عائشة الجعيدي
أين تُصنّع الموسيقى؟ كان هذا السؤال يطرق جدران مخيلتي منذ الطفولة؛ من الذي يصنع الموسيقى، يروضها، ويحبسها في الآلات تارة ثم يطلقها حرة على هيئة نغمات تجعلنا نسترخي ونتذكر ونبكي، أو ننتشي ونتمايل ونرقص؟
تحيط بنا الموسيقى و ترافقنا مرافقة محيطنا لنا في هيئة إيقاع السكين على لوح تقطيع الخضروات في المطبخ، في تغريد العصافير و صرير الريح الخافت حين تتسلل من ثقوب النوافذ بعد ليلة ماطرة. و لكني بقيت دوماً في ذهول إزاء من يغزل صوت البيانو، أو ينحت صوت الكمان أو التشيلو و من يستدعي صوت العود وقتما أراد.
عندما قابلت علاء لأول مرة في أمسية شعرية؛ كانت تلك هي المرة الأولى التي أقابل فيها شخصًا يصنع الموسيقى؛ يعرفها وتعرفه، يراودها عن نفسها، وتلين بين يديه.
علاء هو شاب يبلغ من العمر ثلاثين عاما، درس إدارة الأعمال ويعمل في مجاله بمدينة المكلا الساحلية بمحافظة حضرموت؛ ولكن حادثًا مؤلمًا طرأ على حياته ووجهها في منحى آخر تمامًا.
نشأ علاء في أسرة فنية؛ فقد امتلك جده الأكبر “معين الدين” معهدًا للموسيقى في مدينة حيدر أباد الهندية، تخرج منه جده الأستاذ غلام عام 1884عازفًا على آلة “الهارمونيكا” والطبلة الهندية فاستقدمه أحد سلاطين الدولة القعيطية المعروفين بروابطهم القوية بالهند إلى مدينة المكلا ليعمل في مراسيم القصر السلطاني وهكذا استقر الأستاذ غلام في المكلا منذ عام 1905وذاع صيته بين الناس كونه الفنان الذي أدخل الإيقاع الهندي المعروف على الموسيقى الحضرمية والتصق به لقب “أستاذ” أيضا لأنه كان أول من امتلك ستوديو للتصوير الفوتوغرافي وعلمه للكثيرين وأصبح العامة يستخدمون لقب الأستاذ بدلًا عن اسمه فكانوا ينادون أبناءه أنور أستاذ غلام، شفيقة أستاذ وهكذا.
بمرور الوقت واكتساب العائلة احترام وتشجيع المجتمع الحضرمي العاشق للفن المرئي والمسموع نمت موهبة والد علاء الفنان أنور غلام الذي أصبح فنانا تشكيليا وعازفا على آلة العود حتى يومنا هذا. أما أخو علاء الأكبر، معين غلام، فقد كان له كذلك نصيب من الموهبة و القدرة على العزف على العود بالإضافة للغناء حتى أنه حاز على جوائز أهمها جائزة رئيس الجهورية للغناء عام 2008، ولعل هذا الأخير كان صاحب الأثر الأكبر على علاء؛ فقد علمه أساسيات العود وبعض الجمل والسلالم الموسيقية و كان معه على الدوام ليشق طريقه نحو الاحتراف.
ولكن فجأة وبدون أي مقدمات اختطف القدر فنان العائلة الشاب معين في عام 2014 ليرحل مبكرًا عن هذه الحياة تاركًا عميق الأثر في أخيه الأصغر علاء الذي خيّم عليه الحزن وجعله ينزوي عن كل ما يعيد شريط ذكرياته فهجر العود وانغمس في مشاغل الحياة الاعتيادية على أمل تناسي الفاجعة.
مرّت الأعوام وأنهى علاء دراسته وعاد ليتأمل بخجل ذلك الصديق القديم الذي ظلّ وفيًا لهذه العائلة الفنانة رغم تكاثر الغبار عليه، بدأ يتحسس تفاصيله ويدوزن أوتاره ويحاول تذكر ما علمه إياه أخوه.
صحيح أن علاء قرر أن يعود للعود ولكن من باب آخر يطمح من خلاله أن يدوّن اسمه بين الكبار ألا وهو مجال صناعة العود.
وجد علاء أن كبار صناع العود حاليا ينحدرون من العراق أو مصر أو الكويت أو البحرين أو سوريا، وهذا جعله يسترجع تاريخ العود في اليمن منذ آلة “القنبوس” أو الطربي و إتقان اليمنيين لهذه الحرفة في السابق مما شكل له حافزا لصناعة هذه الآلة في اليمن بالشكل الذي يستطيع أن ينافس به كبار صناع العود في المنطقة.
