منذ تأسست في 1945م، لم تتعرض الأمم المتحدة للإهانة في بلد من البلدان، كما حدث لها في اليمن على يد جماعة الحوثي .
قبل أسابيع، طردت مليشيا الحوثي ممثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان في اليمن، "العبيد أحمد العبد"، من مطار صنعاء بعد دقائق من هبوط الطائرة التي كان على متنها.
وكان طرد هذا المسئول الأممي الرفيع بعد أيام على صدور تقرير لجنة الخبراء الذي سلط الضوء على الانتهاكات التي ارتكبها الحوثيون، ومنها العنف الجنسي ضد النساء في معتقلاتهم، وهذا الإجراء من قبل الحوثيين ليس الأول، ولن يكون الأخير، كما يبدو.
* الأداة المفضلة
للأمم المتحدة عدة أهداف، منها صنع السلام في البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة، وهي منظمة عالمية تتكون من 193 دولة، وتستمد قوتها من القوانين الدولية، ولها أجهزة رئيسية كمجلس الأمن الدولي، ومحكمة العدل الدولية.
وفي 2011م، أنشأت مكتبا لمبعوثها الخاص إلى اليمن بهدف إعادة البلد إلى عملية سياسية سلمية، ودعم تنفيذ المبادرة الخليجية، ونتائج الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
وخرج زعيم التمرد في اليمن، عبدالملك الحوثي، مرارا مهاجما هذه المنظمة، ويصفها بأنها "أداة في يد واشنطن"، وجماعته ترفع شعار "الموت لأمريكا"، لكنه لا يمانع من التعامل معها لخدمة أهدافه.
ورغم الشتائم التي كالها الحوثيون ضدها، والعراقيل التي نصبوها في طريقها، إلا أنهم أصدروا قرارا في يونيو/حزيران الماضي، بتعيين "أم كلثوم علي" كمندوبة لهم بمقر الأمم المتحدة في أمريكا.
وعلى أرض الواقع، تتحدى جماعة الحوثي المجتمع الدولي، ولا تقيم وزنا للقوانين الدولية، ويتجلى ذلك في تعاملها مع الأمم المتحدة وممثليها والمنظمات التابعة لها، طيلة الأعوام الماضية.
* حتى "بنعمر"
عينت الأمم المتحدة مبعوثا خاصا لها إلى اليمن، "جمال بنعمر"، في أبريل/نيسان 2011م، وأنشأت له مكتبا بهدف إدارة جهودها للتوصل إلى اتفاق سياسي في البلد وإنهاء الأزمة السياسية التي أعقبت الانتفاضة الشعبية.
كانت مليشيا الحوثي حينها تعيش في جبال محافظة صعدة، فقدم لها "بنعمر" خدمات مجانية، وانحاز لها بصورة مكشوفة، ويصفه مراقبون بمهندس سقوط العاصمة صنعاء في 2014م.
ورغم هذه الخدمات المجانية إلا أنه لم يسلم من شتائمها، ففي فبراير/شباط 2015م، قدم "بنعمر" تقريرا إلى مجلس الأمن، وأشار إلى التوتر القائم يومها بين قبائل مأرب وجماعة الحوثي، بسبب تمدد الأخيرة.
فلم تستسغ جماعة الحوثي هذه الإشارة العابرة، و خرج الناطق الرسمي باسمها، محمد عبدالسلام، بتصريح صحفي يتهم "بنعمر" بدعم "تنظيم القاعدة".
وهذا الاتهام لشخص عمل لصالحها، وواجه انتقادات شديدة بسبب انحيازه لها، وبسببها اضطر لمغادرة منصبه في أبريل/نيسان 2015م، فكيف تتعامل الجماعة مع المبعوثين الآخرين؟
* اتهامات وشتائم
خلفا لـ"بنعمر"، عينت الأمم المتحدة "إسماعيل ولد الشيخ أحمد" مبعوثا أمميا إلى اليمن في أبريل/نيسان 2015م، وكانت جماعة الحوثي تتمنى أن ينتهج المبعوث الجديد سياسة سلفه.
وكلما قدم "ولد الشيخ" إحاطة إلى مجلس الأمن لم تعجب جماعة الحوثي شرعت في شتمه، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2016م، انتقد في إحاطة له إطلاق الجماعة صاروخا باليستيا نحو "مكة المكرمة"، فوصفه محمد عبدالسلام، بـ"بوق إعلامي لدول العدوان".
