أنسم-
خريف 1997 على باخرة وسط نيل القاهرة، غنت إيمان إبراهيم في حفل زفافها منهية حياة فنية بدأتها في 14 أكتوبر 1988، صنعت خلالها اسمًا لنجمة تنبأ لها كثيرون بمستقبل كبير، لكنها اختارت الحب والأسرة في مقايضة مع الغناء.
ولدت إيمان في القاهرة 26 مارس 1973 لأم يمنية هي بلقيس ميسري وأب مصري إبراهيم محمد، تزوجا في عدنعام 1969وغادرا إلى القاهرة، لينفصلا بعد ذلك، فتعود الأم وطفلتها إلى كريتر، لتنشأ إيمان في منزل جدها لأمها عبده محمد ميسري، الطبيب الشغوف بالموسيقى ويجيد العزف على الكمان، كما أن عم جدتها هو الفنان الكبير خليل محمد خليل، وتربطهم صلة نسب بالشاعر لطفي جعفر أمان، ما جعل محيطها فنيًا: وراثيًا واجتماعيًا.
أثناء زواجي، كان لدي إحساس دائم أنني سأعود للغناء ولكن لا أعرف متى
صوتك مش حلو
بدأت إيمان إبراهيم أولى خطواتها نحو الفن عام 1980 مع حصة الموسيقى في الصف الأول الإبتدائي بمدرسة عوض ميسري (البيحاني حاليًا) الملاصقة لدار جدها، حينها كان مدرس الموسيقى يبحث عمن يجيد الغناء، فتبادر الطفلة “أنا”، ليصدمها الرد: “ما تنفعيش.. صوتك مش حلو”.
تقول إيمان لـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم: ” كنت كلما رأيت زملائي يغنون بشكل جماعي أو فردي أزعل، ما أعطاني نوعًا من التحدي ليكون صوتي حلو”.
“كنت حاسة أنه لدي شيء لم يستطع أحدٌ إخراجه” أضافت مبتسمة.
عندما بلغت الطفلة العاشرة، حصلت الأم على عمل كسكرتيرة لممثل الأمم المتحدة المقيم “جنوب اليمن” وقررت الانتقال من كريتر لحي المُعلا، لكن عمل الأم فرض غيابها ساعات طويلة، فكانت الطفلة وحيدة بين كومة كبيرة من الأشرطة “الكاستات” وسماعات كبيرة (للأم السمِّيعة) وهاجس داخلي يدفعها للغناء وعدم الاقتناع بأن “صوتها مش حلو”.
⇐ اليمنيات يواجهن الحرب بالإنسانية | اقرأ أيضًا في أنسم |
استثمرت إيمان صباحاتها الوحيدة في التمرين والتدريب الذاتي على الأغاني، يدفعها إصرارها، ” كنت أفتح المسجلة للأخير وأغني، لا أحد معي في البيت يقول لي ( اصّْ )، فكنت أتحدى نفسي مع العُرب الصعبة”، قالت لـ أنسم.
كان هذا يحدث كل صباح تقضيه الطفلة حتى موعد مدرستها في الظهيرة وفي الطريق الطويل للمدرسة تكرر ما سمعته “كنت اتشبع بالفن وأهمل في مدرستي”، تقول ضاحكة.
صاحبة الصوت الحلو
1985، “من يجيد الغناء؟”، سأل مدرس الموسيقى الجديد طلاب الصف الخامس، تبادر إيمان بثقة: “أنا”، وبدأت بالغناء لينبهر الأستاذ بصوتها، لتصبح صاحبة “الصوت الحلو” حديث زملائها واهتمام إدارة المدرسة.
يحدث هذا والأم لا تعرف شيئًا عن ابنتها المطربة التي غدت أبرز فقرة في احتفالات المدرسة، إلى أن نظمت الأم يومًا حفلًا عائليًا حضره قريب لهم يعزف على العود، فطلبت الفتاة منه أن يعزف أغنية عزيزة جلال (مستنياك)، ذُهلت الأم التي لاحظت ملكة ابنتها فجأة، فذهبت بها لبرنامج “استوديو الفن” الذي كان يقدمه المذيع جميل مهدي وغنت فيه (الورد جميل).
بحثت الأم عن من يوصلها للملحن (أحمد بن غودل) لتقديم ابنتها إليه، تقول إيمان: “ذهبنا بعد المغرب لمكتب بن غودل الذي استقبلنا ببرود، فقط ليرضي أم فرحانة ببنتها”، لكن سرعان ماتلاشى ذلك البرود ما إن بدأت إيمان بالغناء.. “كيف تتفرجي عليها ومحدش داري ولايعرفها؟! عاتب بن غودل الأم.
