كتب: جمال حسن
من الناحية العسكرية، تستطيع السعودية تجنب حرب مع إيران، لكن فشلها في اليمن سيكون أشبه بالضربة المميتة، التي ستثير كل المصائب.
لم يسبق للسعودية أن كانت بهذا القدر من الهشاشة على المستويين السياسي والعسكري. ومع أن الضربات الأخيرة يُرجح أن يكون مصدرها العراق، بحكم القرب الجغرافي، لكن ذلك لم يكن ليحدث دون الغرق في الوحل اليمني.
على صعيد آخر، دعا رئيس المجلس السياسي في صنعاء، مهدي المشاط، السعودية إلى إيقاف الهجمات المتبادلة، والخوض في مفاوضات حقيقية. إلا أن تلك الدعوة تحمل فحواها انتصاراً ما، بمعنى أن الضربات الأخيرة هي التي فرضت هذا الخيار، ودفعت الرياض إلى القبول بالحل. وبصرف النظر عن حدوث مفاوضات وحلول شكلية، مازال الواقع يختمر بحروب مستمرة؛ ستكون بالوكالة أيضاً.
كشفت الهجمات التي استهدفت المنشآت السعودية النفطية في “بقيق” و”خريص”، عن ضعف المنظومة الأمنية التي تقف عليها السعودية، وهو عجز عسكري خطير، ما يجعل سمعتها في المحك، بحيث لا يمكن ترميمها دون أن يكون هناك تحجيم لدور إيران في المنطقة، وخصوصاً في اليمن، وهو ما يبدو أن السعودية وحلفاءها عاجزون عنه.
والأرجح أن السعودية لن تغامر في خوض حرب مباشرة ضد إيران، دون الاتكاء على الولايات المتحدة، التي أرسلت مؤخراً قوة دفاعية مكونة من 200 عسكري وبطاريتي “باتريوت”. وهي بطبيعة الحال، لا تعكس إجراء عسكرياً، على غرار حرب الخليج الثانية، أو الثالثة، عندما أرسلت واشنطن جيشاً كاملاً بعتاده.
من جانبها، أكدت إيران أنها خصم صعب المراس، فمنابع النفط وإمداداته إلى العالم تحت تهديدها المُستمر. وهذا يلقي بآثاره على الاقتصاد العالمي عموماً، والأمريكي خصوصاً. إضافة إلى أن إيران أثبتت جاهزيتها العسكرية، وإن كانت لا تملك جيشاً يمكنه الانتصار على أمريكا، إلا أنه قادر على توجيه ضربات موجعة لها في مياه الخليج. وذلك ما دعا الرئيس الأمريكي ترامب للإعلان عن أن بمقدوره توجيه ضربة نووية لإيران. وذلك خيار مُستبعد تماماً.
تعمل الولايات المتحدة على صناعة سلاح تقول إنه فعال ضد الطائرات المسيرة، هو عبارة عن مدفع “ميكرويف” سيكون قادراً على صد الطائرات صغيرة الحجم، والتي تطير بمستوى منخفض. وهذا السلاح سيكون جاهزاً عام 2020. وإذا افترضنا وجود حرب ضد إيران، فإنها لن تكون قبل عام 2021. مع أن مسؤولاً في الخارجية الأمريكية دعا أوروبا لتحالف بحري في الخليج. بمعنى أن أمريكا ستزيد من تواجدها العسكري في المنطقة.
ولا يمكن التكهن باندلاع حرب بنوع من اليقين، مع أن الشرق الأوسط صندوق الحروب الحالية، والقادمة. إنما ليس من السهل التنبؤ بمظاهرها أو حتى ملامحها. وما يجعل احتمالية الحرب قائمة، هو ما تعرضت له واشنطن من تمريغ في الخليج العربي عبر إيران، وهذا يضعها أمام خيارات عديدة لإعادة الاعتبار لنفسها، لكن ليس بالضرورة أن يكون الخيار عسكرياً.
وبالمجمل، لن تكون حرباً في المنطقة، دون تبعات خطيرة على جميع الأطراف. حتى إذا استطاعت أمريكا توجيه ضربة قوية لإيران، فالسعودية ستعيش آثاراً متعاقبة.
ولدى إيران مساحة جيو-عسكرية أوسع لشن حرب على السعودية، وتمتلك حلفاء عسكريين في العراق واليمن ولبنان وسوريا. بل تتباهى بقطعها البحرية، باعتبارها القوة الأكبر في الخليج العربي، ولديها الطموح السياسي والعسكري.
وبينما أنفقت السعودية على التسليح حوالي تريليون دولار، خلال عقدين، لكن صورتها السياسية والعسكرية تعرضت لزلزال رهيب، خصوصاً وأنها في اليمن تلطخت بفشل واضح، سواء في إدارتها الحرب أو إدارة تحالفاتها.
فالدول تدوم كلما حافظت على سمعتها، بمعنى أن الدولة هي تلك الهالة التي ما إن تتمزق يتداعى بنيانها. وكلما أصبحت عُرضة للتطاول، وإن من الخارج، تُصبح هدفاً لاستخفاف الداخل. ويمكن لدولة أن تخسر حرباً، إذا مازالت تحفظ تماسكها الداخلي. لكن عند أول سقوط للسعودية، سيتكالب عليها الجميع. وهي تعاني أصلاً من شقاقات مذهبية.
