AP

هياكل عظمية تتحرك.. كيف تسبب الاتحاد الأوروبي في استعباد واغتصاب مئات النساء الإثيوبيات باليمن؟

كافحت زهرة وسط المياه الزرقاء لخليج عدن، وهي تُحاول الإمساك بأيادي رفاقها المُهاجرين. إذ خرج مئات الرجال والنساء والمُراهقين من القارب ليُصارعوا الأمواج، قبل أن يستلقوا مُرهقين على الشاطئ، في واحدة من موجات الهجرة الإثيبوية لليمن التي سيكون حظها عاثراً كسابقاتها.

شاهدت الإثيوبية (20 عاماً) رجالاً مُسلَّحين ببنادق آلية في انتظارهم على الشاطئ، فانقبض قلبها في ذعر. وكانت قد سمعت قصص المُهاجرين عن تُجَّار البشر القاسين، الذين يتربّصون مثل الوحوش في الكوابيس، ويُعرفون بلقب عبدالقوي

ففكَّرت زهرة في رأسها: «ماذا سيفعلون بنا؟».

كان ما ستراه زهرة أسوأ مما يمكن أن يتخيله بشر.

فزهرة واحدة من آلاف الإثيوبيين الذين قرروا الهجرة إلى السعودية عبر اليمن ولكن سيعلقون في أيدي تجار العبيد الوحشيين من اليمنيين أو الإثيوبيين المقيمين في هذا البلد الذي تمزقه الحرب.

هذه القصة هي جزءٌ من السلسلة المُتقطِّعة: «تعهيد المُهاجرين Outsourcing Migrants»، والتي تُنتج بدعمٍ من «مركز بوليتزر للإبلاغ عن الأزمات»، ونشرت في صحيفة The Columbian الأمريكية.

اغتصاب بدلاً من المال.. موجات الهجرة الإثيبوية لليمن تواجه الأسوأ

كانت زهرة هي و300 إفريقيٍ آخر قد تحمَّلوا للتو عذاب قضاء ست ساعاتٍ وهم محشورون داخل قارب تهريبٍ خشبي، لعبور المضيق الضيق بين البحر الأحمر والخليج. وحين حطوا الرحال، شحنهم تُجَّار البشر داخل الشاحنات واقتادوهم إلى مجمعاتٍ سكنية مُتداعية في الصحراء، بالقرب من بلدة رأس العارة الساحلية.

وهنا عرفت زهرة الإجابة عن سؤالها. إذ سُجِنَت لمدة شهرٍ داخل كوخ مسقوفٍ بالقصدير، وهي تُعاني الحرارة والجوع، ويُطلَب منها يومياً أن تتصل بعائلتها للتوسل إليهم أن يُرسلوا ألفي دولار في حوالةٍ بنكية. ولكنَّها قالت إنَّها لم تكُن لديها عائلةٌ تطلب منها المال، فطالبت بحريتها.

وبدلاً من منحها الحرية؛ اغتصبها خاطفوها. واغتصبوا 20 امرأةً أخرى كانت معها طوال أسابيع، وفي كل مرةٍ كان المُغتصب رجلاً مُختلفاً.

وقالت لوكالة Associated Press: «لقد استغلوا كافة الفتيات. كان الاغتصاب يحدث كل ليلة».

وفي ظل التعذيب المُمنهج؛ صارت رأس العارة بمثابة جحيمٍ على طريق الرحلة الشاقة، التي تمتد بطول 1,400 كيلومتر، من القرن الإفريقي وصولاً إلى المملكة العربية السعودية الغنية بالنفط. إذ يُغادر المُهاجرون منازلهم مُرتدين الصنادل، وهم يحلمون بالهرب من الفقر. ويسيرون وسط الجبال والصحاري والعواصف الرملية وحرارةٍ تصل إلى 40 درجة مئوية، ويقتاتون على فتات الخبز والماء المالح من الآبار القديمة.

إنهم يريدون السفر للسعودية بعدما أغلق الطريق إلى أوروبا

وفي جيبوتي، تهبط صفوف المُهاجرين الطويلة والمتراصة من المنحدرات الجبلية وصولاً إلى السهل الساحلي الصخري، حيث ترى أعينهم مياه البحر للمرة الأولى، قبل أن يصعدوا إلى متن القوارب. 