استقبلها بن غودل ببرود وبعد سماعها قدمها للجمهور بحضور الرئيس
سعى بن غودل لأن يكون له سبق اكتشاف الصوت الجديد، فكان العمل الأول الخاص لإيمان إبراهيم (عاشقين) الذي قدمها من خلاله في الاحتفال باليوبيل الفضي لثورة 14 أكتوبر 1988، بحضور علي سالم البيض رئيس اليمن الجنوبي سابقًا.
تقول إيمان لـ أنسم: ” كنا نقوم بعمل البروفات بعيدًا عن معهد إدارة إنتاج الفنون في حي حافون بالمعلا، أراد بن غودل أن يجعلني مفاجأة الحفل، وكانت الفرقة الموسيقية والكورال يتمرنون بمفردهم ولا يعرفون من الذي سيغني أمامهم، وفي آخر بروفة قبل الحفل امتعض الجميع في الكورال، إذ: كيف يغنون خلف طفلة”.
كان رهانًا وتحديًا من بن غودل أن يقدمها لاحتفال مهم، مناسبةً وحضورًا، هذا الظهور “الحلم” حمَّل إيمان لاحقًا عبئًا كبيرًا في خيارها الفني حيث اختارت المسار الطربي الكلاسيكي الفصيح غالبًا.
مسيرة قصيرة حافلة
بعد انطلاقتها في اليوبيل الفضي لثورة أكتوبر، انضمت إيمان رسميًا لفرقة الإنشاد لتؤدي أغانٍ جماعية وفردية كثيرة، ومن أولى أغانيها الخاصة (كل المطاريق) وأغنية (حنين التلاقي) المعروفة بـ (حبيبان نحن) التي اشتهرت بها، وتقول إيمان إنها “أغنية صعبة لفتت انتباه الكثير من الفنانين والموسيقيين لي”.
انتقلت الفتاة – خلال دراستها الثانوية – إلى المشاركة في المهرجانات داخل وخارج اليمن، فكان أول مهرجان في المكلا بحضرموت، ثم الأسبوع الثقافي اليمني في بغداد والانتقال مباشرة إلى الكويت، لتعود مجددًا الى العراق في مهرجان البصرة.
أصدرت إيمان ألبومًا واحدًا حمل اسم (ياغايب) تعاونت في معظمه مع الملحن عصام خليدي، وعدد من الأغاني سجلتها لإذاعة وتلفزيون عدن.
وفي العام 1990 انتقلت والدتها إلى عاصمة دولة الوحدة صنعاء – نظرًا لدمج الوزارات والهيئات المحلية والدولية وانتقال المكاتب الرئيسية لعاصمة الوحدة -، فانتقلت الام رفقة ابنتها التي واصلت نشاطها الفني بالمركز الثقافي، قدمت حينها أغنية (فرحة الشعب) احتفالًا بتحقيق الوحدة اليمنية، كلمات الشاعر محمد عمر باطويل وألحان عصام خليدي.
قام مدير المركز الفنان علي الأسدي بتوظيفها رسميًا ولكن إيمان لم تنهِ اجراءات التوظيف لحصولها على منحة لدراسة علم الاجتماع في جامعة دمشق، وغادرت تحت إلحاح والدتها عليها لإكمال تعليمها الجامعي، تقول إيمان: “كانت دراستي لعلم الاجتماع خطأً فادحًا لأنه ليس مجالي ولم أحبه، فلم أستطع الاستمرار وعدت بعد سنتين إلى صنعاء”.
لا يمكن أن أغني في مطعم و أماكن السهر والناس منشغلة عن سماعي
ممنوعة من الغناء
“تعرفتُ على (خالد الكينعي) ووقعت في حبه، ولكنه كان معارضًا للفن فوافقت على تركه رغم اعتراض والدتي” قالت إيمان.
وفي 17 أكتوبر1997 أقيم حفل زفافهما في باخرة وسط النيل في جو عائلي بعيدًا عن أعين الناس والإعلام، حينها غنت إيمان وكانت أغنيتها الأخيرة.
اندمجت الفتاة العدنية في المجتمع القبلي الصنعاني وأحبته، تقول لـ أنسم: “نعم هي بيئة مختلفة، عشت وسط القبائل ولكني تعلمت منهم الكثير، أحببت بساطة النساء وحكمتهن، تعلمتُ الطبخ وخبز التنور، وبعدت عن المشاكل والنميمة التي كانت تحدث في الوسط الفني”.