سلك علاء الطريق الصعب من ناحية دقة تفاصيل صناعة هذه الآلة من حيث المقاسات وأنواع الخشب؛ خاصة أنه لم يتعامل مع الخشب وتشكيله من قبل بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من أن في أسرته موسيقيين إلا أنه ليس فيهم نجار أو حرفي. شكل هذا العائق عبئا كبيرا على علاء وعثرة في طريق صناعة لعوده الأول إلا أن عزيمته وإصراره قد جعلانه ينكب على عمله محاولًا تفحص أكبر عدد ممكن من الأعواد التي يصادفها ليتعرف على مقاساتها و أسرار صناعاتها. ظل علاء يتابع هنا وهناك بشكل ذاتي ليتوصل إلى تصور آلة أحلامه.
وعندما صنع علاء عوده الأول أدرك أنه لن يصبح صانع أعواد بمجرد صنع آلة واحدة، ولكنها كانت خطوته الأولى في مشوار الألف ميل. بعد أن صنع علاء 62 عودًا قام ببيعها داخل وخارج الوطن، استغرقت صناعة كل واحد منها من شهر إلى أربعين يومًا.
يقول علاء أن قبل كل شيء يتكون العود من وجه ” الوردة” وقاعدة خلفية اسمها”الكعب” والصندوق الصوتي، والأخشاب وهي مختلفة الأنواع: منها أخشاب الجوز، والورد، والأبانوس، والسيسم، والبليسندر، وينجي، وغيرها. و يضيف علاء بأن كل هذه الأنواع لا تتوفر بالجودة المطلوبة داخل البلاد بل يستوردها من الخارج، وحالما تتوفر لديه يبدأ بصناعة العود الذي يتكون من عدة مراحل:
تكون البداية مع صناعة الوردة ” القاعدة الأمامية” والكعب “القاعدة الخلفية” حيث يقوم بتثبيتهما على قالب الصندوق الصوتي بعد أخذ القياسات اللازمة. تأتي بعد ذلك مرحلة صناعة الصندوق الصوتي وتبدأ بصنع الريشة الأولى وثنيها بالحرارة حتى تكتسب الانحناءة المناسبة وتثبيتها بالوسط فوق الوردة والكعب ثم تركيب الريش الأخرى التي يصل عددها إلى 21 ريشة. بعد هذه المرحلة يقوم علاء بعمل تفاصيل الوجه من الشكل المطلوب للفتحات والجسور، وهذه من أهم المراحل وأكثرها دقة وتؤثر في طبيعة صوت العود. بعد ذلك تأتي مرحلة عمل الفرسة أو مربط الأوتار وإلصاقها بمقاس معين على وجه العود. ثم مرحلة التشطيب والتنظيف والدهان. وأخيرا مرحلة تركيب المفاتيح والأوتار التي بها يصبح العود جاهزا. يخبرني علاء أن هذه المراحل كلها كانت طلاسم غير مفهومة بالنسبة له ولكنه مع الوقت أصبح يجدها ممتعة وشيقة.
أصبح علاء اليوم قادرا على استيراد أنواع راقية من الأخشاب وأصبح بشهادة الكثير من الفنانين يصنع أعوادا بدرجة جودة ممتازة، ويتهافت عليه الفنانون اليمنيون والخليجيون الذين أعجبوا بجودة صناعته ودقتها، بالإضافة إلى لمسته الخاصة التي تشكل هوية محددة له في الأعواد التي يصنعها. وقبل هذا كله جرأته في بدء صناعة لم تكن معروفة في محيطه من الأساس. و من بين هؤلاء الفنانين اقتنى الفنان اليمني عبود خواجة أحد أعواد علاء بعد أن طلب منه أن يصنع له عوداً بمواصفات خاصة. وتطول قائمة من تعاملوا مع علاء من الفنانين بمرور الأيام. ولأن عمل علاء يدوي، فقد أصبح الطلب أكثر بكثير من قدرته على الاستجابة لكل طلبات صناعة العود الذي بدأها شخصيًا ومن الصفر في ورشة متواضعة. ويسعى علاء الآن لتطوير الورشة وتوسعتها ليغطي الطلب المتزايد على أعواده من زبائنه الفنانين.
في بلد أرهقته الحرب والدمار مازال علاء يبتسم للأمل الذي يغمره وهو يمسك بتلك الأخشاب الصامتة ليحولها إلى آلات موسيقية تنطق بالمشاعر. وهو يتمنى أن يرى بلده بحال أفضل وتعزف فيه أنغام السلام التي أدخلها إلى أعواده. و لشغفه بالفن يطمح هذا الشاب المثابر في أن تسافر أعواده حول العالم كله.
عائشة الجعيدي، كاتبة وفاعلة ثقافية وناشطة شبابية في مجال السلام والتنمية.