في الثامنة من عمري شاهدت فلماً خيالياً عن رجل يتنقل عبر آلة الزمن إلى عصور عدة. وددت حينها أن أجد تلك الآلة لأذهب إلى وقائع قصص ما قبل النوم التي كانت والدتي تسردها عليّ أو تلك التي كنت أسمعها من المدرِّسة.
كبرتُ وأدركتُ أن السفر عبر الأزمنة السابقة ليس مجرد خيال، بل إن هناك كتبا وأفلاما وأغنيات وأشعارا تسافر بنا إلى الأزمنة الماضية وتجسد لنا واقعها.
أصبحت أستمع إلى أغنية – مثلا- وأجدني أغرق في مشاعر كاتبها وأهل زمانه من خلال مفردات كلماتها وتفاصيل ألحانها. أسرح في التفكير حول نظرة المجتمع -في ذاك الزمان- عن الأشياء والأحداث. أحاول أن أتبين الخريطة النفسية لهم وهم يعبرون عن عواطفهم وأفراحهم وأتراحهم. وأُخلصُ من ذلك بأنه مهما اختلف الزمان وأدواته وإمكانياته وأهله، فإن المشاعر الإنسانية لا تتغير في جوهرها، وإنما فقط في نظرة المجتمع لها ولظروفها وملابساتها. وحتى يكون كلامي واضحا، فإنني سأضرب أمثلة من الأغنية اليمنية وأقدم قراءتي لها.
يقول شاعر الأرض اليمنية مطهر بن علي الإرياني في ملحمة الريف اليمني “الحب والبن” التي لحنها وصدح بها أحد رواد الأغنية اليمنية، وهو الفنان علي بن علي الآنسي:
بانلتقي واحبيب القلب لوادي أفيح
نجني ونحلم بساعات التلاقي ونمرح
والطير تسجع وتتغنى لنا حين تصدح
ومن رفاق العمل يا خِلّ نسمع تهاني
" />الصورة بإذن من أنور صبري
نجد أن قوة العاطفة لدى الفنان في فترة السبعينيات التي تنتمي إليها القصيدة قد أنتجت إبداعاً فنياً ينطوي على التوازن ما بين تلقائية الأغنية الريفية الجياشة البسيطة و مطامح الشاعر التحديثية لإيقاع ومحتوى لقصيدة المغناة. وفي القصيدة مضامين حية معبرة عن الصلة بالطبيعة من جهة، وعن مشاعر الإنسان وروح التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. فهناك الوادي محل اللقاء حيث الطيور تسجع وإلى جانب ذلك الإنسان الذي يشترك معه المتحدث في القصيدة في روح العمل و التواصل الإنساني الراقي (نسمع تهاني). إنها تهاني بحصول الحب.
لقد أسهمت محدودية مصادر التلقي والسماع والثقافة في فترة ما قبل الانتشار الواسع للتلفزيون وثورة الاتصال في إيجاد ذائقة فنية مشتركة. فالإذاعة –وسيلة البث التي تكاد تحتكر الفضاء في ذلك الوقت- لم تكن تتيح خيارات متعددة للمستمع. كما أن ظروف الفنانين في تلك الفترة قد أسهمت في ارتفاع نوعية وقيمة المنتج الفني؛ فالفنان كان يعيش في حالة من الهدوء وعدم الانشغال بالبحث عن لقمة العيش لسهولة الحياة، وكان يحظى أيضاً بمكانة مجتمعية ورعاية حكومية. فكان يقدم الفن للفن.
وإذا تركنا ذلك الماضي وألقينا نظرة ارتجاعية على الحاضر، فإننا نجد اضطرابا وسطحية وعدم اكتمال في التعابير المغناة. هذا إلى جانب أن المستمع لم يعد يتحلى بالصبر الكافي ليفكر ويتأمل في الأغنية؛ لأن عصرنا “عصر التسريع”، كما يعبر ماكس فيبر. وقد غدت الأغنية الحديثة- مثلها مثل مقاطع النكات المتداولة- مجردة من المعاني المجردة، وتكاد تخلو من الكنايات والاستعارات التي كانت تربط المحسوس بالمجرد، والمرئي باللامرئي. ومن جهة أخرى، نجد أن مصادر التلقي والسماع والثقافة قد أصبحت متاحة في الزمن الحاضر، ومتعددة بألوان شتى منها الجميل ومنها القبيح. كما أن القدرة على الفرز والاختيار قد أصبحت شبه منعدمة في زمن تتدفق فيه على التلفون الذكي مقاطع لا تحد نوعا ولا تعد كمية. وبذلك ضاعت ملامح أي اشتراك في الذائقة الفنية. وعلاوة على ذلك، فقد تحول الفن في حاضرنا إلى سلعة تجارية، وازدادت صعوبات الحياة ومتطلباتها في وجه الفنان، مما جعل الفن مرتبطاً بالمادة وأصبح المصدر الوحيد للدخل.
