جاء الاعتداء الذي تعرضت له منشآت أرامكو النفطية دليلاً خطيراً على مدى هشاشة القدرات الدفاعية للمملكة العربية السعودية وزاد الأمور سوءاً تخلِّي الحليف الأول للمملكة وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فكرة مهاجمة إيران دفاعاً عن الرياض، فماذا قد يعني ذلك على موقف الرياض من طهران؟
موقع أتلانتيكو الفرنسي نشر تقريراً حول الموقف في المنطقة بعد قرار ترامب الانسحاب من الشرق الأوسط بعنوان: «أمام تراجع واشنطن، الدول العربية تتجه الآن نحو إيران».
ضربة قاصمة أظهرت الواقع المخيف
أظهرت هجمات سبتمبر/أيلول على منشآت نفطية سعودية الهشاشة الشديدة للمملكة العربية السعودية التي هجرتها حليفتها التاريخية الرئيسية: الولايات المتحدة.
في 14 سبتمبر/أيلول 2019، ضُربت السعودية في قلب قوتها الاقتصادية، حيث استهدف الهجوم اثنتين من المنشآت النفطية في بقيق وخريص وعلى نطاق غير مسبوق، وهو الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج العالمي من الذهب الأسود بنسبة 50% في غضون 24 ساعة. اُستخدم في هذا الهجوم تكنولوجيا متطورة. ووفقاً للسلطات السعودية، فقد استخدمت 18 طائرة بدون طيار و7 صواريخ من طراز كروز، وعلى الرغم من أنها مزودة بأفضل تكنولوجيا للرصد من الولايات المتحدة (وخاصة نظام الإنذار المبكر والتحكم)، لم يتمكن السعوديون من رصد عملية الإقلاع أو مسار الطائرات بدون طيار التي دمرت البنية التحتية النفطية بدقة متناهية.
لا تزال الهوية الفعلية للمسؤولين عن هذا الهجوم، وكذلك طريقة عمله، حتى يومنا هذا غامضة للغاية. ومنذ الساعات الأولى للاعتداء، أعلن الحوثيون مسئوليتهم عن الهجوم وهو الأمر الذي أثار شكوك معظم الدبلوماسيين والخبراء نظراً لعدم مقدرة الحوثيين على شن هذه النوعية من الهجوم باستخدام تكنولوجيا متطورة. ومن المرجح أن تكون المسؤولية ملقاة على عاتق القوات الشيعية المحلية الداعمة لإيران، أو الوكلاء الإيرانيين الذين استفادوا من التواطؤ داخل أسر الأمراء المسجونين في فندق ريتز كارلتون في الرياض.
تغيير في التحالفات
في الحقيقة، وبغض النظر عن الراعي لتلك الهجمات، تُظهر هذه الاعتداءات قبل كل شيء الهشاشة الشديدة التي أصبحت فيها السعودية اليوم فهي عاجزة عن توقع الهجمات، والدفاع عن نفسها بمفردها، وخاصة بعدما تخلَّت عنها حليفتها الرئيسية: الولايات المتحدة.
وأصبح الأمريكيون ملوك النفط الجدد بإنتاج بلغ 12 مليون برميل يومياً في فبراير/شباط الماضي، بينما انخفضت واردات الخام إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1996. وهو استقلال في مجال الطاقة سمح لهم بمراجعة وضعهم الاستراتيجي تجاه السعوديين، ولم يعُد ميثاق كوينسي الشهير الموقع بين روزفلت وبن سعود في عام 1945 (النفط مقابل الحماية) ضرورياً من الناحية العملية.
ومن ثم، صارت الصين العميل الأول لشركة أرامكو السعودية وليس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي له دلالة خاصة، ولكن حتى لو لم يعد الأمريكيون بحاجة إلى نفط أجنبي، فالسعودية بحاجة إلى حماية أكثر من أي وقت مضى.
