صهاريج الصبيحة

صهاريج "الصبيحة".. تراثنا المعماري الفريد على وشك الاندثار (شاهد)

لى استحياء، تربض صهاريج "أبي الأسرار" ببلدة التربة، مديرية المضاربة ورأس العاره- بمحافظة لحج؛ في أسفل جبل "حواب" الشهير، الذي يطل عليها من الناحية الغربية، ويمثل موردها الرئيس لتغذيتها بمياه الأمطار الموسمية.
 
 وفضلا عن كون هذه الصهاريج كانت تشكل معلما تاريخيا فريدا في المنطقة، بشكلها المعماري الفريد الذي بنيت عليه منذ مئات السنين، فقد لعبت- على مدى عقود سابقة- دورا مهما في حياة المجتمع المحلي، حيث ظلت أيضا- وحتى أمدٍ قريب- تمثل أحد أبرز وأهم الأماكن الترفيهية، والسياحية، كمتنفس شعبي يقضي فيه سكان بلدة الصبيحة معظم أوقاتهم..
 

تاريخ عريق واستخدامات مختلفة

عند النظر إلى صهاريج الصبيحة، في وضعها الراهن، لن تجدها بذات الأهمية والمكانة التي تمثلها "صهاريج عدن" الفريدة، المطلة على مديرية كريتر، من حيث المساحة وأصالة الفن المعماري والقيمة التاريخية. على الرغم من أنها بنيت بطريقة حاكت فيها صهاريج كريتر، وإن بحجم أصغر وعلى مستوى إبداعي أقل. إلا أنها- بالنسبة لأبناء المنطقة- تمثل إرثا تاريخيا عظيما، يشهد على عظمة وذكاء أجدادهم الأوائل. فضلا عن كونها مثلت المتنفس الوحيد لهم وأولادهم.
 
وتقع صهاريج "أبي الأسرار"، وعددها ثلاثة، بمحاذة جامع "السروري"، أشهر الجوامع التاريخية في الصبيحة. وفي حين اتفقت معظم الروايات على أن تاريخ بناء الجامع يعود إلى العام 510 هجرية، لم يعرف- حتى اليوم- الزمن الذي بنيت فيها بالضبط هذه الصهاريج..!!
 
وقال الباحث في شؤون التراث اليمني، عبد اللطيف شوتري، لـ"يمن شباب نت"، إن هناك اختلافات في تحديد تاريخ بناء صهاريج الصبيحة، لكن أدق الروايات تقول أنه تم إلحاقها بالجامع الشهير بعد فترة قصيرة من بناءه، خلال مدة قد لا تتجاوز ربما بضعة عقود قليلة.
 
 واستخدمت الصهاريج الثلاثة لأغراض عدة. حيث استخدمت إحداها كمرتع لسقي الحيوانات، في حين خصص أصغرها (بطول 2 متر) للإطفال للسباحة وتدريبهم على اتقانها، من خلال بعض الدرج الموجودة فيه، والتي تساعد الطفل على تعلم وإتقان مهارات السباحة عبر معلم ماهر يقوم بهذه المهمة غالبا..
 


وتوجد بوابة مائية خاصة تربط الصهريج (الأصغر) بالصهريج الأكبر (طوله 10 متر، وعمقه 15 متر). والذي يمارس فيه الكبار السباحة والاغتسال، كما ينتقل إليه الأطفال الذين أصبحوا ماهرين في السباحة.  
 
وإلى جوارهما، يتفرع الصهريج الثالث، وهو متوسط الحجم (طوله 4 أمتار تقريبا)، وكان يستخدم لشرب الحيوانات، وقيل أنه كان قديما مخصص لإستخدام النساء.
 
وتتم تعبئة الصهاريج من خلال مياه الأمطار التي تهبط إليها من على جبل "حواب" الشهير، المطل عليها. حيث تسيل المياه منه عبر ساقية يمر عبرها الماء إلى الصهاريج؛ بدء بالصهريج الأصغر، الذي يستقبل المياه ليقوم بتوزيعها بعد الإمتلاء عبر ممر خاص إلى الصهريجين الأخرين، على التوالي: الصهريج الأكبر، ثم الصهريج الأوسط الذي تنتقل إليه المياه مباشرة بعد امتلاء سابقه، عبر بوابة خاصة تصل بينهما.

 
إهمال وتحذيرات من الإندثار

أما اليوم، فقد أصبحت تلك الصهاريج مهملة، وشبه منسية. لدرجة أن اكتست بالعشب ونمت فيها الأشجار، خصوصا الصهريج الأوسط، بينما تحول الصهريج الأكبر إلى مجرد حوض للسباحة الترفيهية- رغم أن المياه التي فيه أصبحت راكدة وغير مأمونة.
 
