عبدالرحمن العمري

"ربُ بالسبع المثاني".. عبد الرحمن العِمْرِي، صوتٌ من زمن الكبار (بورتريه)

حين نتحدث عن فن الإنشاد في اليمن منذ مطلع الثمانينيات وحتى الآن لا نستطيع أن نتجاوز عبدالرحمن العِمْرِي كصوت احتلَّ صدارة كل الأصوات في اليمن.

 

رأيتُه في الثمانينيات على شاشة التلفاز، بالأبيض والأسود، وهو ينشد (ربِّ بالسبع المثاني).. كنت في التاسعة من عمري، وكان عبد الرحمن في الثالثة عشرة تقريباً.. كنت أبقى مندهشاً أمام التلفاز، أحدِّق فيه لأرى من أين يخرج ذلك الصوت الذي كنت أفشل في تقليده، ولم أكن أستوعب معظم الكلمات لصغر سني حينها، ولانشغالي بتأمل هذا الطفل الذي يمتلك صوتاً غريباً عن عالمي الصغير.

 

شاهدته عن قُرب في مطلع التسعينيات خارج شاشة التلفزيون للمرة الأولى في حفل عرس أحد أقربائي الميسورين، فحين كان عبد الرحمن الأغلى أجراً كان أغلب منشدي صنعاء مُتاحين، أما عبدالرحمن فكان محجوزاً باستمرار، لحرص الكثير من العرسان على أن يكون عبدالرحمن العِمْرِي هو الذي يزفُّه في ليلة عرسه، باعتبارها الليلة الوحيدة في العمر التي سيحظى فيها بوجود صوت العِمْرِي.

 

في ذلك العرس، كنت أتأمل يده الصغيرة وهو ممسك بالمايكروفون، وأتأمله وهو يشدو بكل أحاسيسه مع الإنشاد إلى حدِّ القشعريرة.

 

لم أحاول أن أقترب منه، لأنه مشهور ويظهر في التلفزيون.. كنت أظن حينها أنه لا يتحدث مثلنا، لاعتقادي الطفولي أن كل حديثه إنشاد، وكل ما يريده يقوله بواسطة الإنشاد.

 

عبد الرحمن العِمْرِي خُلق ليكون فناناً.. فقد بدأ الإنشاد وعمره أربع سنوات، وظهر على شاشة التلفزيون في برنامج (كلام موزون)، وبرنامج (عرب سات). وأيضاً إذاعة صنعاء عام 1984م.

 

كان يشدو كبُلبُل، دون أن يعرف معنى المقامات، ودون أن يخبره أحد عن طبقات الصوت، ودون أن يدري إلى أية طبقة ينتمي إليها صوته.. ولا أظنه كان معنياً بهذه المعرفة، لأن من يمتلك صوتاً كهذا لن يفكر بتأطيره ضمن طبقة معينة، لأنه كان يصعد كل الطبقات.. حتى السُّلم الموسيقي لم يكن يعرفه حينها.. فما حاجة الطائر إلى السُّلَّم؟

 

كان عبد الرحمن يذهب إلى عمِّه محمد، عصر كل يوم أثناء مقيله، وكان هذا العم يعرف أي موهبة يمتلكها ابن أخيه، فكان يطلب منه أن يُسمعه هذه الأنشودة أو تلك.. ولحرص هذا العم على توثيق هذه الدهشة كان يضع شريط كاسيت ويسجل ما يشدو به عبد الرحمن، ثم يُسمعه حين ينتهي، ويضرب بيده على كتف عبدالرحمن مشجعاً ومباركاً هذه الموهبة التي كانت تفوق سنوات عمره الثمان.. بعكس أبيه الذي كان فلاحاً ولم يكن يخطر بباله إلا أن يكون ابنه فلاحاً مثله، ولا جدوى من جمال الصوت في مواسم البذر والحصاد.. لأن الزراعة في نظره تعني الحياة والمال.

 

ولد عبد الرحمن بصنعاء عام 1973م، ودرس حتى المرحلة الإعدادية في مدرسة جمال عبدالناصر، لأنها الأقرب إلى بيته الذي ما زال يسكن فيه حتى اللحظة، وكان أشهر تلميذ في المدرسة.

 

كما درس القرآن على يد المقرئ الراحل محمد حسين عامر، ودرس النحو والفقه، وقد كان المقرئ الراحل محمد حسين عامر هو الراعي الأول له.

 

قبل بضعة أشهر كان الفنان الكبير أيوب طارش في لقاء مع قناة (يمن شباب).. سأله المذيع عن أجمل صوت سمعه في حياته وترك أثراً في نفسه، فقال أيوب: صوت عبد الرحمن العِمْرِي.

