محمد جازم- المشاهد
“اليوم مات أمير.. أمير عادل الطفل الذي حدثتك عنه كثيراً..”.
هكذا وصلني الخبر عبر الهاتف. كان صوت صديقي رشدي الذي نقل الخبر، مخنوقاً بدموع يحاول إخفاءها، يكابد غصة ناشبة في الحلق. يتسرب الحزن من كل نتوءات حديثه يتهدج في بحر متلاطم ممزوج بالأسى. قلت له: “كيف مات؟ ولماذا؟ سؤال لا يعني سوى اللاشيء والعبث الذي لا طائل منه؛ لكنه دون ريب عبّر عن صدمتي. كانت مشاعري تجاه أمير، يحدوها الأمل بأنه سيعيش، لأن الأطفال أرواحهم معلقة بالأرض أكثر منا نحن الكبار.. معلقة بالأرض لأنها جاءت قريباً من الغيب، وتريد أن ترى العالم من حولها؛ فإذا عادت سريعاً إلى الغيب، دلّ ذلك أن هناك شيئاً ما يعمل ضد الطبيعة والفطرة، أو أن أرواحهم أكثر عمقاً من أرضنا. عن سر النشوء وأصل الحياة أتحدث.
نعم يا أميري، لقد اعتقدتُ لأسابيع طويلة أنك ستعود ليغمرك الهواء الطلق والحدائق والعصافير.. لتعيد البسمة إلى الأهل والأصدقاء..كان الأمل يرتق جروحنا جميعاً، وعلى الأرجح يخدرها بالركون إلى التفاؤل. حاولت إخماد الدموع التي بدأت تتداعى تحت جفنيّ؛ لكنها لم تستجيب. امتدت إلى الحواف، أخمدتها ثانية، تماسكت.. وذهبت أكنسها بادعاء اللامبالاة. أصبح قاع عيني نظيفاً؛ أو هكذا بدا الأمر.
رحلة مع السرطان
4 سنوات هي كل ما ادخرته الدهور البخيلة لأميري؛ المصاب بورم خبيث في الدماغ. لم يستطع الأطباء إيقاف هذا الوحش الغريب الذي تسلل خفية إلى جسده اليانع كعشرات الآلاف من اليمنيين الذين يساقون إلى حتفهم جراء دفن النفايات النووية في الساحل الغربي، قبل عقدين.
عدت إلى الهاتف، وسألت رشدي أين أنت الآن؟ لم أستطع أن أقول له “عظم الله أجركم”؛ لأن ذلك يعني الإقرار بما حدث، وأنا بدون وعي ذهبت أرفض ذلك؛ لعلي كنت أبحث عن خبر آخر يكذب الخبر السابق، لكي تستقيم وعود الطبيعة بالعطاء والمنح. وعلى أية حال، أنا من النوع الذي يثق كثيراً في قدرته على هزيمة الإحباط؛ ولكن هذه القدرة تتقهقر عند تخوم لغز الموت، وخصوصاً ذلك المتسلسل الخطير الذي يخطف أرواح الأطفال في بلدي البعيد عن العين: اليمن.. أعدت سؤالي على رشدي الذي قال لي سنلتقي قريباً، وأردف: خرجنا الآن من قصر العيني، وسنذهب إلى المقبرة. تخيلت مقابر أريافنا في اليمن، حين يخرج الناس لدفن موتاهم، على ضوء المصابيح الليلية في سواد الجبال السحيقة المظلمة. وهم تحت رحمة المعسكرات المتحاربة، تلك التي تطلق النار على أي مصدر للضوء.
ورأيتك يا عزيزي هالة كبيرة من النور.. ضوءاً كبيراً تتخلله ابتسامتك.. نوراً أخضر يشيّع؛ ثم يُدفن بين قلب الغربة وقلب الفقد والعدم. وعلى الرغم من قدرتك العظيمة على إدارة الصراع مع ذلك الوحش الذليل المتطفل، إلا أن جسدك الأعزل كافح حتى النهاية.
