كتب: متولي محمود لموقع "درج"
"لم أتذكر حينها شيئاً سوى زوجتي وطفلتي أسيل، وهما تنتظران عودتي على الغداء ظهر الجمعة... الضيف الذي لم يأتِ بعد، ولا تعرفان له أثراً"، يقول المصور طه صالح.
يحتل اليمن مرتبة متدنية عالمياً في سلم حرية الصحافة، وقد تعرض صحافيون للخطف والقتل والاعتقال والتضييق خلال سنوات الحرب الماضية، وهنا حكاية المصور “طه صالح”
كانت القصة قصة خمس فتيات قاصرات، قضى والديهن في الحرب، ونال منزلهن الصغير نصيبه من الدمار في حي الجحملية، وهو الحي الأكثر تضرراً من الحرب في مدينة تعز وسط اليمن، ويقع في خط التماس منذ 5 سنوات. وبذلك اضطرت الفتيات للنزوح إلى وسط المدينة، عند أقاربهن، بحثاً عن ملجأ يخفف وطأة الوحشة والمعاناة.
لكنّ القصة بعد حين باتت قصة المصور الصحافي طه صالح، الذي قرر أن يجول مع الفتيات برفقة عمتهن المسنة ومعيلتهن الوحيدة، قرب المنزل المدمر لأخذ صور، وكتابة قصة إنسانية عن الفتيات، لعلها تجد آذاناً صاغية.
أخذ صالح إذناً بالتصوير من نقطة أمنية مجاورة، وبدأ يلتقط الصور لبقايا المنزل، وإذا بمسلح على دراجة نارية يرتدي ثياباً مدنية يصرخ: “لمن تصور أنت، من سمح لك بالتصوير؟”.
وكان الرد مباشراً: “أصور قصة إنسانية لفتيات تضررن من الحرب، وأخذت إذناً من جندي الأمن هذا الذي يقف بجانبي”.
هز المسلح رأسه، وغادر المكان، قبل أن يعود بعد خمس دقائق فقط، لكن هذه المرة بطقم عسكري برفقة جنديين يحملان سلاحاً متوسطاً، 23 ملم.
“توقف عن التصوير”، صاح المسلح المدني، وأمر المصور ومساعده بالصعود إلى السيارة العسكرية.
أصاب الفتيات الذعر وبدأت الصراخ: “لا تأخذوه! جاء يصور منزلنا المدمر”. “إذا كان ولا بد، فعليكم أخذنا جميعاً”، صاحت العمة.
حاول جندي الأمن أن يدافع عن المصور، كونه من أذن له، غير أن المسلحين لم يستمعوا إليه: “هذا ليس من اختصاصك!”.
“توقف عن التصوير”، صاح المسلح المدني، وأمر المصور ومساعده بالصعود إلى السيارة العسكرية.
“أقوم بعمل إنساني، وبإمكانكم تصفح الصور من الكاميرا، وإذا قمت بعمل غير شرعي بإمكانكم أخذي ومصادرة الكاميرا أيضاً”، قال صالح محاولاً الدفاع عن نفسه، لكن ذلك لم يمنعهم من أخذه إلى جهة مجهولة.
أجّل صالح ومساعده الذعر قليلاً، آملين بالحصول على بعض التفهّم حين يصلان إلى قيادة أولئك المسلحين، كونهما لم يرتكبا ما يستحق الاعتقال.
خطوط التماس
كانت السيارة تتجه إلى خطوط النار ونقاط التماس مع الحوثيين شرق المدينة، يقول طه صالح: “وصلنا إلى جانب بناية أمامها مسلحون، هناك أنزلونا من على السيارة، ليقول خاطفنا لهم “خذوا لكم هذا واتركوه عندكم”، يقصد مقتنياتهما.
ويضيف صالح: “بينما كنت أطالب بمقابلة القائد المسؤول للتفاهم، إذا بالجنود يهجمون على معدات التصوير التي كانت بحوزتي، وتلك التي كانت مع محمد مساعدي.