 

التقيتُه صدفةً في مقيلٍ أخذني إليه صديق، ليفاجئني بوجود عبدالرحمن العِمْرِي، لمعرفته بشغفي بهذا الصوت.. كان ذلك قبل أربع عشرة سنة. وأثمر هذا اللقاء عن لقاءاتٍ عمَّدت هذه الصداقة التي كانت تكبر كل يوم.. فعرفتُ عبدالرحمن الإنسان غير عبدالرحمن المنشد.. عبدالرحمن الواقع غير عبدالرحمن الصوت.. عبدالرحمن الـمَرِح غير عبدالرحمن الواقف أمام كاميرات التلفزيون.. عبدالرحمن المتمرد غير عبدالرحمن الرزين في حفلات الأعراس. اكتشفتُ فيه إنساناً لا يراه إلا من جالسه طويلاً واستطاع التوغل في تفاصيله، والتحليق معه في مستوى تفكيره ونظرته للعالم والناس والحياة.

 

 عبدالرحمن ليس منشداً فقط، فهو مثقف وقارئ وعازف ولُغوي ومُلحِّن وشاعر.. أطلق عليه الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني ` لقب “شاعر القبور”، نظراً لقصائده التشاؤمية، وكان صديقاً للشاعر الراحل إبراهيم الحضراني، وفيه كتب الحضراني أغنية “لا عتب لا عتب” التي غناها الفنان فؤاد الكبسي.

 

عبدالرحمن العِمْرِي معروف على الصعيد العربي، فقد شارك في مصر، وشارك في إيطاليا، وفي المهرجان اليمني في بريطانيا سنة 1998م.. كان الفنان محمد حمود الحارثي حاضراً، ومن ضمن المدعوين في ذلك المهرجان الشاعر عبدالله البردوني، لكنه كان مريضاً في الأردن، وكان عبدالرحمن العِمْرِي يقرأ قصائده نيابة عنه.

 

من المعروف أن المصريين يعشقون أم كلثوم إلى درجةِ أنهم لا يرون أحداً يستطيع إجادة أغانيها، وحين صعد عبدالرحمن العِمْرِي على مسرح دار الأوبرا المصرية كانوا يظنون بأنهم سيسمعون شيئاً اعتيادياً، لكنه خيَّب توقعاتهم وجعلهم يفتحون أفواههم ويرفعون حواجبهم من الدهشة حين غنى لأم كلثوم أغنية “الورد جميل”، التي كانت مادة فنية جديدة تبثها القناة المصرية الرسمية بين حين وآخر.

 

يرى عبدالرحمن أن الإنشاد مصحوباً بالإيقاعات والفرق الجماعية والنُّوت، يجعل هذا الفن يتلاشى، لأن المنشد لا يحتاج إلا إلى صوته فقط حين يؤدي الموشحات أو الفن الصنعاني، لأن الإيقاعات ربما تدفع الإنشاد إلى الذوبان في الألوان الغنائية.. لذلك نجد له الكثير من الأغاني التي كان فيها العود حاضراً، لكن ليس هناك أنشودة أدَّاها بأي إيقاع.

 

عزف له الفنان يحيى العرومة في أغنية (لله ما يحويه هذا المقام)، وهي واحدة من عيون الفن الصنعاني الحُميني التي جدَّدها العِمْرِي وأضاف إليها بصمته المتمثلة في الأداء، والتلاعب بـ”عُرَب الصوت” بحرفية لا يجيدها سواه. كان ذلك في منزل نزار غانم، وقام بتسجيلها بذلك النقاء شخص من نيوزلاندا مهتم بالتراث اليمني.

 

كما عزف له الفنان عبود خواجة بعضاً من الأغاني اليمنية، إلى جانب أغاني أم كلثوم، أشهرها (الحب كله)، التي غناها في جلسة مفتوحة على شاطئ مدينة المكلا، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتلك الأغاني التي كان يسجلها دون أن يهتم بنسخها لديه، أو نشرها على اليوتيوب، إذ لا يعنيه ما ستحدثه هذه الأغنية أو تلك من صدى.

 

غاب لفترة من الزمن عن الظهور، وتوقف عن الإنشاد، ومع ذلك لم ينسَ أحد ماذا يعني وجود صوت عبدالرحمن على ساحة الإنشاد.. ثم ظهر على شاشة التلفزيون بأنشودة (دع ما سوى الله واسأل) للشاعر الراحل جابر رزق.. ولم يحتج لوقت كي يتذكره الناس، فصوته “موغلٌ في عصب الوقت ومحفورٌ في أخاديد الذاكرة”، ومثلُه لا يُنسى.