تذكر إيمان بامتنان ما تعلمته من زوجها “علمني خالد حب القراءة والإطلاع وأسلوب التعامل والهدوء وأشياء كثيرة جميلة”، كما تكن لوالدته محبة كبيرة، “كانت سيدة حكيمة.. شعرت بخسارة كبيرة عند موتها” قالت.
استمر الزواج عشرين عامًا، كان ثمرته ستة أطفال: جهينة، نورالهدى، هبة الله، صهيب، مايا والبراء.
“كنا عائلة سعيدة، رغم أن زوجي منعني من الغناء حتى أمامه وأمام الأبناء”، قالت.
ولكن الحرب التي دمرت كل شيء، دمرت أيضًا زواج إيمان بزوج تم اقصاؤه من عمله، لتبدأ الضغوط وتكثر الخلافات والمعاناة، فتقرر إيمان: “لا أستطيع تقديم المزيد من التضحيات”، تقول لـ أنسم.
أشعر بإحباط كبير فوزارة الثقافة التي استقبلتني بترحاب شخصي لم تكن كذلك رسميًا
العودة بالسلام
وكما بدأت الطفلة التدريب وحيدة إلا من إيمانٍ بقدرتها وحبها للغناء، كانت الزوجة وخلال عشرين عامًا تستغل أي وقت فراغ وغياب للزوج لتسمع وتغني ما جعلها تحتفظ بقوة صوتها وجماله.
تقول إيمان: “لم أتوقف أبدًا عن سماع الأغاني وخاصة الطربية وكنت أغني معهم دائمًا عندما أكون بمفردي في المنزل، كان لدي إحساس دائم أنني سأعود ولكن لا أعرف متى”.
وعندما حدث الطلاق العام 2017 كان الفن بوصلتها ودليلها، فقررت العودة، “لا تخافيش اقدمي على الخطوة” شجعها زملاؤها.
في 2018 سمعت عن أشرف السامعي الذي كان يبحث عن فنانين لتقديم أعمال “طوعية” عن السلام، وكانت العودة بـ (الشمس غاربة) و(عليك السلام)، لتلحقهما في نوفمبر المنصرم بأغنية (قل ماتشاء) والتي كانت سمعتها في جلسة من ملحنها الفنان مراد العقربي “اكتشفت في اليوم الثاني إنني أرددها، فعرفتُ أن المستمع سيحبها مثلي، فطلبت منه أن أغنيها” توضح لـ أنسم.
⇐ سامية العنسي.. فتاة الإذاعة | اقرأ أيضًا في أنسم |
إحباط
وبعد عامين من العودة “أشعر بإحباط كبير فوزارة الثقافة التي استقبلتني بترحاب شخصي لم تكن كذلك رسميًا، رغم أنه لدي توجيه من رئاسة الوزراء لكنه مازال مهملاً”، قالت.
وتضيف: “لا أريد شيئًا سوى وظيفة تضمن العيش بأمان لأطفالي، فأتفرغ لفني الذي عدت لأقدمه بشكل طوعي ودون مُقابل”.
تشعر إيمان بإمتنان للشعراء والملحنين الذين تطوعوا بتلك الأعمال والتسجيل بالاستوديوهات مجانًا لها، “لكن صعب أن يستمر الفنان بلا دعم ولا مقابل.. فأنا أعيش بمساعدات الأصدقاء المؤمنين بموهبتي”.
ورغم حاجتها للمال ترفض إيمان الغناء في أماكن السهر والمطاعم والفنادق رغم العروض المغرية، تقول لـ أنسم: “لا يمكن أن أغني في مطعم أو في الفنادق وأماكن السهر والناس منشغلة فيما بينها عن سماعي”.
تتابع بألم: “أنا في القاهرة بعيدة عن أطفالي منذ سنة ونصف ولم استطع إنجاز شيء، وأصبحت أفكر جديًا بالعودة لعدن لأخذهم من عند أمي والعودة لصنعاء”.
وتعتب إيمان على المنظمات والفعاليات النسوية إهمالها للفنانات وعدم اشراكهن في الأنشطة، “إنهم يُلغوننا تمامًا وكأننا لا ننفع للمشاركة في قضايا النساء والوطن”، تختم إيمان حديثها لـ أنسم.
المصدر | مادة خاصة بـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم