حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن ضرورة انسحاب بلاده من الشرق الأوسط طرح كثيراً من التساؤلات حول مستقبل المنطقة، في حال نفذت واشنطن قراراً كهذا، أبرز تلك التساؤلات يتعلق بما هي الدولة المؤهلة للعب دور إقليمي مسيطر في واحدة من أكثر مناطق العالم سخونة وتوتراً؟ فهل تلعب إيران ذلك الدور أم يكون للسعودية أو تركيا أو مصر رأي آخر؟
ماذا قال ترامب؟
في تغريدتين أمس الأربعاء 9 أكتوبر/تشرين الأول، اعتبر ترامب أن توغل بلاده في الشرق الأوسط كان أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة اتُّخذ بذريعة باطلة تم دحضها لاحقاً، وتمثلت في وجود أسلحة دمار شامل في المنطقة.
وقال ترامب على حسابه الرسمي في موقع «تويتر»: «الولايات المتحدة أنفقت ثمانية تريليونات دولار للقتال، ولَعِب دور الشرطة في الشرق الأوسط. آلاف من جنودنا العظماء قتلوا أو أصيبوا بجروح حرجة، فيما قتل ملايين الأشخاص في الطرف الآخر».
وأضاف: «كان الذهاب إلى الشرق الأوسط أسوأ قرار اتخذ في تاريخ بلادنا! خضنا حرباً بذريعة باطلة تم دحضها لاحقاً، وهي أسلحة دمار شامل، لم تكن هناك (أسلحة)! والآن نقوم بإعادة جنودنا وعسكريّينا العظماء بتأنٍ وعناية إلى الوطن. إن تركيزنا على الصورة العامة، الولايات المتحدة أعظم من أي وقت مضى!».
وفي مؤتمر صحفي مطول في البيت الأبيض، مساء نفس اليوم، أعاد ترامب التأكيد على ضرورة انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، مشيراً إلى أهمية أن تقوم القوى الإقليمية في المنطقة بالتعامل مع أزماتها.
تحول تاريخي
قرار ترامب والمنطق الذي يقدمه به يمثل تحولاً شبه جذري في السياسة الخارجية الأمريكية، التي كانت منطقة الشرق الأوسط على رأس أجندتها، أو ضمن قائمة أولوياتها على مدار عقود طويلة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع المملكة العربية السعودية عام 1954 لمدة 60 عاماً، ثم تجديدها لمدة مماثلة عام 2005، أصبح الوجود الأمريكي العسكري والاقتصادي وحتى الثقافي في منطقة الشرق الأوسط أكبر وأقوى من النفوذ الذي تتمتع به أي قوة عظمى أخرى.
وبصورة أو بأخرى، هناك تواجد عسكري أمريكي قوي في المنطقة، من خلال قواعد عسكرية في تركيا وقطر والأردن والإمارات والبحرين والكويت، إضافة لقوات عسكرية في العراق وسوريا، ومؤخراً تم نشر مئات العسكريين في قاعدة الأمير سلطان في السعودية، بحسب تقرير لمجلة فورين أفيرز الأمريكية.
ولكن رغم ذلك، وبعيداً عن إمكانية تنفيذ ترامب لرغبته بالانسحاب كلياً من الشرق الأوسط والمدى الزمني الذي قد يستغرقه ذلك، فإن المنطق نفسه أصبح حاضراً بقوة، ومن الطبيعي أن القوى الإقليمية الكبرى بدأت بالفعل وضع سيناريوهات عملية لمرحلة ما بعد الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وتتمثل تلك القوى في إسرائيل وتركيا وإيران والسعودية ومصر.
إيران مؤهَّلة للعب الدور.. ولكن
تتمتع إيران بنفوذ إقليمي قوي بالفعل، ولو انسحبت الولايات المتحدة من المتوقع أن يزداد هذا التأثير الإقليمي، فهي موجودة بقوة في عواصم عربية تاريخية، هي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، وتمارس فيها نفوذاً واسعاً.