ويجد البعض طريقاً آمناً لعبور اليمن الذي مزَّقه الحرب وصولاً إلى السعودية، ليُقبض عليه ويُعاد إلى الحدود في النهاية. في حين يصل المحظوظون إلى داخل المملكة ليكسبوا قوتهم من العمل في وظائف الخدم والعمال.

ولكن البعض يعلق في كابوس اليمن -ويرجع هذا جزئياً إلى إغلاق أوروبا لأبوابها، وتعهيد المُهاجرين إلى دولٍ أخرى.

إذ بدأ الاتحاد الأوروبي في تمويل خفر السواحل والميليشيات الليبية لتوقيف المُهاجرين هناك، وإغلاق الطريق الرئيسي الآخر في وجه مُهاجري شرق إفريقيا، الذين اعتادوا القدوم من ليبيا وبطول سواحل البحر المتوسط المُطِل على أوروبا. وأدَّى ذلك إلى انخفاض أعداد عابري المتوسط من 370 ألف شخصٍ في عام 2016، إلى 56 ألفاً فقط حتى الآن في العام الجاري.

وفي الوقت ذاته، حطَّ أكثر من 150 ألف مُهاجرٍ الرحال في اليمن عام 2018، بزيادةٍ بلغت 50% عن العام السابق، بحسب «منظمة الهجرة الدولية».

وفي العام الجاري، وصل أكثر من 107 آلاف مُهاجر بحلول نهاية سبتمبر/أيلول، إلى جانب عشرات الآلاف الآخرين الذين من المُحتمل أن تكون المنظمة قد عجزت عن تعقُّبهم -أو لقوا مصرعهم على الطريق.

والحملة المدفوعة من أوروبا إلى وقف الهجرة أدت لاختفاء الوسطاء الموثوقين.. والبديل رأس العارة جحيم مركز النخاسة 

وربما أدَّت السياسات الأوروبية إلى زيادة خطورة طريق اليمن. إذ شنَّت إثيوبيا حملةً، مدعومةً من الاتحاد الأوروبي، ضد مُهرِّبي المُهاجرين وشدَّدت الرقابة على الحدود. وأدَّى اعتقال الوُسطاء المعروفين بين المُهاجرين إلى إجبارهم على الاستعانة بالتُجَّار غير الموثوقين، الذين يسلكون طرقاً أكثر خطورة، مما زاد خطورة الانتهاكات.

وينتهي المطاف بالكثير من أولئك المُهاجرين في بلدة رأس العارة.

ويتعرَّض كل مُهاجرٍ يصل إلى هناك تقريباً للسجن داخل المجمعات السكنية الخفية، بالتزامن مع ابتزاز عائلاتهم من أجل المال. ومثل زهرة، يتعرّضون لتعذيبٍ يومي يتراوح بين الضرب والاغتصاب والتجويع، في حين تبتلع أصوات مُولِّدات الكهرباء والسيارات صرخاتهم التي تضيع في سماء الصحراء.

وقال عامل إغاثةٍ يُراقب تدفُّق المُهاجرين: «يختفي 800 من كل ألف مُهاجر داخل تلك المعتقلات».

والنخاسون يتنوعون بين يمنيين وإثيوبيين

وتُجَّار البشر الذين يُجرون عمليات التعذيب هم مزيجٌ من اليمنيين والإثيوبيين المُنتمين إلى جماعاتٍ عرقية مختلفة. لذا لا يستطيع الضحايا اللعب على وتر الولاء القبلي، إذ يتعرَّضون للتعذيب على يد رجالٍ من جماعاتٍ عرقيةٍ أخرى. فإذا كان المُهاجر من شعب الأورومو؛ يكون الجلَّاد تغرينياً.

وفي الوقت ذاته، يحتاج المُهرِّبون اليمنيون إلى مُترجمين لنقل أوامرهم إلى المُهاجرين ومراقبة مُحادثاتهم الهاتفية مع عائلاتهم، لأنَّ الجماعات العرقية الرئيسية الثلاث لا تتحدَّث نفس اللغة.

وتحدَّثت وكالة Associated Press إلى أكثر من 20 إثيوبياً نجوا من التعذيب في رأس العارة. وأبلغوا جميعاً تقريباً عن أنَّهم شهدوا مقتل غيرهم، لدرجة أنَّ أحدهم لقي مصرعه بعد ساعاتٍ من مقابلة الوكالة معه.