" />الصورة بإذن من أنور صبري
أتذكر حديثي مع أحد كبار السن ممن اغتربوا خارج الوطن في فترة السبعينات من القرن الماضي. ذكر لي أغنية الفنان أيوب طارش (ارجع لحولك)، والحول في اللهجة اليمنية هو قطعة الأرض الزراعية، التي كتب كلماتها الشاعر عبدالكريم مريد، وكانت نداء إلى المغتربين خارج أرض الوطن للعودة إلى الديار. يقول مطلعها:
ارجع لحولك كم دعاك تُسقي
ورد الربيع من له سواكَ يجني
يتذكر الرجل المسن ما أهاجته الأغنية من مشاعر الشجن والحنين لديهم التي تُرجمت بعودة الكثير من المغتربين إلى الوطن، وتغيير مسار حياتهم بالكامل.
أخبرني الرجل ضاحكاً أنهم ظلّوا من بعدها يدعون الله أن لا يسامح أيوب لما تسببت به أغنيته في جعلهم يتركون كل شيء في الغربة عائدين إلى اليمن.
لم يكن الفن بعيداً عن الناس، بسبب ارتباطه بمناسباتهم، وذكرياتهم، وتفاصيل حياتهم اليومية. بكلمة واحدة، كان الفن معبرا عنهم وانعكاساً لحالتهم ومشاعرهم.
ومن الجوانب التي لا يجوز تخطيها عند مقارنة الفن اليوم بالفن لدى الأجيال السابقة، وجود مجتمع فني كان يعيش وسطه الفنان، مما أسهم في رقي الكلمة، وجودة اللحن، وقيمة الأغنية، فكانت المنافسة لتقديم الأفضل.
ومن ذلك الارتباط المذهل بين الشاعر والفنان، مشكلاً ثنائيات لا تُنسى في تاريخ الأغنية اليمنية: حسين المحضار وأبوبكر سالم، علي صبره وعلي الآنسي، الفضول وأيوب طارش، جراده والمرشدي، لطفي جعفر أمان وأحمد قاسم، محمود الحاج وأحمد فتحي، وغيرهم من التوائم الفنية الذين أثروا وقدموا للمدارس الغنائية اليمنية الكثير.
غابت روح الفن المسؤول لدى الكثير من أهل الفن، فصارت الأولوية للأغنية سريعة الرواج. وتلبية رغبة الشارع هي من تحدد مسار الأغنية. بالإضافة إلى أن اللحن أصبح يسبق موضوع الأغنية وكلماتها.
لا تغيب مسؤولية الجمهور في تراجع الفن وتوجيه دفة فنانيه، فالفن برقيه وسقوطه يعكس واقع مجتمعه ومستوى وجدانه الجمعي. ومن جانب آخر، فإن الفن والفنان رواد في توعية المجتمع، وصناع ثقافته، والجمهور لا يقف سداً منيعاً أمام الفن الرسالي. إننا نعيش، ويا للأسف، اليوم في واقع يندر فيه وجود الفنان المثقف بجوانب الحياة الحامل لرسالة فنية.
وعلى رغم كل ذلك، فإنه ما يزال هنالك بصيص أمل في بعض الأسماء الشابة الصاعدة التي تحاول إعادة الألق للأغنية اليمنية، وجعلها تواكب أدوات العصر. ونقول لهذا الجيل الفني إنك لا تفتقر إلى القدوات الفنية المتمثلة برواد الغناء اليمني، بمختلف ألوانه الحضرمية، والصنعانية، واللحجية، وما عليك إلا أن تهتم باختيار الكلمة، وانتقاء اللحن المجسد لمشاعر الكلمة، وللموسيقى التي ينبغي أن تكون متسقة مع كل ذلك. إن الأغنية اليمنية تستطيع بذلك أن تحتفظ بأصالتها وتميزها في إطار الغناء العربي العام، وتستطيع أن تواكب ايقاع العصر، دون أن تسيء بالضرورة لوجدان المجتمع وأشواقه الروحية.
" />الصورة بإذن من أنور صبري
ومادام الشعوب ما زالت تغني، أوقن أنها ستكون بخير. لن تطول حالنا الفنية منحدرة في معانيها ودلالاتها، وأدواتها، وآثارها على المتلقين، لأن فطرتنا السليمة رفيقة الجمال والرقي.
كلنا نعلم كم هي الصعوبات التي يواجهها الفنان. وكم هي المعرقلات التي يتصدى لها دائماً. فمهمة الفن والفنان أسمى من كل شيء والفنان يحمل مسؤولية تلزمه بذل جهد كبير في رقي الشعوب بما يُسمع.
ليت لي بآلة زمن لإدراك المستقبل، تؤازر يقين حلمي بزمن يستعيد فيه الفن اليمني ريادته وجماله وفرادته.