يونس طفل يبيع الذرة بتعز

أطفال اليمن في زمن الحرب.. قصة "بائع الذرة" الذي تبخرت أحلامه الفتية!

ينهض الطفل يونس، ذو االـ12 خريفاً، صباح كل يوم، ليجوب بعربته الصغيرة شوارع مدينة تعز (جنوبي اليمن)، محاولا بيع غلته من الذرة؛ ليعود في المساء منهكا مع مبلغ بسيط من الأرباح. 

 

وفي المساء، حين يخلد "بائع الذرة" الصغير، إلى سريره لينام، تراوده أحلام يقظة لا تشبه تلك التي تراود معظم من هم في سنه؛ فهو لم يعد يرتاد المدرسة كي يفكر في تحسين تحصيله العلمي؛ ولا يجد متسعا من الوقت للعب كرة القدم مع أطفال حارته حتى يفكر في كيفية تطوير مهاراته الرياضية.

 

إن أكثر ما يراوده على سريره قبل النوم، هو: كيف يمكنه بيع كمية أكبر من الذرة في اليوم التالي، من أجل أسرته المكونة من أم وأخوين- هو أوسطهم. 

 

مرّ على يونس قرابة ثلاثة أشهر، منذ بدأ عمله في بيع الذرة. وكان قبلها يرتاد المدرسة في الصف الخامس حتى فُرضت عليه قسرا هذه المهنة الجديدة لمساعدة أسرته في تحصيل المصاريف:

"مات أبي وأنا في السادسة، فأصبح أخي الأكبر يعمل في مطعم لمساعدتنا في توفير المصاريف"، همهم يونس على استحياء، ودون أن تتوقف يده عن تقليب أكواز الذرة على النار، أردف: "ومع ازدياد الأوضاع سوءً بسبب استمرار الحرب، اضطررت إلى التوقف عن الدراسة ومساعدة شقيقي في توفير مصاريف البيت".

وبسبب استمرار الحرب، تقول منظمة اليونسيف: "هناك 2 مليون طفل يمني في سن الدراسة مايزالون خارج المدارس". 

 

حقوق لا مكان لأطفال اليمن فيها

 

في الـ20 من نوفمبر الجاري، تحل الذكرى الثلاثين للمصادقة على إتفاقية حقوق الطفل في العام 1989، والتي تشمل (45) مادة تضمن للأطفال حقوقهم في حياة كريمة، حتى في أوقات الحروب.

وتوجب المادة (42) منها، على الحكومات "العمل بجدية للتأكد من معرفة الأطفال والكبار على حد سواء مضامين هذه الاتفاقية".. لكن يونس، كالملايين من أطفال اليمن، لا يعلم شيئا عن تلك الحقوق التي تضمنتها المواثيق العالمية:

"لا أعرف شيئا عنها" يجزم يونس دون مبالاة. فكل ما يتمناه فقط هو أن تنتهي هذه الحرب وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويعود هو إلى مدرسته: "نعم. أتمنى أن أعود إلى الدراسة إذا انتهت الحرب" أضاف بصوت مفعم بالرجاء.

خمس سنوات تقريبا مر بها اليمن في خضم حرب طاحنة لم ينفك منها حتى اليوم. وعام إثر آخر، تفاقمت الإنتهاكات في حق الطفولة في البلاد، لتشمل معظم مناحي الحياة، بما فيها تلك الحقوق الأساسية البسيطة، كـ: الحق في الحياة (المادة 6)، والحق في مستوى معيشي لائق (المادة 27)، والحق في التعليم (المادة 28)، والحق في الصحة (المادة 24).. على سبيل المثال لا الحصر.

 

وثمة حقوق كثيرة أخرى شملتها الاتفاقية، لكنها في ظل هذا الواقع المعقد، تعد من المستحيلات. حيث لا يمكن، حتى، أن تراود مخيلة معظم أطفال اليمن، الذين جُلّ ما ينشدونه هو: التخفيف فقط من وطأة هذه الحرب الكارثية - كحد أقصى من أحلامهم.