والسلطات تترك تجار الرقيق يتحركون بحرية

وتتجاهل السلطات اليمنية عمليات السجن والتعذيب على نطاقٍ واسع. إذ شاهدت الوكالة شاحناتٍ مُحمَّلةٍ بالمُهاجرين تمُر دون رادعٍ عبر إحدى نقاط التفتيش العسكرية، في طريقها من الشواطئ لإنزال حمولتها البشرية في إحدى المجمعات السكنية داخل الصحراء، والتي تُعرف باسم «الحوش».

وقال محمد سعيد، ضابط خفر السواحل السابق الذي يُدير الآن محطة وقودٍ في قلب البلدة: «يتحرَّك تُجَّار البشر بحريةٍ في العلن، ويدفعون الرشاوى في نقاط التفتيش».

وتبعُد بلدة رأس العارة 50 ميلاً (80 كيلومتراً) تقريباً عن أقرب مدينةٍ لها من أيّ اتجاه. وتقطُنها ثمانية آلاف عائلةٍ تقريباً، داخل مجموعةٍ من البيوت الحجرية المُتداعية من طابقٍ واحد، بجوار طريقٍ ترابي، إلى جانب فندقٍ واحدٍ ومطعمين. وسوق السمك هو مركز النشاط في البلدة حين يصل الصيد اليومي.

وينتفع سُكان البلدة بالكامل تقريباً من تجارة البشر. إذ يُؤجِّر البعض أراضيه لتُجَّار البشر من أجل استخدامها بوصفها زنازين احتجاز، أو يعملون حراساً وسائقين ومُترجمين. وبالنسبة للآخرين، يُمثِّل التُجَّار الأثرياء سوقاً مربحةً لتسويق الطعام والوقود ونبات القات المُنشِّط، الذي يمضغه اليمنيون والإثيوبيون يومياً.

ويحفظ السكان المحليون أسماء التجار عن ظهر قلب. وأحدهم هو يمنيٌ يُدعى محمد العسيلي، ويُدير أكثر من 20 حوشاً. ويشتهر بسيارته الحمراء ذات الدفع الرباعي من شركة Nissan، والتي يقودها عبر أنحاء البلدة.

وتمتلك قبيلة الصبحة، واحدةٌ من أكبر قبائل جنوب اليمن، أكثر من حوشٍ أيضاً. ويشتهر أبناء القبيلة بانخراطهم في الأعمال غير المشروعة. ويُطلق اليمنيون على الصبحة وصف «قُطَّاع الطُرق» الذين لا يمتلكون أي ولاءاتٍ سياسية لأيٍ من الأطراف المُتحاربة.

إثيبويون يستعدون للترحيل لبلادهم/رويترز

ويتحدَّث العديد من التُجَّار علناً عن أنشطتهم، لكنهم يُنكرون التعذيب ويُلقون باللوم على التُجَّار الآخرين.

وكان المُهرِّب اليمني علي حواش مُزارعاً في السابق، قبل أن يدخل عالم التهريب منذ عامٍ واحد. وأعرب عن احتقاره للمُهرِّبين الذين يفترسون المُهاجرين الفقراء، ويُعذِّبونهم، ويحتجزونهم رهائن حتى يدفع أقاربهم الفدية.

وقال: «اعتقدت أنَّنا يجب أن نسلك طريقاً مُختلفاً. سأُساعدك على الذهاب إلى السعودية، وعليك أن تدافع تكاليف العبور والتنقُّلات فقط. هذا هو اتفاقي».

ولا يتوقَّف تدفُّق المُهاجرين على الشاطئ. إذ شهدت Associated Press في يوم واحد، الـ24 من يوليو/تموز، سبعة قوارب ترسو في رأس العارة واحداً تلو الآخر بدءاً من الساعة الثالثة صباحاً، وكلٌ منها يحمل على متنه أكثر من 100 شخص.

وحينها خرج المُهاجرون من القوارب إلى المياه الفيروزية. وانهار أحد الشباب على الشاطئ بقدمٍ مُتورِّمة. في حين خطت امرأةٌ فوق شيءٍ حادٍ في المياه وسقطت وهي تصرخ من الألم. وغسل آخرون ثيابهم وسط الأمواج للتخلُّص من آثار القيء والبول والبراز التي علقت بها طوال الرحلة الوعرة.