ولكن هناك عوامل أخرى معاكسة لذلك النفوذ، أبرزها العوامل الداخلية والاقتصادية، إضافة للعقوبات الأمريكية التي لا يبدو حتى الآن أنها ساهمت في الحد من النفوذ الإيراني، لكن كم يمكن أن يستمر ذلك من ناحية الوقت؟
ومنذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي، العام الماضي، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية وتشديدها، وردّ إيران بإثارة القلق حول حركة ناقلات النفط والسفن التجارية في مضيق هرمز، وتهديدها بإغلاقه، برزت طهران كقوة إقليمية فاعلة قادرة على الوقوف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، بينما بدت واشنطن مترددة من مواجهة إيران عسكرياً، حتى بعد الهجوم الذي تعرَّضت له منشآت أرامكو النفطية في السعودية، السبت 14 سبتمبر/أيلول الماضي، والذي ألقت فيه واشنطن والرياض والدول الأوروبية باللوم على إيران.
الأزمة المشتعلة حالياً لا يمكن حصرها في الملف النووي الإيراني، ولكنها في الأساس نتيجة للنفوذ الإيراني في العواصم العربية، ومحاولة السعودية والإمارات دفع الولايات المتحدة لإجبار إيران على الالتزام بقواعد حسن الجوار، ولكن ذلك المسعى يصطدم باستراتيجية سعي النظام الإيراني لتصدير الثورة والأيديولوجية التي تغذيها، وذلك منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
وفي هذا السياق دعمت طهران حزب الله في لبنان، ليعمل كذراع إقليمية لها، لكن الحرب الدموية الطويلة مع العراق في الثمانينيات من القرن الماضي حدّت كثيراً من هذه الطموحات التوسعية، لكن الغزو الأمريكي للعراق وانهيار النظام البعثي وفّر لطهران مساحةً جديدة تلعبها من خلال بوابة التيارات السياسية الشيعية المشاركة في حكم العراق.
ومثّل الربيع العربي كذلك فرصةً جديدة لطهران بعد انشغال الدول العربية في قضاياها المحلية، ووصول موجة التظاهرات للبحرين على يد أصدقاء طهران فيها، فاعتبرت إيران نفسها مدافعاً عن شيعة البحرين والإصلاح السياسي في البلد الملكي الذي تحكمه عائلة سنية، وانتقدت الحكومة الإيرانية تدخل السعودية، وفي اليمن دعمت حركة الحوثيين ذات التوجه الشيعي في اليمن، وخصوصاً بعد سقوط نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح (رجل اليمن القوي)، وأصبحت الحركة المدعومة من طهران القوة المسيطرة على الدولة اليمنية.
لكن الدعم الأبرز من قبل طهران كان عبر الحرس الثوري الإيراني، الذي وفر لنظام الأسد الدعم الكبير في معركته ضد قوى الثورة السورية والمعارضة المسلحة السنية، وانتهى بتمكن النظام السوري من استعادة أغلب الأراضي التي سيطرت عليها المعارضة المدعومة من تركيا والسعودية.
كيف يؤثر الحصار الأمريكي؟
وعلى الرغم أنه على الأرجح ستتفاقم الأزمة الداخلية المعقدة في إيران، اعتاد القادة الإيرانيون إلقاء اللوم على العقوبات الأمريكية، التي أعادت إدارة ترامب فرضها في أواخر عام 2018، وبالفعل ينجح ذلك في التنفيس عن التأزم والاضطراب داخل إيران، لكن الإجراءات الأمريكية، مثلما هي مؤلمة بالنسبة للاقتصاد الإيراني تعد هامشية بالنسبة للتأزم السياسي المرتقب، الذي يضع طبقة رجال الدين وجماعاتهم من الحرس الثوري ضد شعب كبير لا يهدأ، ولا يتوقف عن الاحتجاج منذ زمن طويل، وسيؤدي ذلك التأزم الداخلي لتراجع كبير على المستوى الإقليمي بالنسبة لإيران.
وتعد إيران بلداً فريداً من نوعه، فلديها طريقتها الخاصة في إدارة استراتيجية السياسة الخارجية، استناداً لتوقعات لأمتها بالتقدم والازدهار، وتصوُّر النخب الحاكمة حول كيفية التعامل مع التهديدات، وسبل الحفاظ على مصالحها الوطنية والأمنية، ووضعها الجغرافي وموارد الطاقة، وبصرف النظر عن كل الفرص، فإن الجغرافيا الإيرانية (التي تقع في قلب النظام الإقليمي ومركز الطاقة الدولي) والاعتبارات الاجتماعية- التاريخية (كونها شيعية وفارسية)- أدت لبعض القيود الاستراتيجية مثل تباعد المصالح مع جيرانها، وكذلك تباعدها مع القوى العالمية، وأدى ذلك لسياسة إيرانية خارجية متقلبة ومتناقضة في مبادئها.