وفي فبراير/شباط 2017م، طردت مساعد "ولد الشيخ" من مطار صنعاء، رغم حصوله على إذن مسبق بالزيارة، وخرجت قيادات حوثية تبارك هذا السلوك، وقالت إن مساعد المبعوث الأممي "عميل".
وكانت المفاجأة في مايو/آيار 2017م، حيث وصل "ولد الشيخ" إلى مطار صنعاء في إطار جولة لإحياء مشاورات السلام المتعثرة، وأثناء خروج موكبه من المطار، أطلقت مليشيا الحوثي النار عليه.
وشن الحوثيون حملة إعلامية ضد "ولد الشيخ"، واتهموه بالفشل وتلقي أموال من السعودية، ورفضوا التعاطي مع مقترحاته، ومنعوه من زيارة صنعاء، بحسب تقرير للأمم المتحدة نشر في يناير/كانون الثاني 2018م.
وأفشلوا جهوده، بما فيها ثلاث جولات مفاوضات جرت بالكويت وسويسرا، فاضطر لترك منصبه في فبراير/شباط 2018م، قبل انتهاء فترته الرسمية، وفي نفس التاريخ، عينت الأمم المتحدة مبعوثا ثالثا "مارتن غريفيث"، لتبدأ مرحلة جديدة من الإساءة لها.
* الجرعة الأولى
تربط "غريفيث" وجماعة الحوثي علاقة سابقة، وسبق له زيارة اليمن ولقاءه بهم، ولهذا رحبت الجماعة بقرار تعيينه، وقالت إنه سيكون عاملا إيجابيا للوصول إلى تسوية سياسية.
ورغم هذه الصداقة، أخذ الجرعة الأولى من الإساءة بعد أشهر من تعيينه، وتحديدا في يونيو/حزيران 2018م، حيث قال محمد عبدالسلام، إن "غريفيث" أصبح غطاء لاستمرار "العدوان"، ودوره لا يختلف عن دور سلفه.
والجرعة الثانية كانت في مارس/آذار 2019م، عندما خرجت الجماعة ببيان يصف "غريفيث" بالمبعوث الإنجليزي، ردا على تصريح لوزير الخارجية البريطاني "جيريمي هنت" طالب فيه بانسحاب الحوثي من الحديدة.
ولا زال "غريفيث" بانتظار بقية الجرعات، فأكبر إنجاز نظري له للآن هو اتفاق "ستوكهولم"، أعلن عنه في ديسمبر/كانون الأول 2018م، وقد تحول هذا الاتفاق إلى وسيلة لإهانة الأمم المتحدة.
فقد تمخض عن هذا الاتفاق تشكيل لجنة مراقبة وتنسيق إعادة انتشار القوات في محافظة الحديدة، وتولى رئاستها الجنرال الهولندي "باتريك كومارت"، في ديسمبر/كانون الأول 2018م.
وبعد شهر واحد، قدم "باتريك" استقالته إثر تعرض موكبه لإطلاق نار من جماعة الحوثي، بسبب الآلية المزمنة التي وضعها وعملية إعادة الانتشار، وهاجمته الجماعة بالقول إن تنفيذ اتفاق السويد أكبر من قدراته.
وفي يناير/كانون الثاني 2019م، عين الجنرال الدنماركي "مايكل لوليسغارد" لرئاسة اللجنة، والذي بدوره غادرها مؤخرا بعد سلسلة من الإساءات الحوثية تمثلت في حجزه أكثر من مرة، ومنع تحركاته.
وعين الجنرال الهندي "أباهيجيت جوها" كثالث رئيس للجنة المراقبة الأممية، الشهر الجاري، وباشر مهامه بدعوة الأطراف الموقعة على اتفاق السويد لعقد اجتماع، وأفشل الحوثيون انعقاده لليوم.
والأحد الماضي، منعت مليشيا الحوثي فريقا أمميا برئاسة "جوها"، من مغادرة مقرهم في السفينة الراسية بالبحر، واستكمال نشر ضباط الارتباط على خطوط التماس في الحديدة.
* منع واعتقالات
ولا تقتصر الإهانات الحوثية على المبعوثين، بل تطال المنظمات الأممية والمسئولين والعاملين فيها، وتقابل الأمم المتحدة هذه الإساءات المستمرة بالسكوت كعلامة على الرضا.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2015، أوقفت مليشيا الحوثي الأمريكيين "مارك ماكاليستر"، و"جون هامين"، قبيل مغادرتهما مطار صنعاء، بتهمة الاشتباه بنشاط "تجسسي" لهما، وهما يعملان لصالح الأمم المتحدة.
