الموقع بوست
ملف الاغتيالات في العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، أحد أسوأ الملفات المكشوفة رغم غموضها، أو الغامضة رغم انكشافها.
الأسبوع الجاري، ومع عودة الحكومة إلى عدن التي تسيطر عليها الإمارات بشكل كامل، واقتراب تشكيل الحكومة الجديدة التي من المقرر أن تؤدي اليمين الدستورية أمام الرئيس في عدن، وتمارس فيها مهامها بناء على "اتفاقية الرياض"، عادت الاغتيالات إلى مدينة عدن لتشهد تسع عمليات اغتيال خلال ثلاثة أيام فقط، نجحت منها خمس، استهدفت الرائد في البحث الجنائي "صلاح الحجيلي"، وزميله مدير البحث الجنائي السابق بالمنصورة "محسن البيتي"، ثم رئيس البحث الجنائي بشرطة العريش "الرائد سالم لهطل"، وجميعها بالرصاص على يد مسلحين يستقلون دراجات نارية، والجندي "ماجد عفيف"، والجندي "لؤي أبو سارة". بينما فشلت العمليات التي استهدفت كلا من أركان اللواء الرابع عمالقة "عبد الفتاح السعدي"، والجندي "أحمد علي سالم" الذي أصيب إصابة بالغة حسب مصادر صحفية، والدكتور سامي باعباد، والضابط عادل عفيف.
كانت أول حلقةٍ في هذا المسلسل عمليتين يوم 30 أغسطس 2015، أي بعد 43 يوما من تحريرها من مليشيات الحوثيين (17 يوليو).
وتشير واحدة من أهم أوراق هذا الملف، إلى أن 17 حادثة اغتيال شهدتها عدن خلال الشهر التالي لتعيين عيدروس الزبيدي محافظا، وشلال شايع مديرا للأمن، وفي ذلك الشهر أعلن عن أول عملية اغتيال في شريحة الخطباء وأئمة المساجد، وبدا أن الأطراف الخارجية التي تقف خلف مخطط الاغتيالات شعرت بالانفراج بعد حصولها على طرف داخلي لديه الاستعداد لتحمل المسؤولية بالنيابة عنها، فضلا عن استعداده للمشاركة ضمن الأيادي المحلية المنفذة.
خلال تلك الفترة، ظل الإعلام والخطاب السياسي لمختلف الأطراف يحمّل خلايا صالح والحوثي المتبقية في عدن مسؤولية هذه العمليات، مسنودا بإعلام دول التحالف، السعودية والإمارات، وذلك ضمن التوجه الإعلامي الرامي لإدانة طرفي الانقلاب في صنعاء، وساعدت الظروف السياسية حينها على توجه الرأي العام نحو هذا التفسير، أو تقبله على الأقل، كما لم تكن قد عمّت الانقسامات داخل صفوف الشرعية على نحو ما هي عليه اليوم، ولا كان المخطط الإماراتي قد اتضح بالصورة التي بدا عليها لاحقا، كما لم تكن تلك الفترة تسمح للأطراف السياسية والمناطقية بالتوظيف البيني لحوادث الاغتيالات ولو لمجرد الكيد السياسي.
رغم مأساوية المسلسل، كان الأمل سائدا في الشارع اليمني بأن ما يحدث هو آخر ما يمكن صالح والحوثيين فعله، وأنه سيتلاشى تدريجيا، إلا أن تصاعد وتيرته بعد ذلك واستمراره حتى اليوم رغم السيطرة الأمنية للإمارات وحلفائها الذين أنشأتهم محليا، أثبت أن الحوثيين ليسوا أكثر من طرف محلي مشارك، أو أداة من أدوات المخطط. وكان وزير الداخلية أحمد الميسري قد أعلن في مؤتمر صحفي بعدن، في 15 يناير 2019، عن القبض على خلية اغتيالات مرتبطة بالحوثيين، ووعد بالكشف عنها إلا أن ذلك لم يحدث.