ترامب رفع سقف التوقعات السعودية
في مايو/أيار 2017، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرياض كوجهة لأول رحلة رسمية له، حيث اعتقد السعوديون أن التحالف سيظل قائماً. وبعد مرور ثلاث سنوات، وجدوا بمرارة أن هذه «الصداقة» كانت مجرد مظهر. وفي أعقاب تلك الهجمات، اتهمت الولايات المتحدة، إيران بمسؤوليتها عن الأمر وأرسلت نحو 3000 جندي إلى المملكة، لكنها حرصت على عدم إطلاق «النار» على طهران. ولم يكن رد الفعل الأمريكي، إن لم يكن مغيَّباً تماماً، على سقف التوقعات السعودية.
مثل ما حدث مع الأكراد السوريين بعد أسابيع قليلة من هجمات أرامكو، أدرك السعوديون أن الولايات المتحدة تختار الآن العزلة. لقد جعل ترامب من الانسحاب من «الحروب التي لا نهاية لها» واحداً من الشعارات الرئيسية في حملته الانتخابية. وإذا كان هذا الهدف يستحق الثناء – نتذكر عُقم الحرب في العراق في عام 2003 – فلا يعني ذلك التخلي عن الحلفاء التاريخيين بين عشية وضحاها، في تحدٍّ لكل القواعد التي تحكم العلاقات الدبلوماسية. ولكن بعد ما يقرب من عشرين عاماً من الحرب في المنطقة، لم تعُد الولايات المتحدة تدعي أنها بمثابة الدولة الحامية في الشرق الأوسط، أو حتى في العالم.
القوة الإقليمية الأبرز
إذا انسحب الحليف الرئيسي للدول العربية من اللعبة، فإن كل التوازنات الاستراتيجية التي حكمت الشرق الأوسط حتى الآن صارت مضطربة. ومن الأن فصاعداً، ستتم عملية إعادة مواءمة نحو القوة الإقليمية الرئيسية الوحيدة: إيران.
أول مَن أدرك هذا الأمر هي الكويت وبشكل خاص الإمارات العربية المتحدة، اللتين سحبتا قواتهما تدريجياً من الصراع اليمني وتقاربتا من طهران للدفاع عن مصالحهما الخاصة، على حساب مصالح حليفهما السعودي، وهو الأمر الذي يحدث لأول مرة منذ خمسة أعوام.
لم يعُد لدى السعودية خيار آخر، بعد تركها بمفردها شيئاً فشيئاً والذي أضعفها الرفض الأمريكي للتدخل العسكري ضد إيران، وبعد 15 يوماً فقط من هجمات 14 سبتمبر/أيلول، عملت على إيجاد حل خاص بها. فقد بدأت محادثات مع إيران لنزع فتيل صراع محتمل، تعرف أنها لن تفوز به.
ولي العهد يبحث عن الحوار
وحشد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان العديد من الدبلوماسيين من دول «صديقة»، مثل باكستان والعراق، لتبادل الآراء مع نظرائهم الإيرانيين، والعمل على تهدئة التوترات بين الخصمين الرئيسيين في الشرق الأوسط.
رداً على ذلك، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن إيران سترحب بالسعودية بأذرع مفتوحة إذا كانت تفضل تلك الأخيرة الآن عقد تحالفات مع جيرانها الإقليميين، عوضاً عن طلب عون الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن عدم الثقة ما زال سائداً بين السعوديين والإيرانيين، فإن طهران أكثر انفتاحاً لفكرة التقارب كحد أدنى وهو ما من شأنه أن يخدم هدفها الرئيسي: إلغاء كل الجهود التي يقودها دونالد ترامب منذ أكثر من عام لعزل إيران، وأخيراً عزل السعودية عن حلفائها الإسرائيليين والأمريكيين في المنطقة.
بينما كان يعتقد أنه بمقدوره تفادي نزاع عسكري جديد، حتى على حساب التخلي عن حليف تاريخي، فمن المرجح أن يكون الرئيس الأمريكي هو الخاسر على جميع الجبهات. ففي داخل الإدارة الأمريكية، أشار مستشارون بالفعل إلى أن الجبهة المناهضة لإيران لن تدوم طويلاً. فاليوم، القوة الإيرانية هي القوة العسكرية الرئيسية في المنطقة. وستكون الدول العربية من بينها المملكة العربية السعودية مضطرة إلى تقديم تنازلات معها.