“حاولت سحب هاتفي من جيبي لأتصل بأحد القياديين الذين أعرفهم في المنطقة، لكن المسلحين سحبوا الهاتف من يدي وقالوا إنه ليس بإمكاني الاتصال”.
تم إيداع المصور ومساعده في غرفة مظلمة في المبنى المجاور، من دون أن تعرف عائلتيهما أي شيء، بعد قطع وسائل الاتصال عنهما، وأخذ أجهزتهما المحمولة.
“لم أتذكر حينها شيئاً سوى زوجتي وطفلتي أسيل، وهما تنتظران عودتي على الغداء ظهر الجمعة… الضيف الذي لم يأتِ بعد، ولا تعرفان له أثراً”، يقول صالح.
جاء الفرج… لكن بعد ماذا؟
“بعد نصف ساعة، بدأ الضوء يتسرب من أحد الأزقة الصغيرة في الغرفة، وعرفت أن هناك أحد المختطفين على مقربة مني في الغرفة ذاتها”، يضيف صالح!
كلما كان يسمع صوت أقدام تقترب، كان المصور التلفزيوني يستنجد للسماح له بالاتصال وطمأنة عائلته، ولكن لا مجيب، حتى ظن أنه لن يرى النور مجدداً.
“أحد السجناء بجانبي ساعدني، لكي أتواصل مع عائلتي، حتى يتمكنوا من معرفة مكان احتجازي، وفعلت ذلك فعلاً مع أول زيارة لذوي السجين، وأعطيته عنوان سكني لتعرف عائلتي مكاني”، يقول صالح.
بينما كنت أطالب بمقابلة القائد المسؤول للتفاهم، إذا بالجنود يهجمون على معدات التصوير التي كانت بحوزتي، وتلك التي كانت مع محمد مساعدي”.
ويردف: “ذهب الشاب لإيصال رسالتي، وعندها شعرت بنوع من الهدوء النفسي، كون معرفة مكاني بداية مهمة لإخراجي من هذا المعتقل القاتم”.
بعد نحو خمس ساعات سمع صالح صوتاً يناديه: “يا مصور اخرج”. كان قائداً عسكرياً، فتح الباب وقال لصالح: “أنت متهم بتصوير مواقع عسكرية سرية”. أكد المصوّر المسكين أنه لم يصوّر سوى قصة إنسانية، قبل أن يطلب القائد الكاميرا ليستعرض الصور.
“قال القائد العسكري: هذه آخر مرة تصور في هذا المكان، ثم أعادني إلى السجن بعد أخذ اسمي للاتصال والتحقق من هويتي، وحينها طلبت منه السماح بالاتصال بأسرتي”.
“لم يمانع القائد، لكن بشرط ألا أخبرهم أنني في السجن، فقط “أخبرهم أنك عند أحد أصحابك”، وفعلت ذلك وطمأنت عائلته”.
همس أحد السجناء: “لأنك مصور صحافي، سوف يطلقون سراحك، إنهم يخافون من المصورين، أن يفضحوهم، أما أنا فلا أحد سيهتم لأمري”.
وما هي إلا 15 دقيقة، حتى جاء الفرج: “خذ معداتك ولا تعد للتصوير في هذا المكان، وسامحنا”… “على ماذا؟!” استنكر صالح، مغادراً!
أن تكون مصوراً… ليست جريمة
ليست هذه قصة الخطف والتنكيل الوحيدة التي تعرّض لها صالح، ففي اليمن، يكفي أن تعمل في الخبر والصورة لتكون عرضة لشتى أنواع الظلم والقمع… وحتى القتل!
اليمن من أسوأ الدول في حرية الصحافة، وقد حل في المرتبة 168 من أصل 180 دولة، وفقاً لمؤشر حرية الصحافة، والانتهاكات ضد الصحافيين بلغت ذروتها مع استمرار الحرب.
في 19 تموز/ يوليو عام 2015، ذهب صالح لتغطية المعارك في مناطق التماس بين قوات الحكومة الشرعية والحوثيين شرق مدينة تعز.