وعلى الصعيد الداخلي، يبدو أن الغالبية العظمى من الشعب الإيراني قد تخلت عن أفكار الجمهورية الإسلامية، وتعاني من قائمة طويلة من المظالم، ولكنها ليست جديدة، بدءاً من التصورات الاجتماعية التي تخنق الحريات الشخصية والإدارة غير الكفؤة إلى المحسوبية، والفساد الشامل الذي يستفيد منه القليلون، يشعر الجمهور الإيراني بالتململ وحالات الاحتجاج تتزايد، بدءاً من أصحاب المعاشات التقاعدية والعمال غير المدفوعين إلى الناشطين المناهضين لفرض الحجاب، وهي أحد أعراض النموذج السياسي الفاشل.
ومع بلوغ الجمهورية الإسلامية الأربعين، في فبراير/شباط الماضي، من الواضح أن أول ثيوقراطية في العالم في العصر الحديث غير مرغوب فيها في بلدها، ولذلك تسعى القيادة الإيرانية إلى إحداث بعض التغييرات أو اتخاذ خطوات في محاربة الفساد، ومنها مؤخراً الحكم على شقيق الرئيس حسن روحاني بالسجن خمس سنوات بتهم فساد.
ورغم زيارات القادة الإيرانيين للعراق وتركيا وسوريا باستمرار يبدو أن العزلة الإيرانية تتزايد بالفعل، فتركيا هي منافس إقليمي والعراق وسوريا أضعف من أن يشكلا محوراً قوياً مع إيران، كما أن الميليشيات اليمنية المدعومة من طهران وحزب الله اللبناني يعتمدان على الدعم الإيراني ولا يشكلان أيضاً سنداً حقيقياً يمكن أن تستند عليه طهران خارج حدودهما المحلية.
تركيا لاعب إقليمي طبيعي
تاريخياً لعبت تركيا دوراً إقليمياً مؤثراً، كما قامت بدور نشط في القضايا الفلسطينية والسورية، مما يؤهلها لتصبح ذات أهمية متزايدة في تشكيل نظام الشرق الأوسط في المستقبل، وليس هذا فحسب، حيث إن لها أيضاً مجالات نفوذها واهتمامها، وتتركز على سوريا والعراق وإيران، كما أنها تلعب دوراً أساسياً الآن في ليبيا، وهو ما يعني أن الجغرافيا التي تجعلها بعيدة عن مركز الثقل الاستراتيجي في الشرق الأوسط ربما لا تمثل تحدياً كبيراً على قدرتها على لعب دور إقليمي مؤثر.
الواقع على الأرض في السنوات الأخيرة منذ إدارة باراك أوباما وحتى ترامب، يقول إن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط تراجع بالفعل بدرجة كبيرة، وهو ما أعطى الفرصة للقوى الإقليمية الأقوى أن تلعب دوراً أكبر في رسم مستقبل المنطقة، بحسب تقرير لنيويورك تايمز.
وفي ظل النظام الحالي في أنقرة، تغيّرت طبيعة العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن بشكل جذري، بعد أن ضاقت تركيا ذرعاً من القيود التي يفرضها حليفها الرئيسي في حلف الناتو، وفتحت أبواب التعاون على مصاريعها مع روسيا، واشترت بالفعل منظومة الدفاع الصاروخية إس-400، وفي الطريق ربما تكون صفقة طائرات الشبح سو-50، ولم تنجح تهديدات واشنطن في وقف الصفقة.
علاقة الولايات المتحدة مع قوات حماية الشعب الكردية في سوريا، الذين تصنفهم أنقرة منظمة إرهابية جعل تركيا تدرك أهمية إعادة ترسيم علاقتها مع واشنطن، في ضوء مصالحها وأمنها القومي ودورها الإقليمي.