وضعت الهاتف جانباً وأنا أشعر بأن هذا الصندوق الصغير الشبيه بعلبة كبريت قابلة للاشتعال، مزعج.. مزعج بما يكفي لأية رغبة جامحة في التدمير، قلت في نفسي هذا التلفون يستحق الموت مع كثير من المسؤولين اليمنيين في الخارج والداخل، ولا أدري ما الحكمة من أن يختار الموت أمير…؟ بينما الأورام السرطانية المتحركة تستنزف مقدرات البلد. قال صاحبي بعد أن التقينا ورأيت صورة أمير: لو كان الله أخذ كل سفرائنا في الخارج، وترك الامير”.
أمير .. كلما أوغلت في الحكاية قفز إلى مخيلتي منظر الأهل، وهم يعودون إلى البيت بدونك؛ ذلك المنزل الذي كان يملؤه حضورك الدافئ، وجهك البريء، وصوتك الذي يرن مثل دنانير ذهبيه غير قابلة للتداول. كل شيء يقول بأن الفراغ الذي تركته يشبه وكراً للأفاعي يا عزيزي.
صرخت دون أن أدري: الرحمة يا إلهي بأطفالنا الذين تنفق أرواحهم تحت حطام الإسمنت؛ فقد قرأت أن 6700 طفل قتلوا منذ اندلاع الحرب في 2015. الرحمة يا إلهي بهم، أشلاؤهم تتناثر في كل مكان، بفعل انفجار الألغام المزروعة بعناية، وبفعل الرصاص الحي الذي يطلقه القناصة دائماً، والقصف المريع الذي يطال المناطق السكنية. الرحمة يا إلهي بالذين ذبلت أيامهم القصيرة من الجوع والخوف والضياع، وتقدر أعدادهم إجمالاً، حسب تقارير اليونيسف، بـ15 مليون طفل، منهم مليونان و700 ألف من حاملي السلاح الذين ينامون في معسكرات القتال الضاري، ويذهب معظمهم كدروع بشرية وقوى اقتحام تحت مسمى كتائب الموت في الشمال اليمني.
أميري.. كلما أوغلت في الحكاية قفز إلى مخيلتي منظر الأهل، وهم يعودون إلى البيت بدونك؛ ذلك المنزل الذي كان يملؤه حضورك الدافئ، وجهك البريء، وصوتك الذي يرن مثل دنانير ذهبيه غير قابلة للتداول. كل شيء يقول بأن الفراغ الذي تركته يشبه وكراً للأفاعي يا عزيزي.
الحزن يخيم على القاهرة
لم ألتقِ بأمير، ولم أرَ صورته حتى كتابة هذه التداعيات، لكني أحببته حقاً، منذ عرفت أنه في مستشفى قصر العيني، وهو شغلي الشاغل.. كل طفل يهوي على فراش المرض قسراً؛ أحس بأنه ابني، وكذلك وهو في البيت؛ أو في المدرسة؛ أو الحديقة؛ ولكن أمير في هذه الآونة هو الأقرب إلى نفسي؛ منذ وهنت صحته، وتم نقله إلى العناية المركزة، وأنا أقتفي ألمه.. أستطيع أن أتفهم هذا الشعور جيداً في نفسي؛ فقد مررت مع أطفالي بالتجربة نفسها.. تساءلت وأنا وحيد في الغرفة أين سينام أمير هذه الليلة؟ وتألمت حين أجبت على نفسي أنه لن يعود إلى الحياة أبداً..! أشعر في مثل هذه المواقف، بأنني كمن ارتكب جرماً مشهوداً.. إذا لم أكن أنا الجاني؛ فإن الجاني شخص ما أعرفه؛ ولكني لا أستطيع أن أقول له: أنت قتلت أمير؛ على الرغم من أن الأدلة مستوفية المعالم، والشروط والأركان.. شخص ما فعل ذلك.. نعم “شخص ما قتل جاري”، على حد تعبير الكاتب عبدالعظيم الصلوي.. شخص ما غيّب أمير الذي مات وهو يبتسم لأبي الهول في الجيزة.. شخص ما يتجسد فينا جميعاً.. يتجسد في كل الذين يعبثون بمستقبل بلد عريق، عرف الحضارة قبل العالم بـ5 آلاف عام.