واصطف المُهاجرون ليدخلوا الشاحنات. وتمسّكوا بالقضبان الحديدية في مؤخرة الشاحنة أثناء رحلتهم على الطريق السريع. وعند كل مُجمَّعٍ سكني، كانت الشاحنة تُفرِغ مجموعةً من المُهاجرين، مثل باص المدرسة الذي يُنزِل الطُلَّاب. ثم يختفي المُهاجرون داخل المُجمَّع.

«أريدها»

ومن وقتٍ لآخر، يهرب الإثيوبيون من سجنهم أو يُطلق سراحهم، ليخرجوا من الصحراء إلى المدينة. إذ احتُجِزَت إيمان إدريس (27 عاماً)، وزوجها، لثمانية أشهرٍ بواسطة مُهرِّبٍ إثيوبي. واستعادت ذكريات الضرب الوحشي الذي تعرَّضوا له، والذي ترك ندبةً على كتفها. وتلقَّى المُهرِّب 700 دولارٍ ليصطحبها إلى السعودية، لكنه رفض تركها تذهب لأنَّه «كان يُريدها».

ويشعر سعيد، مالك محطة الوقود، بالهلع من آثار التعذيب التي شهدها. لذا حوَّل محطته، ومسجداً قريباً، إلى ملاذٍ للمُهاجرين. لكن السكان المحليين يقولون إنَّ سعيد أيضاً ينتفع من تجارة البشر عن طريق بيع الوقود لقوارب وشاحنات المُهرِّبين. ولكن هذا يعني أيضاً أنَّ المُهربين بحاجةٍ إليه، لذا يتركونه وشأنه.

وفي اليوم الذي زار خلاله فريق Associated Press البلدة، وصل العديد من الشباب الذين خرجوا لتوهم من أحد المجمعات السكنية إلى محطة الوقود. وظهرت جراحٌ عميقةٌ على أذرعهم من الحبال التي كانت تربطهم. وقال أحدهم، الذي كان يحمل ندوباً نتيجة الجلد بكابلٍ كهربائي، إنَّ النساء المسجونات معه تعرَّضن جميعاً للاغتصاب، في حين مات ثلاثة رجال.

إثيوبي يعذب أخاه الإثيوبي

أما إبراهيم حسن، فكان يرتجف وهو يشرح للفريق كيف رُبِطَ إلى كرةٍ ويداه مُكبَّلتان خلف ظهره، وركبتاه مُقيَّدتان إلى صدره. وقال الشاب (24 عاماً) إنَّه ظل مربوطاً بهذه الطريقة لمدة 11 يوماً، وكان يتعرَّض للضرب باستمرار. وأضاف أنَّ جلَّاده كان إثيوبياً مثله ولكن من جماعةٍ عرقيةٍ مُنافِسة، التيغراي، في حين أنَّ إبراهيم من الأورومو.

وقال حسن إنَّه قد أُطلِق سراحه بعد أنَّ ذهب والده من باب إلى باب في قريته لاقتراض المال، حتى جمع مبلغ الـ2,600 دولار الذي طلبه المُهرِّبون.

وتابع حسن، وهو يذرف الدموع: «عائلتي شديدة الفقر. فوالدي مُزارعٌ ولدي خمسة أشقاء».

هياكل عظمية تتحرك

ويُعَدُّ التجويع أحد وسائل التعذيب التي يستخدمها التُجَّار لإرهاق ضحاياهم.

وداخل مستشفى رأس العارة، جلس أربعة رجالٍ يُشبهون الهياكل العظمية الحية على الأرض، يلتقطون حبات الأرز من وعاءٍ بأصابعهم النحيفة. وبرزت العظام من ظهورهم، في حين كانت أضلاع صدورهم شديدة الوضوح. 

وكانوا يجلسون فوق قماشٍ مطوي لأنَّ الجلوس على العظام مباشرةً كان مؤلماً للغاية، خاصةً في ظل عدم وجود دهون في أجسادهم. وقالوا إنَّ التجار أبقوهم سجناء لشهور طويلة، وكانوا يُطعمونهم مرةً واحدةً في اليوم قطعةً من الخبز ورشفةً من الماء.