وفي هذا السياق يعتبر انسحاب إدارة ترامب من سوريا وقيام أنقرة بالتحرك عسكرياً داخل سوريا، حيث تتمركز القوات الكردية، انتصاراً دبلوماسياً لتركيا، حيث جاءت كدليل عملي على تطور تركيا من دولة تدور في فلك الولايات المتحدة إلى قوة إقليمية مستقلة وهامة لا تزال تنمو. وجرى تدريجياً التخلي عن العقيدة الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال باشا مؤسس الدولة التركية الحديثة) على مرّ السنين وتطوير عقيدة عثمانية جديدة.
عقيدة تركية جديدة
وتحولت تركيا من حليف للغرب إلى قوة إقليمية مستقلة؛ فعقب الحرب العالمية الثانية أصبحت تركيا تابعة للولايات المتحدة، تقبل كل شيء قادم من واشنطن، من المشاركة مع الولايات المتحدة في الحرب الكورية في عام 1950، ودخول حلف شمال الأطلسي في عام 1952، إلى تخزين الأسلحة النووية الأمريكية وقواعد طائرات التجسس U-2 على أراضيها.
وبقيت أنقرة الحليف التابع للولايات المتحدة لسبب بسيط، هو أنها كانت القوة الوحيدة التي يمكنها حمايتها من عدوها التقليدي، روسيا، ومع ذلك كانت تركيا تنمو سريعاً اقتصادياً وفي عدد السكان، عندما بدأت الذكريات العثمانية في العودة مرة أخرى.
ومع اندلاع صراعات إقليمية في القوقاز ومنطقة البلقان على الحدود التركية، أو بالقرب منها، أعطى ذلك مؤشراً على إمكانية التخلي عن المبادئ الانعزالية الكمالية، وهو ما جلب فرصاً جديدة للتأثير والقيادة الإقليميين، فقامت تركيا بأول محاولة للتوسع الخارجي، منذ قيام الدولة التركية، منذ نصف قرن في قبرص الشمالية عندما تدخلت عسكرياً بشكل مباشر وسيطرت على ثلث الجزيرة حتى الآن.
رجب طيب أردوغان
وفي عام 1994، أصبح الرجل الذي كان يدعمه حزب الرفاه الإسلامي، عمدة إسطنبول، وسُجن فيما بعد لفترة وجيزة، إنه رجب طيب أردوغان، الرئيس الحالي للجمهورية التركية.
وتم التنظير للدور التركي من قبل أحمد داود أوغلو، أستاذ العلوم السياسية في إسطنبول، والذي أصبح لاحقاً كبير مستشاري السياسة الخارجية في عهد رجب طيب أردوغان، وقام بتطوير نظرة السياسة الخارجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية، والتي من شأنها أن تجعل تركيا تلعب دوراً أكبر في الشرق الأوسط والعالم.
هذا هو الأساس الفكري الذي شكل عقيدة القوة التركية الجديدة، ومفهوم المكانة العليا لتركيا، أكثر بكثير من مجرد قوة إقليمية في الشرق الأوسط، وتركيز التنمية الداخلية في الأناضول، بعيداً عن إسطنبول وساحل آسيا الصغرى، وأصبحت السياسة التدخلية في العراق وسوريا مثار انقسام بين تركيا والولايات المتحدة.
نمو اقتصادي قوي
بدأ الاقتصاد التركي بعد عام 2001، باستثمارات كبيرة في البنية التحتية في الأناضول، والتي طوّرت الكثير من الاقتصاد الصناعي الزراعي في هذه المنطقة التي كانت مهملة في السابق.
وبين عامي 2002 و2011، نما الاقتصاد التركي بمعدل 7.5% سنوياً، فيما ارتفع متوسط دخل الفرد من 2800 دولار أمريكي في عام 2001 إلى حوالي 10000 دولار أمريكي في عام 2011.
ومنذ عام 2002، ارتفع معدل تلبية صناعة الدفاع التركية المحلية لمتطلبات التسليح من 24 إلى ما يقرب من 70% وما زال يرتفع، ومن الأمثلة على ذلك الإنتاج المشترك للطائرة F-35 مع شركة لوكهيد مارتن، وتصميم دبابة قتال تركية رئيسية، وخطط بناء حاملة طائرات وغواصات في حوض بناء السفن التركي.
كما توجد القواعد العسكرية التركية دولياً في: أذربيجان، شمال قبرص، العراق، قطر، الصومال، سوريا، الكويت. وغيرها من الأماكن، وتشهد ليس فقط على طموحات تركيا الإقليمية الكبيرة، بل على قدرتها على متابعة سياساتها والحفاظ على نفوذها.