لا أقبل ولا أتفهم أن أمير مات بالصدفة؛ أو أن موته جاء هكذا: قضاء وقدراً.. أمير قتلته الفئة الباغية… الفئة التي تخيف 7 ملايين طفل في مواقع النزاع يتعرضون للقتل في أية لحظة.. محرومين من الأمن والدواء والتعليم والمياه النقية.
وفيما أنا أتصفح “فيسبوك”، نشر أحد الأصدقاء صورة أمير الذي أحدثت واقعة موته الكثير من الالم عند المتابعين لحالته الصحية.. كتب رضوان الحاشدي: “بعد صراع مرير مع المرض، الطفل الجميل أمير عادل الشجاع، يودع الألم في العاصمة القاهرة”.
مازلت وحيداً.. أسبح في بحر من الأخبار التي لا تسر، وأنت يا أميري تجيء كما تستدعيك الذاكرة.. مررت بأصابعي على شعر رأسي، وأنا في الحقيقة أتخيل أنها تتخلل شعرك.. وهو ما تمنيته لحظتها. انتقلت بأصابعي إلى وجهك الأسمر.. سترتك الحمراء التي رأيتها في الشاشة الزرقاء، وتخيلت أنها ممتلئة بروائح “الأدوية، الشاش” الذي يلتف حول رأسك وقد كتب عليه “عيدكم مبارك”.. تحسست رقبتك وأصابع يديك القصبيتين اللتين تحملان كلاشنكوف من البلاستيك. تضخمت رأسي إلى درجة أنني حاولت قلعها لأضعها جانباً، وأستريح.. جاءت الأمنيات من كل حدب وصوب: تمنيت أن أنفخ روحك لأستعيدها من القبر، وأن أمنحك حياة ثانية تكون بحجم فرحك الطفولي.
الطفل الذي مات وهو يبتسم للنهر
أحسست بأن جسدي يحتاج للراحة. تمددت على الأرض. كنت أريد أن أسند فقرات ظهري الملتهبة. فقرات ظهري التي شعرت أنها تعرت من اللحم، توزعت شرايينها على ثقوب غير مرئية في الهواء. قبل دقائق شاهدت وجهي في مرآة الحمام، كما لو أنه شجرة ضمرت وتيبست؛ ثم تخشبت بفعل عوامل التعرية.
رأيتني شجرة بغصون ميتة، جففتها حمى الضنك التي تفتك بآلاف، في هذه الآونة، في تعز والحديدة.. شجرة تساقطت أوراقها وتقشر جلدها، وضاعت أيامها في هياج شتاءات الحروب الضارية.. شجرة تبكي أفول نجم حديقتها.. ووطنها الأم، كأنها زرعت في الشمال البارد الجاف.
لم تكف التداعيات.. انثيال غزير وتهويم وأصوات ومونولوجات.. ترى كيف تم غسل جسدك الصغير، وكيف تم تكفينك، ومن هم الذين ذهبوا بك إلى “الجبانة”؟ لا أدري لماذا تخيلت أنهم كفنوك على صوت ذئب ليلي شردته قبيلته؛ ذلك الذئب هو أنا.. أنا من أطلق العواء “لينقل النبأ الأليم على بريد البحر الأحمر”، إلى الضفة الأخرى.. تمنيت لو أنهم كفنوك يا صغيري في غمد “جنبية” نسيها أحد الأجداد، قبل قرون، في هذه الأرض المباركة، وربما أحد الأجداد الذين زاروا عبدالناصر في القاهرة.. عبدالناصر ذلك الرجل الذي حاول مدّ سواقي الحنين النيلي إلى اليمن، لكن اليمني بطبعه ابن جبال قاسية، يمضي خلف إيقاعات الحرب الضروس دائماً.. أتدري يا أميري الصغير، لقد تخيلت أن عبدالناصر جاء ومشى في جنازتك.. هو أيضاً ابن قرية، يلبس الجلباب، ويسهر مع المساكين في المقاهي، ويحتضن اليتامى، ويربّت على أكتاف الأرامل والمشردين، ومن تقطعت بهم السبل في ليالي الظلام الدامس، ويحب اليمنيين. عبدالناصر الذي رثاه الشاعر نزار قباني قائلاً: “قتلناك يا آخر الانبياء”.
