ذا أردت أن تعرف تفاصيل أخرى، أشد بؤسا، من معاناة اليمنيين، ربما لم تسمع عنها من قبل، ما عليك سوى أن تزور هذه المناطق..
بل، حتى أننا نستطيع الذهاب أبعد من ذلك، لنقول: إذا أردت أن تزور قرى وعزل لا زالت تعيش حياة عصور التخلف الغابرة، لما قبل ثورة 26 سبتمبر 1962، عليك أن تزور قرى: المليوي، والغودره، والمالح.. وغيرها من قرى عزلة "زريقه الشام"..!!
ولمن لا يعلم- وهم كثيرون؛ تقع عزلة "زريقة الشام" إلى الغرب من مديرية "المقاطرة" التابعة لمحافظة لحج (جنوب اليمن)، وإلى الجنوب من مديرية "الشمايتين" بمحافظة تعز. ويحدها من الجنوب مديرية المضاربة ورأس العاره (لحج)، ومن الشمال عزلة بني محمد ومن الغرب عزلة راسن ومن الشرق عزلة الزعازع (وجميعها تتبع محافظة تعز)، ويبلغ عدد سكانها 3000 نسمه.
في عمق "اللّا حياة"
قام فريق من موقع "يمن شباب نت"، و"شبكة الرؤية نت الإخبارية"، بزيارة هذه المنطقة وقراها، واطلع على أحوال المواطنين هناك، حيث لم يجد سوى المعاناة والمصاعب والمآسي والآلام؛ تلك التي كانت معظمها تستوطن العصور الغابرة، ولم يكن في الحسبان اكتشاف وجودها في هذا الزمان، في ظل ما وصلت إليه البشرية من تقدم في شتى مناحي الحياة..!!
جهل، وفقر، ومرض؛ ثلاثية التخلف والموت، ما زالت تتجول هنا في عزلة زريقة الشام، بحرية كاملة، بلا منازع، ودون أن يردعها رادع؛ سواء من حكومة، أم من منظمات إنسانية خارجية وداخلية..!!
كانت تلك هي خلاصة رؤيتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا الانسانية، وربما العاطفية، المسجلة من هذه الزيارة..، والآن جاء الدور لنضعكم جميعا، قراء ومتابعين، أم مسئولين حكوميين وقادة منظمات مجتمع مدني، في عمق تفاصيل تلك اللّاحياة الطافحة..
متلازمة التخلف والموت
لا وجود للدولة أو حكومتها هنا؛ فمشاريعها لم تعرف هذه المنطقة وقراها المترامية منذ زمن طويل..!! كما يقول السكان.
فالجهل أصبح يخيم على معظم قرى المنطقة، التي لا تكاد تجد فيها سوى بضعة مدارس معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما يضطر الكثير من الطلاب الى قطع عشرات الكيلو مترات للدراسة- أو استكمال الدراسة الإعدادية والثانوية- في قرى مجاورة، وربما بعيدة كثيرا بالنسبة لأخرين..
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحا.. بالنسبة لنا ربما كان الوقت ما يزال باكرا، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للطالب "باسم عبدالقادر الزريقي"، ذو الـ15 سنة، والذي يدرس في الصف الثالث الأعدادي (التاسع متوسط)..
كان باسم هو أول من التقيناه في عزلة "بني محمد"؛ بينما كان في طريقه اليومية الشاقة، يغذ الخطى نحو مدرسته البعيدة عن منزلهم في قرية "المليوي" في الزريقة..
"مافيش معانا مدرسة إعدادية في قرية "المليوي"، والمدرسة الوحيدة الأقرب لنا تقع في مديرية الشمايتين التابعة لمحافظة تعز". يقول باسم، الذي يضطر كل يوم إلى النهوض والتحرك باكرا الساعة السادسة صباحا، لكي يصل إلى مدرسته عند الساعة الثامنة بالكثير. كان يتحدث إلينا وهو يواصل سيره، ويستجمع أنفاسه المنقطعة، كي يلحق حصته الأولى.
في كل مكان تصله، وكل اتجاه تجول بنظرك إليه، لا تجد سوى مشاهد البؤس والعناء والفقر والمرض والتخلف، ليس بين الأطفال والنساء، الشريحة الأضعف، فحسب؛ بل أيضا بين الشباب قبل الكهول..!!
تلك المناظر الباعثة على الحسرة والألم، في ظل إهمال وتهميش فاضح من السلطات المحلية، وغياب تام للمنظمات الخيرية والانسانية على السواء..!!
"مافيش عمل، ولامساعدات.."!!، يقول عارف بجاش عوض الزريقي (45 عاما) بحسرة، قبل أن يستدرك، ساخرا: "والمنظمة الوحيدة الداعمة لي هي جملي هذا الذي أمامكم"، وأشار إلى الحيوان الضخم، الممتلئ بالصبر، الواقف بالقرب.
يعمل عارف في تجارة الأحطاب، التي يقوم بتجميعها من البرية لينقلها على ظهر جمله إلى مركز مدينة التربة، قاطعا مسافة خمس ساعات، لبيعها هناك. ويكسب عارف من بيع حملة الحطب الواحدة مبلغ 5000 ريال- أي ما يعادل 8.5 دولار أمريكي تقريبا، بسعر صرف اليوم.
يقال إن عزلة "زريقة الشام" كانت تنعم بالخيرات في السابق لما حباها الله من أرض خصبة واسعة، وكانت أحد أهم مصادر التمور منذ زمن بعيد..
أما اليوم، فيشكو الناس هنا من انعدام سبل العيش، حتى تلك التي كان المواطنون يعتمدون عليها، كـ: تربية النحل، والزراعة، بما في ذلك ثمار النخيل ومشتقاتها التي تستخدم في صناعة وحياكة المنسوجات،..، لم تعد موجودة أو متوفرة اليوم بالشكل المناسب والكافي، مع الجفاف الذي ضرب اليمن، وقراها بشكل خاص، خلال السنوات الأخيرة..!!
يقول الحاج عبدالغني نعمان علي، وهو بائع كوافي يصنعها بيديه من سعاف النخيل: "لم يُقدم لنا أي دعم؛ لا من الحكومة، ولا من المنظمات"، مضيفا: "أظل أعمل في حياكة هذه العزف لساعات وأيام، لأبيع الكوفية الواحده بالف ريال فقط..!!".
ومع ذلك، لا تسير أموره التجارية دائما على النحو المطلوب: "وأحيانا أبيع، وأحيانا أعود بدون أي فائده، ولا أجد ما أطعم به أولادي". هكذا يلخص الحاج عبد الغني، الذي لديه سبعة أولاد، حال تجارته البسيطة التي يعتمد دخلها كثيرا على حال وحاجة أبناء قريته الفقراء.
أما الأمراض والأوبئة فحدث عنها ولا حرج، حيث تجد لها مستنقعا خصبا للإنتشار والفتك بالكثيريين. وما يزيد من الأمر سوء، هو أن معظم المرضى يعجزون عن دفع تكاليف إيجار السيارة للوصول إلى مدينة التربة للعلاج، ليكون الموت أقرب إلى بعضهم من الحياة..!!
و"يتكلف المواطن الذي يقوم بإسعاف نفسه أو أحد مرضاه، من عزلة "الزريقة" الى مدينة التربة، مبلغ ثلاثون الف ريال إيجار السيارة، نظرا لوعورة الطريق.."!! بحسب السائق "وزير سعيد"، من أبناء الغودرة، الذي التقيناه بالصدفة في وادي قرية "المليوي" بينما كان يقوم باسعاف أمه مع مريض أخر إلى جوارها، على سيارته القديمة التي يستخدمها في النقل لكسب رزقه.
وبحرقة وألم، يواصل عبدالله محمد علي، وهو مواطن من قرية البيضاء بعزلة زريقة الشام، سرد بقية تفاصيل مأسيهم الناجمة أساسا عن إهمال وغياب الدولة بدرجة أساية، ثم المنظمات الخيرية والإنسانية..
وهنا يتحدث عبد الله عن معاناة الناس بسبب سوء الطريق المدمرة والمقطعة منذ أزمان طويلة، واستجدائهم للمساعدات الانسانية من المنظمات..