وقال أحدهم، ويُدعى عبده ياسين (23 عاماً)، إنَّه اتّفق مع المُهرِّبين في إثيوبيا على دفع حوالي 600 دولار مُقابل الرحلة التي تَمُرُّ باليمن وصولاً إلى الحدود السعودية. ولكن حين وصل إلى رأس العارة، اصطحبه التجار إلى المُجمَّع السكني مع 71 مُهاجراً آخر، وطالبوه بدفع 1,600 دولار.

وبكى وهو يروي كيف احتُجِزَ لمدة خمسة أشهر، وتعرَّض للضرب باستمرارٍ في أماكن مُختلفة. وكشف عن العلامات التي تركها الجَلد على ظهره، والندبات على ساقيه حيث كانوا يُلصِقون الفولاذ الساخن على جِلده. 

وأُصيب إصبعه بالالتواء بعد أن هشّموه بحجر. لدرجة أنَّهم ربطوه من قدميه وعلَّقوه رأساً على عقب «مثل الخروف المذبوح».

لكن الأسوأ كان التجويع.

إذ قال: «لا تستطيع ساقاي حمل جسدي من شدة الجوع. لم أُبدِّل ملابسي منذ ستة أشهر. ولم أستحم. وليس لدي شيء».

وبالقرب من الرجال الأربعة، استلقى رجلٌ هزيلٌ فوق نقَّالةٍ بمعدةٍ مُقعَّرة وعيون مفتوحةٍ لا ترى. وأعطته الممرضات الكثير من الوسائل، لكنه فارق الحياة بعد بضع ساعات.

لا نستطيع العودة لبلادنا حتى بعد أن أطلقوا سراحنا

ولكن التعذيب الذي يترك الشباب والشابات مُحطَّمين جسدياً وعقلياً، يتركهم عالقين أيضاً.

إذ قالت زهرة إنَّها سافرت إلى اليمن «لأنَّني أردت تغيير حياتي».

وخرجت زهرة من عائلةٍ مُحطَّمة. إذ كانت طفلةً حين انفصل والداها. واختفت والدتها، في حين تزوَّج والدها المُهندس مرةً أخرى، لكنَّه لم يكُن يريد زهرة أو أخواتها. 

وتركت زهرة المدرسة بعد الصف الثالث. وعملت خادمةً في جيبوتي لسنوات، حيث كانت تُرسِل غالبية أرباحها لشقيقتها الصُغرى في إثيوبيا.

وحين اكتشفت أنَّها عاجزةٌ عن توفير أي أموال، قرَّرت أن تُجرِّب حظها في مكانٍ آخر.

وتحدَّثت بصوتٍ خافت أثناء وصف العذاب الذي عانت منه داخل المُجمَّع السكني.

وقالت: «لم أستطع النوم على الإطلاق طوال تلك الأيام»، لأنَّها كانت تُعاني من الصداع.

واحتُجِزَت هي والنساء الأخريات داخل ثلاث غرفٍ بالكوخ، حيث كن ينمن على أرضيةٍ قذرة، ويختنقن من حرارة الصيف. وكن جائعات طوال الوقت. وأُصيبت زهرة بالطفح الجلدي والإسهال والقيء.

وحاولت مجموعةٌ الفرار أثناء السماح لها بالاغتسال في بئر خارج الكوخ. فاستخدم التجار الكلاب لمطاردتهن، وأعادوهن إلى المُجمَّع ليبرحوهن ضرباً.

وقالت زهرة: «لا يُمكنكم أن تتخيلوا الصراخ الذي سمعناه». بعدها، صار مسموحاً لهن أن يغتسلن تحت تهديد السلاح فقط.

وفي النهاية، فتح الخاطفون البوابات في صباح أحد الأيام، وطلبن من زهرة وبعض النساء الأخريات الرحيل. ومن الواضح أنَّ التجار فقدوا الأمل في الحصول على الأموال منهن، وكانوا يرغبون في إفساح المجال لمُهاجرين آخرين.

وتعيش زهرة الآن في البساتين، الضاحية الفقيرة الواقعة على أطراف مدينة عدن اليمنية، حيث تتقاسم غرفةً مع ثلاث نساءٍ أُخريات تعرَّضن للتعذيب أيضاً.

لا تعرف عدد مرات اغتصابها

ومن بين النساء الثلاث شابة في الـ17 من عمرها، تُطقطق أصابعها بتوتُّر وتتجنَّب التقاء عيونها بعيون الآخرين. وقالت إنَّها تعرَّضت للاغتصاب مراتٍ أكثر مما يُمكنها أن تُحصيه.

