
قال المسؤول الأمريكي إن “لبننة” اليمن تنطوي على تهديد مباشر للمصالح الأمريكية والدولية في باب المندب والبحر الأحمر، ودعا إلى جهد دولي قبل فوات الأوان.
براين هوك تحدث عن سياسة تقديم مغريات كبيرة للحوثيين لفك ارتباطهم بطهران، كما لوح بأنهم قد يتعرضون لخسارة كل شيء في حال رفضوا التخلي عن إيران.
تلاشت الثقة بالقدرة الأمريكية على فك ارتباط جماعة الحوثيين بإيران، مع إعلان الحوثيين مسؤوليتهم عن استهداف منشآة “أرامكو”.
كانت واشنطن تراهن على جناح المعتدلين داخل جماعة الحوثيين، غير أن الجماعة، ومن خلال تكرار إعلان مسؤوليتها عن هجمات “أرامكو”، قدمت نفسها كأداة للمشروع الإيراني، كما قال محللون أمريكيون ظهروا على قنوات عربية مؤخراً.
وكشفت الضربات الأخيرة لمنشآت “أرامكو”، مدى الارتباط بين النظام الإيراني والحوثيين في اليمن. لم تعد فكرة الفصل الأمريكية بينهما واردة أو قابلة للتطبيق.
التطورات الراهنة، من وجهة نظر مراقبين، ربما تدفع إلى عودة سياسة الضغط العسكري في اليمن.
وقد أعلن التحالف العربي عملية عسكرية شمال مدينة الحديدة، بعد يومين على هجمات “أرامكو”، وشنت غارات جوية لأول مرة منذ اتفاق ستوكهولم.
لكن الضربة التي أعلنها التحالف، واستهدفت 4 مواقع للقوارب المسيّرة المفخخة والألغام البحرية، تظل خطوة محدودة.
رغم ذلك، يقول مراقبون للشأن اليمني إن تحجيم الحوثيين، وليس احتواؤهم، قد يصبح سياسة للولايات المتحدة والعديد من الدول في قادم الأيام، باعتبار الحد من نفوذ إيران في اليمن، يمثل مصلحة دولية حالياً، أكثر من أي وقت مضى.