وتوضح شبكة انتشار القواعد التركية بوضوح نيتها في توسيع وجودها السياسي- العسكري حول الأراضي العربية، وتطوير هذه القوة العسكرية، مع إمكانية التدخل الفعال، سينتهي بالضرورة باستخدامه، ولا يتوقع توقف نمو تركيا إلى قوة إقليمية كبرى.
هل إسرائيل مؤهلة بالفعل؟
تتمتع إسرائيل بتفوق عسكري في المنطقة، ومؤخراً بدأت تخرج من العزلة المفروضة عليها، بعد أن تسارعت وتيرة «التطبيع العربي» معها بصورة ملحوظة، ويأتي في هذا السياق ما أعلنته وسائل إعلام إسرائيلية، الأحد 6 أكتوبر/تشرين الأول، عن تفاصيل مبادرة تطبيع مع دول الخليج العربي، ولكن رغم ذلك تظل قدرتها على لعب دور إقليمي مؤثر تظل محل شك لأسباب متنوعة.
أول تلك الأسباب هو أن الهاجس الرئيسي الذي يحرك السياسة الإسرائيلية هو الأمن ومدى قدرة الحكومة الإسرائيلية على توفيره لمواطنيها، في ظل السياسات الاستيطانية التي تتبعها سلطات الاحتلال من ناحية، وعدم وجود حل سياسي يلوح في الأفق مع الجانب الفلسطيني من ناحية أخرى.
السبب الثاني هو حالة عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها إسرائيل تحت قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، غير القادر على تشكيل الحكومة، بعد ثاني انتخابات تشريعية في أقل من ستة أشهر، وربما يتم حل الكنيست والعودة لصناديق الاقتراع للمرة الثالثة، في حدث سيكون تاريخياً إن وقع فعلاً. وتأثير حالة عدم الاستقرار السياسي يتمثل في التركيز داخلياً، حيث تدور المعركة السياسية في أجواء مشحونة، وبالتالي أي تحرك إقليمي من جانب حكومة نتنياهو يكون نابعاً بالأساس من أزمته الداخلية، أي أنه يكون مؤقتاً، بهدف تحقيق مكاسب داخلية، وليس استراتيجياً بهدف توسيع النفوذ إقليمياً بصورة مستدامة.
السبب الثالث هو كون إسرائيل دولة دينية بالأساس، ليس لها امتداد شعبي طبيعي في المنطقة، وهو ما يجعل مسألة النفوذ الإقليمي منقوصة من أهم عناصرها، وهو البعد الشعبي، فالسيطرة العسكرية لن تعني سوى الوجود كقوة احتلال يصعب للغاية أن تكون قادرة على اكتساب نفوذ مستدام داخل أي دولة أخرى في المنطقة.
غياب التواجد الأمريكي
وبالتالي فإن محاولة الحفاظ على أمانها في محيط مشتعل جعل إسرائيل تلجأ دائماً للمحافظة على الوضع القائم، وصحيح أن ذلك أدى لحمايتها من الأخطار الخارجية، لكنه أفقدها كذلك روح المبادرة التي تشكل أساس التأثير الإقليمي، وبهذا يتغلب الاعتبار الأمني على السياسي، وتبرز إسرائيل كقوة عسكرية ونووية، وكذلك كمركز اقتصادي مزدهر، لكنها غير قادرة على ترجمة تفوقها العسكري كمركز الثقل في المنطقة حتى الآن.
وتبدو التدخلات العسكرية الإسرائيلية خارج أراضيها كما لو كانت سلوكاً خائفاً، ينظر بحذر شديد لتركز إيران في سوريا وحصول حزب الله على سلاح متقدم، باعتبارها أخطاراً كبيرة على أمنها، رغم أن ذلك لا يعني تغيراً كبيراً في موازين القوى الإقليمية.
وفي المشهد السوري كذلك تبدو إسرائيل كما لو كانت مجرد سرب من الطائرات التي تشن غارات من حين لآخر من دون أن تحقق أهدافاً استراتيجية وسياسية، وفي المقابل فإن خصم إسرائيل في الشمال وهو التحالف الإيراني السوري مع حزب الله اللبناني، يظهر وكأنه في وضع إقليمي يزداد تحسناً، رغم أن الوقائع على الأرض تقول غير ذلك.