واحتجزت مليشيا الحوثي وفدا من مكتب الأمم المتحدة في اليمن بأحد مداخل مدينة تعز في يوليو/تموز 2016م، ومنعته من الدخول لمناقشة فتح ممر إنساني آمن للمدينة المحاصرة منذ 2015م.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2016م، منعت وفدا أمميا برئاسة "جوليان هارينز" المدير القطري لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" من دخول مدينة تعز، للاطلاع على الوضع الصحي.
ومنع الحوثيون وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "ستيفن أوبراين" من دخول مدينة تعز، في فبراير/شباط 2017م، وبرروا هذا المنع بالخوف على سلامته.
واختطفت مليشيا الحوثي موظفا أمميا في صنعاء "هشام عبدالرحمن" عقب خروجه من مقر عمله في مكتب منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، في يناير/كانون الثاني 2018م.
واقتحمت مركزا لبرنامج الغذاء العالمي بالحديدة في يونيو/حزيران 2018م، ونهبت محتوياته، واعتقلت موظفين، ووصفت الحكومة اليمنية ذلك بـ"جريمة حرب، ومخالفة للقوانين الدولية والإنسانية".
وفي سبتمبر/أيلول 2018م، اختطفت مليشيا الحوثي موظفا بمنظمة الهجرة الدولية بصنعاء، ومنعت طائرة أممية من الهبوط في مطار صنعاء، لنقل أقارب للرئيس السابق "صالح".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018م، اعتقلت الموظف في المفوضية العليا للأمم المتحدة بالحديدة "محمد الشيباني"، ومنعت وفدا من برنامج الغذاء برئاسة نائب المدير القطري "علي رضا"، من دخول مدينة تعز.
ومنع الحوثيون فريقا أمميا من الوصول إلى الخزان النفطي العائم "الباخرة صافر" قبالة سواحل الحديدة لصيانته، في سبتمبر/أيلول الماضي، رغم التزامهم للأمم المتحدة بالسماح له، ورغم المخاطر البيئية من انفجار وشيك لهذا الخزان.
* جزاءات أممية
وهكذا، منع واعتقالات يعقبها أحيانا سماح وإفراج بمقابل، وتعترف المنظمات الأممية بهذه الإساءات، لكنها ترفض نقل مقراتها للعاصمة اليمنية المؤقتة عدن، ولا زالت تعمل من صنعاء تحت إشراف مليشيا مسلحة.
ويبدو أن شعار الأمم المتحدة غير المعلن "كلما أسأت لنا أكثر، كلما دعمناك أكثر"، وهو ما أدركته مليشيا الحوثي، ففي الوقت الذي ينتظر الشارع اليمني من الأمم المتحدة قرارات تنتصر لكرامتها وسمعتها، يتفاجأ بتكريم الحوثيين.
ففي مايو/آيار الماضي، سلم البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة 20 سيارة خاصة بالألغام للحوثيين الذين يقومون بزراعة الألغام وبصورة كبيرة وعشوائية، وفي مناطق سكانية كجريمة حرب.
ودعم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، في أبريل/نيسان 2019م، سجون جماعة الحوثي بسبعة ألف قطعة من فرش النوم، بدلا من الضغط لإطلاق سراح المختطفين، ولا يعرف مصير هذه الفرش.
وقائمة الدعم الأممي للحوثيين تطول، ومنها توقيع اتفاقات مع حكومة الحوثي غير المعترف بها دوليا، لإضفاء نوع من الشرعية عليها، وتقديم ممثلين لمنظمات تابعة للأمم المتحدة أوراق اعتمادهم لهذه الحكومة.
ويقول مراقبون إن هذا الدعم يغذي التمرد المسلح على الشرعية اليمنية، ويضع مصداقية الأمم المتحدة على المحك، ويشجع الحوثيين على رفض جهود السلام، واستمرار الحرب وإطالة معاناة اليمنيين.
وسبق لمنظمة التعاون الإسلامي أن حذرت على لسان أمينها العام يوسف العثيمين، خلال اجتماع عقد في سبتمبر/أيلول 2018م، من استغلال جماعة الحوثي للأمم المتحدة في "تكريس الانقلاب على الشرعية في اليمن".