 

كانت أنشودة (دع ما سوى الله واسأل) بمثابة تحدٍّ مع نفسه، لأنها واحدة من القصائد التي تحتاج موهبة خاصة لأدائها، لأنها لا تشبه القصائد التي يؤديها المنشدون، ولا تشبه القصائد التي يكتبها الشعراء على الأوزان المعروفة.. فالشاعر الراحل جابر رزق لم يكن يكتب القصيدة بطريقة “الصدر والعجز” كما هو المتعارف عليه، ولم يكن البيت الشعري لديه شطرين فقط، فقد كان جابر رزق يكتب البيت من ستة إلى ثمانية أشطُر، كما هو الشاهد في هذه القصيدة، وفي قصيدة (عالم السِّر منا).. ولأن جابر رزق شاعر مُجدد في أوزان القصيدة فقد كان له أوزانه الخاصة، لذلك أسمى ديوانه (زهر البستان في غريب الألحان).

 

اجتاز عبد الرحمن هذا التحدي في أداء أنشودة (دع ما سوى الله واسأل)، وتجاوز كل منشدي اليمن بوضع بصمته الخاصة عليها، حتى لا تكاد تُذكر هذه القصيدة إلا ويُذكر معها عبدالرحمن دون سواه.

 

ظهر بعد ذلك على شاشة قناة اليمن الرسمية عام 2010م في حوار تلفزيوني أدَّى فيه بعض الموشحات والأناشيد اليمنية، وبعض الأغاني المصرية أيضاً، التي كان منها أغنية “ضاع حبك”.

 

ثم عاد للظهور التلفزيوني مجدداً في أوبريت (لبيك يا وطني)، الذي أعدَّته وزارة الثقافة، واشترك به معظم منشدي وفناني اليمن عام 2017م.

 

أما أقدم مقابلة مرئية فكانت في قناة (صنعاء)، أجراها معه المذيع عبدالملك السماوي، منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، في أواخر الثمانينيات.. حينها سأله المذيع عن معنى الأداء الصوتي، فقال له عبدالرحمن: “بعض الناس يعتقد أن الإنشاد والغناء سواسية، وهذا خطأ كبير، لأن الإنشاد يفيد بمعنى التحليق، أما الغناء يفيد بمعنى الطرب”، والكثير من هذا الكلام الذي جعله يبدو كرجلٍ عركته الحياة بتجاربها، رغم أنه كان حينها في الرابعة عشرة من عمره.

 

تلا ذلك حوار تلفزيوني على قناة (اللحظة) الفضائية في برنامج (صباح الرضا)، وأنشد حينها قصيدة أحمد شوقي (سلُوا قلبي)، وأغنية (الحب كله)، إضافة إلى بعض المقاطع من الإنشاد اليمني التي انتشرت في مواقع التواصل بسرعة مذهلة، وتحت عناوين منبهرة بهذا الأداء.

 

من أكثر الأناشيد والنصوص التي يرددها العِمْرِي في الحفلات والجلسات الخاصة أغنية (لا عتب لا عتب)، و(دع ما سوى الله واسأل)، و(يا إله العباد، العبد واقف على الباب)، و(رب حسن الـمَخْتَمْ شانُك الكرم)، و(عالم السرِّ منا)، و(ربِّ بالسبع المثاني)، و(يا بديع السماوات يا نعم الوكيل).. أما في المآتم فإنه يشدو بموشح (الصبرُ حصنُ الفتى والسُّور)، وقصيدة المعري (غير مُجدٍ في ملِّتي واعتقادي)، و(محمدٌ سيِّدُ الكونين).

 

ورغم أن عبدالرحمن العِمْرِي من أهم أعمدة الإنشاد اليمني، إلا أنه يتوارى عن الأضواء عنوةً، فالشهرة ليست في حساباته، لأنه يريد أن يظهر متى شاء، متحرراً من الالتزامات الوظيفية، ولا يرغب بأن تتحكَّم الوظيفة في وقته، لذلك هو ليس موظفاً ولا مرتبطاً اجتماعياً، لأنه يرى نفسه عصفوراً طليقاً يغرد متى شاء دون أن يُلقِّـنـه أحدٌ ما يقول.

 

 قد يستغرب الكثيرون حين يعرفون أن عبدالرحمن العِمْرِي لا يمتلك جوالاً، وليس له حتى صفحة في الفيس بوك، أو قناة على اليوتيوب. ولأنه من أشهر فناني صنعاء ومنشديها فهناك العشرات من الصفحات الخاصة والعامة في الفيس بوك باسمه، دون أن يعرف عنها أو عمَّن يديرها شيئاً.