 

على سبيل المثال: لن يحلم طفل يمني اليوم في الحصول على حقه ".. فـي الاسـترخاء واللعـب والمشـاركة في مجموعة واســعة مــن الأنشـطة الثقافيـة والفنـون"- المادة (31).. في حين أنه يفتقد لأبسط حقوقه، بينها الحق في "... الحماية والرعاية من الحرب والنزاعات المسـلحة"- من المادة (38). 

تقول منظمة اليونيسيف إنه "وبينمــا يقتــرب العالــم مــن الذكــرى الثﻼثيــن لإتفاقية حقــوق الطفــل، يــرى كثيــر مــن النــاس أن خســائر النــزاع المدمــر لحيــاة الإنسان لــم تتــرك إﻻ للأقلية المســاحة للإســتمتاع بتلــك الحقــوق". 

 

عجز حكومي مادي وإجرائي

 

وتنص المادة (26) على أنه "من حق أي طفل الاســــتفادة مــــن الضمــــان الاجتماعــــي، ويجب علــــى الحكومــــات توفيــــر الضمــــان الاجتماعــي، بمــــا فــــي ذلــك الدعــم المــــالي وغيــره مــن أشــــكال العــــون للأســر التــــي هــي بحاجــة إلــــى مســــاعدة".

 

والمادة (27) على أن "لــكل طفــل الحــق فــي مســتوى معيشــي جيــد بمــا فيــه الكفايــة لتلبيــة الاحتياجــات الماديــــة والاجتماعيــــة للأطفــــال وبمــــا يدعــم نموهــم. ويجب علــى الحكومــات مســــاعدة الأســــر التــي لا تســــتطيع توفيــر ذلــك".

وعليه، يرى حقوقيون أنه ما كان لمئات الآلاف من أطفال اليمن، بينهم "بائع الذرة" يونس، أن يضطروا إلى التوقف عن الدراسة من أجل العمل لمساعدة عائلاتهم، فيما لو تمكنت الحكومة من العمل بموجب المادتين السابقتين، على الأقل..

 

لكن الواقع يقول إن الحكومة، التي ظلت عاجزة على الدوام - حتى قبل الحرب- عن توفير أبسط تلك الحقوق المادية للأطفال، هي اليوم أعجز عنها بعد خمس سنوات من أهوال الحرب الكارثية!! 

وبالجملة، فقد تخلت الحكومة اليمنية، حتى، عن مراقبة فرض تطبيق بعض المواد الحقوقية في اتفاقية حقوق الطفل، تلك ذات الطابع الإجرائي البحت- أي التي لا يكلفها العمل عليها أكثر من فرض التنفيذ أو الرقابة على التنفيذ، كإجراء قانوني. 

 

ويدخل في ذلك- على سبيل المثال: التغاضي عن تطبيق المادة (32) من الاتفاقية، والتي تفرض على الحكومات "حمايــــة الأطفــال ضــــد الاســــتغلال الاقتصــــادي، والعمــــل الخطيــــر الــــذي قــــد يضــــر بصحتهــــم ونموهــــم أو تعليمهــــم"، ومطالبتها بـ"تحديــــد الحــــد الأدنــــى لســــن العمــــل للطفــــل، والتأكــــد مــــن أن ظــــروف العمــــل آمنــــة وملائمــــة".

ومرد ذلك، أن الحكومة سيكون من باب أولى لها ألا تمنع الأطفال من العمل لتحسين دخلهم المعيشي، طالما وقد عجزت هي عن توفير أبسط درجات الرفاه الإجتماعي لهم وأسرهم. 

 

تقول اليونسيف إن هناك "11.3 مليون طفل يمني بحاجة إلى مساعدة إنسانية"⁽¹⁾ 

ومن هنا، لا يبدو أن معرفة "يونس" بحقوقه الممنوحة عالمياً على الورق، كان سيغير من واقعه المأساوي شيئا، في عتمة هذه الحرب العمياء، وقد "تضاءلت فرص العمل والدخل بدرجة كبيرة"⁽²⁾

 

-----------------------------------------

⁽¹⁾ "الوضع الإنساني في اليمن" / ديسمبر 2018  

⁽²⁾ الأمم المتحدة: "نظرة عامة عن الإحتياجات الإنسانية 2019" / ديسمبر 2018.