“تعرضت لطلقة قناص اخترقت رقبتي، وخرجت من الجهة الأخرى من وجهي”، يقول صالح: “لم أجد من يسعفني، لكنني تمكنت من الخروج بمفردي من مكان الاشتباكات إلى مكان آمن، قبل أن يسعفني مواطن على دراجته النارية”.
“لم تكن في تعز مستشفيات للجرحى باستثناء المستشفيات الميدانية، وبعد ثلاثة أشهر من الإصابة بدأت أتماثل للشفاء وعدت لعملي الصحافي”، إلا أن صالح لا يزال إلى الآن وبعد 4 سنوات يعاني من تلك الإصابة، ولا يزال بحاجة إلى عمليات جراحية في الفك.
اختطاف من جماعات متشددة
في 23 آذار/ مارس عام 2016، قامت مجموعة من المسلحين المثلمين، وسط تعز، بإيقاف صالح برفقة الصحافي محمد القاضي، مراسل قناة “سكاي نيوز عربية”، والتي كان يعمل طه لديها في ذلك الوقت.
اقتاد المسلحون الصحافيين العاملين في القناة الإماراتية إلى مكان مجهول، وفق صالح: “ونحن في الطريق، سألنا المسلحين إلى أين تأخذوننا، فكان الرد: إلى عند الله”.
“لم نكن نفهم ما يحصل، مسلحون مجهولون، يقودوننا إلى مكان مجهول”، يسرد صالح.
“ونحن في الطريق، سألنا المسلحين إلى أين تأخذوننا، فكان الرد: إلى عند الله”.
وعند وصولهم إلى آخر وجهة، كان الملثمون ينادون شخصاً اسمه الأمير: “يا أمير لقد قبضنا على المطلوبين!”.
حاولنا التفاهم معهم “كوننا صحافيين نعمل في تغطية الحرب، لكن لم يصغ أحد لنا، قبل أن يأتي الأمير ويطلب هواتفنا ويتصفحها لمدة ساعتين ليقول لنا ببساطة، البلاغ كاذب”.
كان الخاطفون يتبعون الشيخ السلفي “أبو العباس”، بحسب صالح، لكنهم أمروا بإخراجه صالح وزميله إلى الشارع العام مفرجين عنهما، بعد ساعات من الرعب.
استقالة حفاظاً على الحياة
يذكر أن تقارير مراسل “سكاي نيوز” ومصوره حينها تركزت على تغطية الجانب الإنساني ومعاناة السكان من الحرب، وتجاهلت الأخبار السياسية، تجنباً لأي قولبة أو تصنيف قد يعيق مهمتهما.
لكن بعد تغير سياسة العمل في قناة “سكاي نيوز”، وبعد تطور الأحداث الأخيرة في عدن ودعم الإمارات لقوات المجلس الانتقالي، أصبح العمل في القناة أشبه بتهمة، الأمر الذي جعل المصور الصحافي يتوقف عن العمل، حفاظاً على سلامته.
“لقد تعرضت لمضايقات وتنمر على صفحتي في فيسبوك، واتهمت بخيانة بلدي بسبب عملي مع الإمارات، قبل أن أترك العمل، لأحافظ على سلامة أسرتي”.
وبهذا الخصوص يقول صالح: “لقد تعرضت لمضايقات وتنمر على صفحتي في فيسبوك، واتهمت بخيانة بلدي بسبب عملي مع الإمارات، قبل أن أترك العمل، لأحافظ على سلامة أسرتي”.
في تعز، غادر قرابة 7 صحافيين على الأقل الحياة، أثناء تغطيتهم الحرب الدائرة في المدينة طوال السنوات الماضية، فعملهم الميداني يفتقد لأبسط أدوات السلامة المهنية، التي لا توفرها وسائل الإعلام التي يعملون لديها، وكونهم ليسوا مراسلين حربيين يتمتعون بخبرة كافية في هذه الظروف.
قصة المصور “طه صالح” واحدة من عشرات القصص التي ترصد معاناة الصحافيين اليمنيين في ظل استمرار الحرب، وانسداد الأفق السياسي في البلاد، في حمام دم لا يريد أن يتوقف!