جمال حسن- المشاهد
ماذا ينتظر اليمن؟ فالمشهد أشبه بمارش جنائزي يلفظ بقايا الحرب، تلك الدراما السوداء التي انطلقت منذ مارس 2015. مع هذا يبدو المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث متفائلاً كعادته، مبشراً بموعد السلام.. لكن أي نوع من السلام.. في محادثات عُمان بين السعودية والحوثيين هناك مؤشرات على وجود اتفاق بين الطرفين، أو هذا ما يبدو على السطح.
ورغم الخروقات في الحديدة، وهجوم الحوثيين بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة، تشهد المحادثات تطوراً، وتهدف السعودية في محادثاتها مع الحوثيين إلى إنهاء الهجمات التي تتعرض لها أراضيها بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة.
وتوقفت الهجمات منذ شهرين على السعودية، لكنها مرهونة بما سيتم التوصل إليه خلال المفاوضات بين الطرفين، لوح الحوثيون بأنهم مستعدون لخوض حرب لا نهاية لها، وفي هذا الجانب لم يبدُ عليهم أي تراخٍ في كل الحروب التي خاضوها، وفي كل مرة وقعوا اتفاقيات سلام، كانت ليلتقطوا أنفاسهم، ويستعيدوا تموضعهم.
وتبدو اللهجة السعودية أكثر ليونة مع الحوثيين، فلم يتضمن حديثهم أي إشارة للحسم العسكري، والليونة السعودية عكست أيضاً مدى انزعاجها من الهجمات التي تعرضت لها، وبالأخص بعد فشل منظومتها الدفاعية من حماية منشآت أرامكو النفطية، التي أعلن الحوثيون عن استهدافها قبل شهرين.
ولم تعد مطالب الحوثيين تقتصر على إيقاف إرسالهم الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، مقابل توقف غارات الطائرات السعودية، بل تقول المعلومات، إن السعودية وافقت على شروط أخرى، وترتبط بما يضمن للحوثيين عدم التعرض لغارات.
لكن من ناحيته الحوثي سيكون متخففاً من أي ضمانات، وهو ليس مضطراً في حال اتفقوا على مهاجمة السعودية، لكن هل تراوغ السعودية أو أنها ستخضع لتلك المطالب، مع أن الصورة بمجملها تعبر عن فشل سياسي وعسكري سعودي.
هل تراوغ السعودية إلى حين، وتلقي وعوداً لن تنفذ أياً منها، أو أن الضربات الأخيرة التي استهدفت منشآتها النفطية، أثارت فزعها وأصبحت مستعدة لتقديم تنازلات معينة، فالشروط التي فرضها السعوديون تمنحهم الكثير من الامتيازات، بل وتجعل منهم الطرف الأقوى بين الأطراف السياسية، بل وحتى الأقوى عسكرياً.
وأعلن السعودي تركي المالكي المتحدث باسم قوات التحالف، عن الإفراج عن 200 أسير للجماعة، إضافة إلى فتح مطار صنعاء لتسيير رحلات جوية، من أجل الحالات الصحية الحرجة، وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وتحاول السعودية إثبات جهودها من أجل إيقاف الحرب،
بمعنى أن الحوار في عُمان يحقق تقدماً يوماً بعد يوم، وفي هذا السياق توقف الحوثيون عن استهداف الأراضي السعودية، منذ شهرين، مع بدء المفاوضات بين الطرفين.
لكن هل ما أبدته السعودية أو مفاوضيها من ليونة إزاء شروط الحوثيين، كانت نتيجة ضغوط تتعرض لها، أو إملاءات من حلفائها في الغرب، أو أن موقف قادتها من الاستمرار في الحرب أصبح متراخياً، فالسعودية فشلت على الأقل في تحقيق الهدف الرئيسي من تدخلها، أي إعادة الشرعية، حتى وإن اتخذته ذريعة لمآرب أخرى، فهو سيكلفها حمولة لن تتعافى منها في لحظات الشدة، لأن المنطقة تنذر بمصاعب وتنتظرها المصائب.
وفي منطقة مشتعلة ستظل بحاجة لتحالفات، لكن الجميع ينظر إلى ما يمكن أن يسلبه منها، وهي وضعية حلفائها في اليمن، لكن إذا ما نفذت السعودية وعودها للحوثيين فإنه سيكون الطرف الذي نال المكسب الأكبر، على الأقل تريد السعودية بالفعل أن تحتويه وتجعله صديقاً لها، لكن من المستحيل أن تصبح حليفاً له على حساب إيران.
يمكن للسعودية خوض حرب، دون أن تتعرض لخسائر مباشرة، أو دون أن تسيء لصورتها في العالم، وهذا ما فشلت به في اليمن، وليس للأمر علاقة بالضحايا المدنيين، بل تعرضها لرشقات مستمرة من الصواريخ والطائرات المسيرة، وربما هو صورة للميوعة والتراخي الذي أصاب قادتها ومجتمعٍ أفسده التبطل والتخمة، وهذا ليس تصوراً عاماً لمجتمع أيضاً فيه الكثير من الخصال.