من قتل أمير، وقتل الكثير من الأطفال في اليمن، ليس مجهولاً، وإنما هو المعلوم بعينه.. جميعنا نعرفه.. يختبئ في عتمة السرير الوثير الذي خطفه من بين أنياب المحرقة.. ما جدوى ألا نبوح باسم القاتل وقد حفر لأطفالنا ملايين الحفر…! ليس أمير وحده من ضاعف المرارة، والحسرة، ولكن آلاف الأطفال الذين يموتون في القرى، والمدن والطرقات.. يموتون من الإهمال، والفقر والألم على فقدان الآباء والأمهات.
كل الطرق تؤدي إلى القبر
آه يا أمير.. منذ عام وأنت تسكن شارع الهرم، ما يعني أنك قريب من حي الدقي الذي أقطن فيه.. لم يكن بيننا سوى 10 دقائق، لأكحل عيني بابتسامتك.. لإراك… لنتلقي يا عزيزي، ثق وأنت في عالمك الجديد مع ألعابك الجديدة التي اشترتها لك الملائكة، أنني كنت دائماً مع روحك.. أسير معها، وأغني معها، أغاني الصبر، والأمل، ولكن ظل النحس كان يمضي في الاتجاه المعاكس.. أي ظل حقير هذا الذي تآمر على طفل؟ تركني الظل اللئيم مع طيفك في منتصف الدائرة.. أعرف يا أميري أن كل الطرق تؤدي إلى القبر؛ ولكن ليتها كانت تؤدي إلى الحدائق التي طالما أحببتها.. الصحة التي تركتك وحيداً في الغربة… أعلم أن الله أرسل روحك لتعانق النيل؛ أحد معالم الأرض؛ مثل روحك تماماً… وأعلم أن فيض الحنان المفتوح هو الذي أصر على أن يعانقك، لأنك الطفل الوحيد بعد موسى.. الطفل الوحيد الذي نام وهو يبتسم للنهر… لا تبكِ يا صغيري إذا شعرت بالوحدة، تخيل أنك نبي هذا العالم المجهول.. حلق أيها النبي مع طيور الجنة، ولا تبتئس.
البكاء من قسوة الحياة
“حميد”، طالب دكتوراه في جامعة القاهرة، كلما التقينا في المطعم اليمني، يحدثه الأصدقاء عن الألم والبكاء والمخاوف الكبيرة على الوطن؛ لكنه في كل مرة يوقفهم.. يقول: “انتبهوا البكاء فخ..”. في كل مرة أنت لا تبكي الجثة التي أمامك، وإنما تبكي من قسوة الحياة التي تضطجع في عالمك المجهول.. تُرى من هذا المجهول..؟ أظنه من قتل أمير، لأن من قتل أمير، وقتل الكثير من الأطفال في اليمن، ليس مجهولاً، وإنما هو المعلوم بعينه.. جميعنا نعرفه.. يختبئ في عتمة السرير الوثير الذي خطفه من بين أنياب المحرقة.. ما جدوى ألا نبوح باسم القاتل وقد حفر لأطفالنا ملايين الحفر…! ليس أمير وحده من ضاعف المرارة، والحسرة، ولكن آلاف الأطفال الذين يموتون في القرى، والمدن والطرقات.. يموتون من الإهمال، والفقر والألم على فقدان الآباء والأمهات.