وكانت المرة الأولى خلال عبور القارب من جيبوتي، حيث كان مُكتظاً بأكثر من 150 مُهاجراً. ولم يعترض أحدٌ، خوفاً من المُهرِّبين، حين تناوب القبطان وطاقمه اغتصابها هي وتسع نساءٍ أُخريات على متن القارب خلال الرحلة التي استغرقت ثماني ساعات.

وأضافت: «أنا عاجزةٌ عن وصف ما حدث على القارب».

وبمجرد وصولها، اصطُحِبَت هي والأخريات إلى مُجمَّع سكني، حيث تعرَّضت للاغتصاب مرةً أخرى -يومياً وعلى مدار أسبوعين.

وقالت: «عِشنا 15 يوماً من الألم».

وأعربت زهرة عن قلقها من احتمالية الحمل، في حين قالت الشابة الصغيرة إنَّها تشعر بالألم في بطنها وظهرها نتيجة عمليات الاغتصاب -لكن كلتاهما لا تستطيعان تحمُّل تكلفة زيارة الطبيب.

ولا تمتلكان أيضاً المال الكافي لاستئناف الرحلة.

وقالت ابنة الـ17 عاماً: «لا أمتلك شيئاً سوى الثياب التي أرتديها». إذ فقدت كل شيء، حتى الصورة الوحيدة التي كانت تملكها لعائلتها.

وتشعر الآن بالخوف من فكرة الخروج من غرفتها في البساتين حتى.

وأضافت: «إن خرجنا من هنا، لا نعلم ما الذي يُمكن أن يحدث لنا».

باع الثور ليشتري سيارة

وتعُجُّ ضاحية البساتين بالمُهاجرين الذين يعيشون داخل أكواخٍ قذرة. ويعمل بعضهم في محاولةٍ لكسب المال الكافي لمواصلة الرحلة.

في حين يُعاني آخرون، مثل عبدالرحمن طه، دون أمل.

إذ إنَّ طه هو ابن مزارعٍ شديد الفقر، وسمع قصصاً عن الإثيوبيين الذين عادوا من السعودية بأموالٍ تكفي لشراء سيارةٍ وبناء منزل. لذا تسلَّل من منزله وبدأ السير. وحين وصل إلى جيبوتي، اتصل بعائلته وطلب 400 دولار حتى يُرتِّب المُهرِّبون رحلته لعبور اليمن. وغضب والده، لكنَّه باع ثوراً وبعض الماعز ليُرسل إليه المال.

وحين وصل طه إلى رأس العارة، اصطحبه التجار مع 50 مهاجراً آخر إلى زنزانة احتجاز، وصفّوهم في طابور طويل، ثم طلبوا أرقام الهواتف. ولم يستطع طه أن يطلب أموالاً أخرى من والده، لذا أخبرهم أنَّه لا يمتلك رقماً. وعلى مدار الأيام والأسابيع التالية، تعرَّض للضرب وتُرك دون طعامٍ أو ماء.

وفي إحدى الليالي، أعطاهم رقماً خاطئاً. فاستشاط التجار غضباً. لدرجة أنَّ أحدهم، وهو يمنيٌ ملتحٍ وضخم الجثة، ضرب ساق طه اليُمنى حتى أدماها بقضيب فولاذي. ففقد طه الوعي.

وحين فتح عينيه مرةً أخرى، رأى السماء. لقد كان مستلقياً على الأرض خارج المُجمَّع. إذ كان التجار قد ألقوه هو وثلاثة مهاجرين آخرين في الصحراء. وحاول طه تحريك الآخرين، لكنهم لم يتحركوا -لقد كانوا موتى.

واصطحبه سائقٌ عابر إلى المستشفى، حيث بُتِرَت ساقه.

وتقطَّعت السُبل بطه، الذي يبلغ من العمر الآن 17 عاماً. إذ مات والده في حادث سيارةٍ قبل بضعة أشهر، وترك شقيقة طه وإخوته الأربعة الأصغر سناً ليعيلوا أنفسهم في أرض الوطن.

واختنق طه بالدموع. وتذكَّر محادثةً هاتفية أجراها مع والده، الذي سأله: «لماذا غادرت؟».

فأجابه طه: «الحياة لا تُطاق بدون عملٍ أو مال».

ويبقى الوضع على ما هو عليه.