أهم أوراق الملف
إحصائية عمليات الاغتيال التي تتبعها هذا التقرير للعام 2016، تشير إلى وقوع 17 حادثة اغتيال بين 4 يناير و26 من ذات الشهر، وهذا رقم مهول مقارنة بالأشهر السابقة، ويلاحظ في ارتفاع هذه الموجة أنها جاءت عقب شهر واحد فقط من القرار الجمهوري الصادر يوم 7 ديسمبر 2015، والقاضي بتعيين عيدروس الزبيدي محافظا لعدن، وشلال شايع مديرا عاما للأمن. كأنّ الأطراف الخارجية التي تقف خلف مخطط الاغتيالات شعرت بالانفراج بعد حصولها على طرف داخلي لديه الاستعداد لتحمل المسؤولية بالنيابة عنها، فضلا عن استعداده للمشاركة ولعب دور الأيدي المحلية المنفذة.
وبالطبع، لم يكن غريبا أن يجري في ذات الشهر، يناير 2016، تدشين الجزء الخاص بالخطباء من مخطط الاغتيالات، وذلك باغتيال إمام وخطيب مسجد القادرية، الشيخ علي عثمان الجيلاني، يوم 4 يناير، ثم توالت الاغتيالات لهذه الشريحة من خطباء وأئمة المساجد، لتغدو القائمة بالعشرات، وقد آلت منابرهم من بعدهم إلى آخرين ينتمون إلى تيار رجل الدين، ورجل الإمارات الأول في جنوب اليمن، هاني بن بريك، نائب رئيس "المجلس الانتقالي".
توازى مع حملة الاغتيالات التي طالت هذه الشريحة، حملات تحريض إعلامي من قبل "هاني بن بريك" الذي لم يتوقف عن تهديد الخطباء واتهامهم بالإرهاب على صفحته في تويتر، وكذا التحريض من إعلام المجلس الانتقالي بشكل عام، والتبرير لكل عملية اغتيال، بل وتمجيدها والتغني بها في بعض الأحيان.
اليوم والأمس.. وجه الشبه
في فترة بدايات عمل عيدروس الزبيدي وشلال شايع مطلع العام 2016، كان الوضع في عدن متسما بالتصعيد الإماراتي ضد الرئيس عبد ربه منصور هادي، سياسيا وأمنيا، بغية إطباق الحصار عليه في قصر معاشيق، وتقييد حركته وحركة رجالاته، وإسناد الضغوطات الرامية إلى دفعه لمغادرة عدن، وقد غادرها فعلا في 13 من الشهر التالي إلى الرياض، في فبراير 2016.
ومع عودة حكومته اليوم إلى عدن، والخطوات الجارية لتشكيل حكومة جديدة بموجب "اتفاقية الرياض" الموقع يوم 5 نوفمبر 2019، والذي نص على تشكيل حكومة تؤدي اليمين الدستورية أمامه في عدن، وأن تمارس فيها مهامها، تعود الاغتيالات إلى الواجهة، منذرة بعودة الأوضاع في عدن إلى مربع القلاقل الأمنية والاغتيالات الذي ساد في تلك الفترة من العام 2016.
ضحايا شريحة القضاة.. القاسم المشترك
عدد من حوادث الاغتيالات طالت أشخاصا ينتمون لسلك القضاء، إلا أن فحص المعلومات الخاصة بهم يفضي إلى نتيجة ملفتة، وهي أنهم تعرضوا للاغتيال تبعا لارتباط عملهم بالوظيفة الأمنية بشكل مباشر، وتحديدا ملف الإرهاب، وليس لوظيفتهم العامة في القضاء والنيابة.
يمثل هذه الشريحة: عباس العقربي، أمين سر المحكمة المتخصصة بالإرهاب، وحسن محمد علوان فرحان، رئيس الشعبة الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب، وخلفه في ذات المنصب عبد الهادي المفلحي، وجلال عبد الله الحكيمي الذي تعين قبل أيام من اغتياله في الشعبة الجزائية المتخصصة بالإرهاب بحضرموت، أي كان يشغل في حضرموت ذات المنصب الذي كان يشغله كل من حسن علوان والمفلحي في عدن.
ويشار هنا إلى شخص خامس وصفته وسائل الإعلام في تغطية خبر اغتياله بأنه ينتمي لشريحة القضاة، وهو امرأة تدعى "ألطاف قائد"، إلا أن المعلومات التي حصل عليها معد هذا التقرير تنفي صلتها بالقضاء، وتقول إنها قتلت أثناء اغتيال زوجها "العقيد طه الصبيحي"، حيث كانت معه على السيارة في لحظة اغتياله، ما يعني أن وجودها بجواره أثناء اغتياله تسبب بقتلها، لا أنها كانت مقصودة بالاغتيال.