ولعل لدى حكام آل سعود خصلة وحيدة هي الكرم، ولولاها كانوا فقدوا حكمهم منذ عقود، وهي الخصلة التي تحرك شكل تحالفاتهم، وفي حالة مماثلة ماذا سيحدث إذا نفد المال، هذا ما تثيره الحرب من صورة مرعبة. ماذا إذا نفد المال، لا تعتمد السعودية على خصال مثل البأس والثبات، والصبر إزاء المصاعب، مثل تلك الخصال نجدها في اليمن، لولا انقساماته كان يمكنه أن يذهب بعيداً، ولولا فساد حكامه وطمعهم وقسوتهم لقادوه إلى ما هو أعظم. بل أصبح جمهور الشعب تحت تناول السفهان منه، فأصبحت هناك نزعات استقلالية حتى لدى المدن، وبينما يريد البعض أن يبقى مهيمناً في إطار ضيق، وفي كل شكل سياسي هناك مطمع.
وبالنسبة للحوثي في حال توقفت الحرب، لديه محاربون يريد الإنفاق عليهم، وستكون السعودية مُلزمة بالدفع، والجنوح للسلم هو المطلب، لكن براعة الحوثي في كل معاركه أنه دائماً مستعد لخوض المعارك، ويرفض مهما تعرض لخسائر أن يوقع على وثيقة مُذلة، وحين يوقع وثيقة سلام، تكون بالنسبة له هدنة لإعادة ترتيب وضعه في الجبهات، واستئناف، إنها جماعة لا تكل ولديها من الإرادة والصلابة من أجل تحقيق أهدافها، وليس المعجزات كما يعتقد البعض.
تعاني السعودية من إشكالية حقيقية، تتعلق بالوفرة والرخاء، فلا أنها خاضت معركة بحزم، ولا أعطت انطباعاً بأنها قادرة على حماية نفسها، ورغم أنها دشنت تدخلها العسكري تحت عنوان “عاصفة الحزم” فلم يكن الحزم منها بمكان، بل أضرت حلفاءها برغوة المال الذي نفشته بعيونهم، فلا أرادوا للحرب أن تنتهي، ولا هم متخيلين ترك النعم التي أفسدتهم، وأصبحت هناك هوة بين المقاتلين في الجبهات والمتاجرين بهم في قصور الرياض.
يبدو أن الرياض ترى أنها تورطت في حرب اليمن، وتريد إنهاءها بأي ثمن؛ هل وصلت إلى هذه النتيجة؟ في البلدان المحاربة يكون رخاؤها مرتبطاً باستخدام السيف، و إخضاع شعوب أخرى، لكن وفرة النفط سرعت من ميوعة المجتمع، وليس وفرة النفط فقط، بل الاعتماد على الدخل الريعي، والطريقة التي أفسد بها الحكام مجتمعها من أجل عدم مساءلته.
لا يوجد حكام أفسدوا مجتمعاتهم كما في الخليج،
كشفت الحرب في اليمن عن هشاشة بلد يعوم فوق أكوام من الثروة، وهذا الوضع يدفع أطماع الأصدقاء قبل الأعداء، وهو ما تؤكده مطالبات ترامب العلنية للرياض بالدفع، وبشكل مُحرج، وهي وإن افتقدت للياقة، تكشف القوى الكبرى، وحين تؤول سياسة إلى الانهيار فإنها تصبح مطمعاً.
ربما تتفق السعودية مع الحوثيين، وفي المقابل هناك طرف سيكون خاسراً، هناك طرف سيتم معاقبته، فالسعودية تحالفت مع الطرف الأضعف للنيل من الأقوى، وبالتالي تريد تفكيك البلد عبر تلك الرهانات، لكنها ربما تضطر للعودة في نصف المعركة، وهذا أسوأ من خسارة حرب
ويبدو ان النخبة في السعودية لم تعِ أن شراكتها النسبية مع الغرب كانت نتاج مرحلة الحرب الباردة، واندلاع ثورات التحرر ذات النزوع اليساري، أما اليوم فإن معركتهم في المنطقة من أجل استعادة نفوذها السابق، يريدون أيضاً استعادة أرامكو، وعقود السيادة، هذا ما حدث في العراق، حين تقاسم الأمريكيون ثروته مع إيران، لذا لم تكن واشنطن جادة في أي لحظة من أجل إيقاف التهديد الإيراني، بل على العكس، تريده للابتزاز وإعادة التموضع ونيل المآرب الخفية.
ربما تتفق السعودية مع الحوثيين، وفي المقابل هناك طرف سيكون خاسراً، هناك طرف سيتم معاقبته، فالسعودية تحالفت مع الطرف الأضعف للنيل من الأقوى، وبالتالي تريد تفكيك البلد عبر تلك الرهانات، لكنها ربما تضطر للعودة في نصف المعركة، وهذا أسوأ من خسارة حرب، لأن الخسارة تفتح العيون على العيوب وفي وجود الإرادة يكون التصويب دعامة لدولة صلبة.
عموماً يعرف حكام الرياض أن خسارة يمكنها تدمير عرشهم، ونقطة ضعف محمد بن سلمان، هي الصورة التي انتزع بها ولاية العهد، شرخ كهذا يجعله في لحظة ضعف أكثر استعداداً لتقديم التنازلات من أجل الانصراف لتمكين يده في الداخل.
ولعل الصورة تختمر أكثر في هذا التحول المركب داخل المنطقة، والعالم، أما الحوثي فسيحوز من الهدنة أو ما نعتبره سلاماً، الكثير من الوقت لنيل مكاسب أخرى، وعلينا انتظار جولات اخرى، وبعض السلام الذي توزعه قاعات التفاوض بين المتقاتلين