 وحذر الباحث الشوتري، ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت"، من أن هذا المعلم التاريخي "يواجه خطر الطمس والاندثار الكلي، خاصة بعد إهماله من قبل الجهات المعنية" لفترات طويلة، على رأسها هيئة التراث، التي على ما يبدو لم تعد تأبه لما تحمله الصهاريج الوحيدة في الصبيحة من إرث تاريخي فريد، ونادر.
 
وأشار الشوتري، إلى وجود "تشققات، بدأت منذ فترة بالظهور في جدران الصهاريج، بسبب طول الإهمال، وبات خطر سقوطها وشيكا، إذا استمر هذا التجاهل"، الأمر الذي في نظره "يستدعي تدخلا عاجلا للحفاظ على معالم هذه الأثار من الإندثار الكلي..".
 


كما أن الشخصية الإجتماعية المعروفة في المنطقة، أحمد محمد علي المنصوب، أبدى استغرابه الشديد "من الإهمال الذي تعرض- ويتعرض- له هذا المعلم التاريخي منذ سنوات، رغم أهميته كتراث مادي، ولرمزيته الفريدة لمنطقة الصبيحة"، واضعا علامات استفهام كبيرة حول دور السلطات المحلية في لحج والمديرية، وصمتها المطبق تجاه نداءات المهتمين بالتراث ..؟؟
 
وأشار المنصوب في سياق حديثه لـ"يمن شباب نت"، إلى الدور المهم الذي لعبته هذه الصهاريج على مدى قرون من إنشاءها، في الحفاظ على مياه الأمطار واستخدامها في الري الزراع، ثم في التعليم والتدريب والترفيه والسياحة الأثرية، لاسيما وأن جامع "السروري" التاريخي ملاصق لها، ما يجعل هذا الثنائي يشكلان وحدة تكاملية بديعة لإبراز الفن المعماري التراثي الذي تمتاز به المنطقة.
 
وإلى جانب ذلك، لفت المنصوب إلى أنه: حتى الجزء الترفيهي والنفعي، الذي كانت تقوم به الصهاريج، سواء في الجانب السياحي؛ أم لدورها الفعال في تعليم الأطفال السباحة، لم يعد قائما هو الأخر نتيجة تشقق جدرانها بسبب الإهمال وعدم الإهتمام، وتحولها مؤخرا إلى ما يشبه "الخرابة".
 
ومن المهم الإشارة هنا، إلى أن تلك التشققات أدت إلى قلق بعض الأهالي على أبنائهم ومنعهم من السباحة، أو التدرب عليها، خشية أن تتساقط أحجار الصهاريج عليهم.
 
وبنيت الصهاريج من الحجر، وتم طلاؤها بالجس (الجبس) الأبيض، لكن تقادم عمرها وغياب الاهتمام بها من الجهات المعنية كمعلم أثري تاريخي عريق في المنطقة، ساهم في تردي حالتها وإضعاف قيمتها الأثرية، لاسيما مؤخرا، خلال السنوات الخمس من الحرب.

 


دهاء القدماء..وغباء الورثة

ينظر إلى فكرة بناء الصهاريج على أنها تعكس دهاء وفن وحضارة اليمنيين القدماء، الذين تركوا شواهد أثرية تخلد تاريخهم الفني المعماري، القائم على الحاجة إليها في الإحتفاظ بمياه الأمطار المتسربة من أكثر الأماكن إرتفاعا وتجميعها في مصب بديع يتم بناؤه بشكل علمي وفني متدرج من الأصغر إلى الأكبر، وتوزيع المياه فيما بينها عن طريق إحداث عملية توازن آلي فيما بينها.
 
وتتجسد أهميتها النفعية والأثرية في آن، من خلال اهتمام الأجداد بها ومحافظتهم عليها وتواصيهم بصيانتها عبر الأجيال المتعاقبة، لتصل إلينا بهيئتها الفنية والجمالية نفسها، عبر آلاف السنيين..
 
 غير أن ما تشهده اليوم من إهمال وعدم إهتمام لمواصلة صيانتها والحفاظ عليها من قبل السلطات المحلية المعنية في المديرية والمحافظة...، يكشف لنا عن لا مبالاة في تحمل المسئولية التاريخية والأخلاقية. وهو أمر يعتقد أنه نابع، أولا وأخيرا، من جهل وغباء في تقدير قيمة الحفاظ على مثل هذه المعالم الأثرية كثروة وطنية تاريخية..
 
وهو ما يضاعف من حجم المخاطر التي تتهدد هذه الصهاريج العريقة والنادرة، ويعرّضَها أكثر إلى خطر الطمس والإندثار الكلي، مالم تستجيب السلطات الحكومية العليا لنداءات سكان المنطقة على نحو عاجل..!!