والأخطر، هو ظهور صدع داخل الأسرة الحاكمة، مع وجود معارضة لدى الأمراء نتيجة صعود محمد بن سلمان. والأخير اتسمت سياسته بالتخبط، وافتقدت الحسم والرؤية. إضافة إلى ما أثاره من ملابسات كأمير نفط متهور ونزق.
لم يسبق للسعودية أن عانت تحديات ومخاطر كما اليوم، ولا يمكن مقارنتها بما جرى في مواجهة تصاعد الثورات في المنطقة خلال ستينيات القرن الماضي. كانت لاتزال في مرحلة فتية إبان حكم الملك فيصل، وهناك ظروف دولية مختلفة.
بعد ثورة سبتمبر 1962، دعمت الرياض الملكيين للانقلاب على الجمهورية الوليدة. لطالما كانت اليمن أولوية بالنسبة للسعودية، ومع فشل الملكيين في السيطرة على صنعاء، دعمت صيغة جمهورية تهيمن عليها النخبة التقليدية، وبالتالي استطاعت احتواء اليمن سياسياً.
عدا أن صيغة مماثلة غير ممكنة اليوم، إلا إذا كانت الرياض مستعدة للتعايش مع داء المعدة. فهي تواجه خصماً عقائدياً أثبت تماسكه، وعدم إمكانية احتوائه سياسياً. وهناك خطر تمدد نموذج حزب الله إلى مناطق الشيعة في السعودية. حتى إن قائداً حوثياً ألمح إلى وجود تعاون محلي، في معرض حديثه عن تبني جماعته الهجمات على “بقيق” و”خريص”. بمعنى أنها ربما انطلقت من داخل السعودية، وأن لجماعته يداً في إيصال تلك الأسلحة المُهاجمة. وهي، أيضاً، الصورة الجيوسياسية لليمن باعتبارها مصدراً لما يمكن أن يحدث في السعودية.
ولا يمكن تحميل القيادة السعودية الحالية كل تبعات ملامح الإخفاقات والضعف، إذ إنها ورثت أيضاً رواسب وأخطاء الحكام السابقين. وتعاني السعودية، كبلد ومجتمع، رخاوة، هي الضريبة لرغوة الرخاء الذي عاشته منذ الطفرة النفطية. غير أن الملوك السابقين استطاعوا أن يحافظوا على رمزيتها السياسية، أي سمعتها على الصعيدين الإعلامي والسياسي، وهو ما فرط به الحُكام الحاليون.
كما أن الصورة الجامحة انتهت، للمحاربين “الإخوان”، وهو الجيش الذي قاتل في صف الملك عبدالعزيز آل سعود، وإن بتسليح محدود، نجح في السيطرة على معظم أراضي شبه الجزيرة العربية. ولولا التدخل البريطاني المباشر، كان يمكنه السيطرة على بقية المشيخات الخليجية، وتهديد العراق والشام.
أصبحت صورة المملكة مختلفة ما بعد النفط، وتبدو أكثر ترهلاً. فمنذ حروب عبدالعزيز التأسيسية، التي انتهت عام 1932، لم تخض السعودية حرباً مباشرة. إذ اعتمدت على تحالف دولي بقيادة أمريكا، عندما شكل صدام حسين تهديداً على دول الخليج، عام 1991. وحالياً في اليمن لم تتدخل دون أن تضمن حلفاء، إضافة إلى أنها تعتمد بدرجة رئيسية على ضربات جوية، بينما تركن إلى مقاتلين محليين في الجبهات، إضافة إلى اعتمادها على مقاتلين سودانيين. وفي حدودها، جندت السعودية مقاتلين فقراء من الشباب اليمنيين، تدفع لكل منهم راتباً قدره 3 آلاف ريال سعودي، ويتم التعامل معهم كسخرة لمقاتلة الحوثيين.
في هذا الوضع يناسب أن نطلق على السعودية تسمية “الرجل المريض”، وهو الوصف الذي ظلت أوروبا تنعت به الدولة العثمانية عقوداً. المختلف أن السعودية في منطقة مليئة بالأوبئة، وتنشط بالصراعات الدينية والقومية، وتعاني انهيارات في بناها الاجتماعية والسياسية. لعله سياق مرتبط بما كانت إدارة جورج بوش دشنته، واصطلحت عليه وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”.
لكن هل سيتم تسليم بقية المنطقة لإيران كما جرى في العراق وسوريا ولبنان. أو سيحدث أمر آخر؟ فاليمن تشكل الطريق الجيوسياسية لما يمكن حدوثه في السعودية. كل ما يأتي إلى السعودية مصدره اليمن، بحسب وصية الملك عبدالعزيز، لكن إساءة فهم الوصية كانت سبباً رئيسياً في المعضلة، فالمعنى متغير بحسب الظروف. والنُّخب الحاكمة في السعودية ظلت تنظر باستخفاف وحنق مستدام، وكان على اليمن أن تكون نقيضاً لهم: باعتباره القُبح الذي نتجمل بالوقوف إلى جانبه.
للمشاهد نت