القاسم المشترك بين ضحايا الاغتيالات من هذه الفئة، هو ارتباط وظيفتهم بالجانب الأمني المختص بالإرهاب وليس لعملهم في القضاء والنيابة، ما يشير إلى أن الأمر أكبر من أن تعتبر الاغتيالات في عدن انعكاسا طبيعيا لحالات الفوضى التي تشهدها، ولا بكونها مدينة خارجة من حرب كما كان يروج، بل عمل منظم له أهداف مباشرة، ولأطراف كبيرة لديها صلة ما بملف الإرهاب.
البحث الجنائي.. هدف أساسي
بالنظر إلى الوقائع، يظهر جليا أن المخطط يدار بواسطة دائرة محلية هي بمثابة الوكيل المحلي، وترتبط بأخرى إقليمية ودولية تمثلها الإمارات بشكل مباشر كونها الحاكم المسيطر على عدن.
في قائمة المستهدفين، تظهر شريحة الأمنيين المنتسبين إلى "البحث الجنائي" واحدة من أعلى الشرائح المستهدفة. من ناحية عملية، يعد البحث الجنائي أحد فروع العمل الاستخباراتي، ومن الأعصاب الرئيسية التي تعتمد عليها القبضة الأمنية في الحكم. وقيام تنظيم "داعش" في 6 نوفمبر 2017 بالاستهداف في عدن لمبنى البحث الجنائي وبتلك الصورة غير المسبوقة بمستوى العنف والتدمير، ربما كان مرتبطا بهذا التوجه، ويهدف إلى إتلاف الملفات المعلوماتية، والتعطيل الكلي لوظيفة البحث الجنائي، والخلاص من كوادره غير المرغوبة لدى الطرف المسؤول عن هذه الاغتيالات، وآخرهم هو "الرائد سالم لهطل" الذي تعرض للاغتيال أمس الثلاثاء في مدينة الشيخ عثمان بعدن.
تنفيذ الاغتيالات بأريحية تامة
معظم حالات الاغتيال، اعتمد فيها الفاعل على الرصاص الحي رغم أن الاعتماد على هذه الوسيلة هو الأكثر خطورة عليه، كون استخدام الرصاص يرفع نسبة احتمال انكشاف الأفراد المنفذين ووقوعهم في القبض، ويتطلب التنقل بسلاح لا يمكن إخفاؤه، بخلاف الأساليب الأخرى التي تعتمد على زرع العبوات الناسفة وغيرها من الوسائل، خاصة وأن هناك كثافة كبيرة في النقاط الأمنية في مختلف شوارع عدن، الأمر الذي يفهم منه أن الطرف المسؤول عن هذه الاغتيالات التي يفضل فيها استخدام الرصاص، لا يخشى انكشاف الأفراد المكلفين بالتنفيذ، كونه المسيطر على الأمن، والقادر على تمرير السلاح في الحواجز الأمنية، والضامن لسلامة عمليات تنقل المكلفين، كما أنه المختص باحتجازهم وسجنهم في حال انكشافهم أو وقوعهم في قبضة آخرين، ثم هو المسؤول عن التحقيق معهم، وبالتالي فهو طرف آمن ينفذ العمليات بسلاسة ويسر وبأريحية كاملة.
ربما أن هذا يقدم شيئا من التفسير لسرعة وتيرة تنفيذ هذه الاغتيالات رغم استهدافها لأهداف نوعية، والواقع يرجح هذا، حيث تم القبض على منفذي بعض الاغتيالات من قبل مواطنين عاديين أو من قبل مسلحي المقاومة قبل أن يتم تأطيرهم في ألوية الجيش، مثل قتلة الشيخ العدني الذين قبض عليهم أفراد تابعون لإحدى نقاط المقاومة ذلك الحين، وتم تسليمهم لإدارة الأمن كونها الجهة المختصة، ومن هناك تم تهريبهم.
وأكد مدير الأمن "شلال شايع" أكثر من مرة أن إدارته ألقت القبض على منفذين لهذه الاغتيالات، وأكد أن الإدارة ستقوم بواجبها بالتحقيق معهم وكشفهم وإحالتهم للمحاكمة، إلا أنه لم يحدث شيء من هذا.