وفي الجنوب يبدو أن تفاقم الحصار في قطاع غزة ينذر بانفجار مواجهة مع إسرائيل، يمكن أن تندلع في أي وقت، على الرغم من مبادرات التهدئة المصرية الدائمة، كما يبدو الانسحاب الأمريكي من سوريا كعامل خطر على مصالح إسرائيل، حيث إنه ينسف فرص إغلاق الحدود العراقية السورية، بحيث يحرم طهران من ممر بري يصلها بلبنان ويمر بسوريا.
وبخروج القوات الأمريكية من سوريا تبدو إسرائيل بدون حليف على الأرض، فيما تتحالف روسيا مع النظام السوري وإيران، خصوم إسرائيل الإقليميين، إضافة إلى أن تخلي واشنطن عن الأكراد قد أصاب إسرائيل بالقلق، وانعكس ذلك في تغطية الصحافة الإسرائيلية لقرار ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا.
ماذا يعني ذلك لإسرائيل؟
بناءً على ما سبق تبدو إسرائيل كقوة صاعدة إقليمياً في المنطقة وتعيش عصرها الذهبي، بفضل التحالفات الجديدة التي تقيمها مع محيطها من الدول العربية المختلفة، بينما تعاني بقية البلدان المرشحة للصعود إقليمياً من تحديات جوهرية، وتفتقد للحلفاء الدوليين المؤثرين بالدرجة التي تحظى بها إسرائيل، وتكتسب كذلك حليفاً جديداً هو السعودية، فبعد أن كانت العلاقة بينهما تتسم بالعدوانية، بدأت في التحول، حيث إن كلاهما لديه أسبابه ومبرراته لاحتواء إيران في المنطقة.
لكن في الوقت ذاته تظهر في خضم تحديات داخلية هائلة في ظل عدم وجود تسوية مع الفلسطينيين، ولا تكفي العلاقات الرسمية مع الدول العربية في تجاوز الرفض الشعبي الواسع لها في المحيط الإقليمي، وإضافة لذلك لا تتمتع إسرائيل بجغرافيا واسعة وعمق استراتيجي ولا قوة سكانية تؤهلها للصمود في مواجهة الأزمة الديموغرافية التي تعاني منها.
المملكة الكبيرة تحت قيادة الشاب الطموح
تمتلك السعودية من المقومات ما يؤهلها لأن تكون أهم قوة عربية في منطقة الشرق الأوسط، من ثروة هائلة من عائدات النفط ووضعها الرمزي كقلب العالم الإسلامي لوجود المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، إضافة لمساحتها الجغرافية الكبيرة، ولكن بغياب الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط ستفقد المملكة أحد أهم عوامل قوتها وهو التحالف الاستراتيجي مع واشنطن.
ومنذ تولي الملك سلمان العرش في عام 2015، حدث تغير كبير في السياسة السعودية، يقف وراءه بالطبع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة في العامين الأخيرين، حيث لم تعد القرارات الخارجية تمتاز بالبطء والتشاور الحذر، مثل عمليات اتخاذ القرار الأخرى في المملكة، بل أصبحت أكثر ديناميكية (أو ربما أكثر تذبذباً) برعاية ولي العهد، الذي أصبح واجهةَ السعودية أمام العالم، كما يقول تقرير لموقع «ستراتفور» الاستراتيجي الأمريكي.
ويظل التهديد الأساسي للسعودية هو العداء مع إيران، وذلك منذ الثورة الإسلامية في طهران قبل أربعة عقود، فالسعودية تمثل الإسلام السني، وإيران تمثل الإسلام الشيعي، ومؤخراً وصلت الأمور إلى خطوة واحدة قبل الدخول في حرب مفتوحة ومواجهة عسكرية لا يمكن التنبؤ بتبعاتها.
ومع ذلك تظل أولويات السياسة الخارجية للمملكة لم تتغير في جوهرها، وفي منطقة تعاني من الصراعات تبقى المملكة متمسكةً بالحفاظ على أمنها من التهديدات المتمثلة في الفكر الجهادي، والمشاعر المعادية للحكومة والتهديدات الأمنية الخارجية القادمة من إيران.
وبحسب «ستراتفور» فإنه علاوةً على ذلك تسعى السعودية إلى تكريس نفسها كقوة فاعلة في الشرق الأوسط، يمكنها أن تتحدى خصومها (مثل إيران وتركيا)، عبر كسب التأييد ضد هؤلاء الخصوم، وإن كانت تتعاون معهم حين تستدعي الضرورة. وتظل السعودية متمسكة بالحفاظ على مظلتها الأمنية تحت حماية الولايات المتحدة، لكنها أيضاً تنوِّع مجموعة شراكاتها الاقتصادية والأمنية، بحيث لا تكون معتمدةً بشكل كلي على واشنطن. وأخيراً، وبعد الأحداث الأخيرة التي شكلت ضغطاً على سياستها الخارجية، تتطلع السعودية إلى تغيير في العام الحالي وتأمل أن تحقق فيه أمنها من تهديدات بلدانٍ مثل إيران، رغم أنها قد تفعل ذلك دون الكثير من الصخب مثلما كان الحال في عامي 2017 و2018.
القائد عندما يصبح عبئاً
لكن ربما يمثل وجود محمد بن سلمان نفسه كواجهة للمملكة عبئاً في حد ذاته، بعد عامين من ولاية العهد ارتكب فيهما أخطاء كبرى أو اتخذ مواقف جدلية، أبرزها حملة حصار قطر واعتقال رئيس الوزراء اللبناني بشكل مؤقت، واعتقال عدد من كبار رجال الأعمال وأفراد الأسرة الحاكمة، فيما وصفه بأنه حملة مكافحة الفساد، بينما يرى الكثيرون أنها في الواقع كانت حملة انتزاع تأييد لمكانته كوريث للعرش، وفي كل الأحوال أدت تلك الحملة إلى إثارة مخاوف المستثمرين الأجانب من غياب حكم القانون في المملكة.
وجاءت جريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول لتضع ظلالاً كثيفة حول تورط ولي العهد في الجريمة التي هزت العالم ولا تزال، مما يثير المزيد من الشكوك حول قدرة الأمير الشاب على قيادة المملكة الكبيرة للعب دور إقليمي مؤثر، خصوصاً في ظل انسحاب واشنطن من المنطقة، مما يفقد المملكة أحد أهم أوراق قوتها.
وسعت السعودية لتخفيف الضرر الناجم عن مقتل خاشقجي، ففي بلاد الشام مثلاً، فتحت المملكة خزائنها لتزويد الأردن بكمية كبيرة من المساعدات، بعد سنة من رفضها تجديد حزمة المساعدات التي تقدمها لعمّان، كما عرضت أيضاً ضماناتٍ سياسية واقتصادية للبنان بعد اضطراب العلاقات الثنائية بين البلدين في عام 2017، (في الحقيقة امتدح رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أهمية الروابط العميقة بين السعودية ولبنان، وذلك خلال مقابلة سابقة خلال هذا الشهر)، بحسب الموقع الأمريكي.
حرب اليمن والضغط الدولي
ورغم أن المملكة لا تتردد في استخدام المزيد من القوة العسكرية في اليمن ضد المتمردين الحوثيين، المدعومين من إيران إن شعرت بأنها لن تعاني من أي تداعيات دبلوماسية على علاقاتها مع حلفائها الغربيين، رغم ذلك، فإن فظائع الحرب الأهلية في اليمن خلقت درجةً كافية من الضغط الدولي وأجبرت الرياض على الخضوع لمحادثات السلام التي فتحت المجال أمام حل سياسي للصراع الذي طال أمده، ويظل مدى تأثير الانسحاب الأمريكي المحتمل من الشرق الأوسط على الموقف التفاوضي للمملكة مفتوحاً على كل الاحتمالات.
مصر تمتلك المقومات.. ولكن
الدولة الخامسة التي تتوفر لديها مقومات اللاعب الإقليمي المؤثر، أو على الأقل كانت كذلك في أوقات سابقة هي مصر، وقيادتها الحالية ترغب في ذلك، لكن هذه الرغبة تزيد وتنقص وفقاً لمدى استقرارها في الداخل.
ورغم أن تقرير مركز ستراتفور الأمريكي قبل عدة أشهر قد وصف الحالة السياسية الداخلية في مصر بالمستقرة، جاءت احتجاجات سبتمبر/أيلول الماضي، ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي، دليلاً على مدى هشاشة الاستقرار الظاهري المعتمد بالأساس على قمع أي صوت معارض، ومع فشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا أصبحت الأمور في مصر أكثر صعوبة، مع توقعات بانشغال النظام بمشاكله الداخلية عن التفكير في لعب دور إقليمي مؤثر.
وسلكت مصر، خلال معظم تاريخها الحديث، نهجاً يوصف باعتبارها قوة متوسطة استراتيجية بالشرق الأوسط، فشاركت في صراعات عديدة أو توسطت فيها، وقدمت دعماً دبلوماسياً للحلفاء الذين يسعون للاستفادة من ثقل البلاد.
وتشغل مصر موقعاً محورياً في العالَمين العربي والإسلامي، مع خط ساحلي واسع بطول 3 ممرات مائية رئيسة: البحر الأحمر، والبحر المتوسط، ونهر النيل، كما أنَّ لديها أكبر قوة عسكرية عربية، وضمنها بَحرية ضخمة وسلك دبلوماسي متطور، ولديها تأثير ثقافي وديني لا يضاهى كذلك.
ثقافياً، تحظى مصر -صاحبة أكبر عدد سكان في العالم العربي بأكثر من 100 مليون نسمة آخذين في النمو بسرعة- بأهمية قصوى في العالم العربي، والعالم الإسلامي الأوسع، واستغلت موقعها لنيل المكتسبات من القوى العظمى.
وقد أكسب هذا الأمر مصر مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي من جميع الأطراف، لأنه لم يكن أحد من القوى العالمية راغباً في استعداء القاهرة والمخاطرة بخسارة الوصول إلى قناة السويس أو الجيش المصري القوي واقتصاد مصر وسوقها الاستهلاكية الكبيرة.
واليوم، تواصل مصر هذا التوازن، إذ تتلقى أكثر من مليار دولار سنوياً من المساعدات العسكرية الأمريكية، في حين تشتري في الوقت ذاته معدات عسكرية روسية، وتستكشف قدرات تطوير الطاقة النووية مع موسكو، وتضخ الصين أيضاً استثمارات في مصر، واضعةً نصب عينيها سوقها الاستهلاكية وبيئتها التصنيعية، ولضمان سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وقناة السويس بوصفهما جزءاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وإذا ما تمكنت مصر من حل مشاكلها الداخلية والظهور كلاعب إقليمي أكثر ثقة، فسوف تجد هذه القوى العالمية الثلاث نفسها أيضاً تتنافس للحصول على اهتمام مصر؛ ولكن يظل لها منافسون إقليميون أقوياء وأكثر تأثيراً في قضايا المنطقة، إضافة لعوامل أخرى تضعف احتمالات الدور الإقليمي لمصر حال انسحاب واشنطن.
وفي سعي مصر لإعادة تأكيد نفسها بوصفها قوة متوسطية، فقد أصبحت أيضاً لاعباً أساسياً في نشاط النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث أعطت اكتشافات حديثة ضخمة القاهرة آمالاً في اكتشاف المزيد من الهيدروكربونات.
لكن استعادة مصر دورها الإقليمي بهذا الشكل، يحمل مخاطرة بخلق شقاق مع القوى الإقليمية الكبرى مثل السعودية وتركيا وإيران والإمارات، التي كانت فاعلة في المنطقة خلال الوقت الذي كان فيه تركيز مصر منصباً بشكل كبير على الداخل.
ولهذا يرجح أن تظل مصر قوة إقليمية محدودة أو متوسطة، ولا يتوقع أن توسع هذا الدور لتتحول لقطب إقليمي مثل السعودية أو تركيا أو إيران.
القراءة في عناصر القوة لدى الدول الخمس وعوامل التقارب الممكنة بين بعضها البعض، يرجح أن تكون تركيا وإسرائيل وإيران الأقرب لتشكيل حلف إقليمي، رغم الخلافات بينها حالياً في ملفات متعددة، لكن تظل المصالح المشتركة بينها أقوى من ملفات الخلاف، حيث إن لدى كل طرف ما يمكن أن يقدمه للطرف الآخر في أحد الملفات، سواء السياسية أو الاقتصادية، وهو ما لا ينطبق على السعودية وإيران بالضرورة.