يقول عبد الله: " الدولة لم تقدم لنا أي دعم، فمنذ سنوات ونحن نطالب باصلاح الطريق ودعم الوحدة الصحية.. لكن دون جدوى.."!!. ويضيف: أما المنظمات غير الحكومية، فلم نتوقف يوما عن إستجدائها دعمنا بمواد غذائية نشبع بها بطون أولادنا الذين غالبا ما ينامون الليل وهم جياع".
عزلة خارج الحياة
لم نكن نتوقع، ونحن نتجول في هذه القرى، أن نجد أناس يعيشون في عزلة عن الحياة بكل تفاصيلها؛ فلا وجود هنا حتى لشبكة اتصالات توصلهم بالحياة خارج حدود قراهم النائية..!! بل أن معظمهم لا يمتلكون أجهزة تلفزيونية وشاشات فضائية، كي يعرفوا ما الذي يدور خلف هذه الجبال التي تحاصر قراهم..!!
لا وصف أنسب للحال هنا سوى: إنهم لا يعرفون معنى الحياة؛ أو ربما يمكن القول: إنهم يعيشون خارج الحياة تماما..!!
كانت تنظر الينا بنظرات مركبة: ما بين الاستغراب من هيئتنا الحديثة، الدخيلة على المنطقة؛ وبين الاستعطاف: وكأنها تناشدنا انقاذها وعائلتها من معاناتهم وآلامهم..
الطفلة "كفاء"- ذات السادسة من العمر- التي كانت تجلس أمام بيتها القديم (صبل)، وتنظر إلينا تلك النظرات المركبة، بينما كنا نقترب منها. وحين وصلنا إليها بادرناها بالسؤال: "أين بابا"؟ نظرت إلى الأسفل، وردت بهدوء: "بابا مات"..!! ثم عادت ورفعت عينيها إلينا بنظرات حزينة نزلت كالصاعقة علينا جميعا: وكأنها تحملنا جزء من مسئولية ما حل بها وأسرتها وغيرها من أيتام وفقراء المنطقة..!!
والدتها، هي الأخرى، بدت عليها المعاناة واضحة من هيئتها وملامحها، لتتجسد أكثر من خلال كلماتها المتقطعة وهي تتحدث إلينا عن مأساتها: بدءً بزوجها الذي فارق الحياة قبل أربع سنوات، تاركا لها سبعة أولاد، بينهم خمسة بنات، مرورا بإبنتها الكبرى ذات الـ15 خريفا، التي توقفت عن الدراسة وهي في الصف السادس فقط بسبب عدم وجود مدرسة اعدادية بالمنطقة، ولعجزها عن الانفاق على مواصلة دراستها في عزلة بني محمد، التي تبعد كثيرا عن قريتها في الزريقة، كغيرها من فتيات المنطقة اللائي حرمن من التعليم ..!!
ولم تنتهِ المأساة عند هذا الحد، بل تواصلت مع الحديث عن مأساة ولدها الذي أصيب بمرض استدعى نقله الى تعز ومن ثم الى عدن، ليخضع لعملية جراحية. ومع أن تلك العملية أجريت له على حساب فاعل خير، إلا أنه لم يتعافى كليا، ومازال بحاجة إلى استكمال علاجه وهي لا تملك شيء..!!
لذلك، ناشدت الأم، عبر "يمن شباب نت"، أصحاب القلوب الرحيمة مد يد العون والمساعدة حتى تستطيع إكمال علاج ولدها المريض. كما انها ناشدت الجميع للنظر إلى حالها ووضعها المعيشي ومنزلها الذي لا يصلح للعيش الأدمي..!!
وساندها في ذلك، رئيس مجلس الأباء بقرية "المليوي" عبد الخالق محمد علوان، الذي أبدى تعاطفه الكامل مع معاناة هذه الأسرة، التي لم يؤكد أنه لم يعد لديها أي مصدر دخل بعد موت عائلها الوحيد، مناشدا أهل الخير، سواء من أهل المنطقة أم من خارجها، للوقف إلى جانبها ومساعدتها.
تساؤلات المسئولية والضمير الإنساني
أي عناء هذا، وأي قدر ساقنا إلى هذا المكان، الذي أيقض قلوبنا وحرك عواطفنا ومشاعرنا الإنسانية من جديد، بعد أن صدأت وكادت أن تموت بفعل أنغلاقها على أخبار السياسة وجرم الساسة والحكام..
ومع نهاية جولتنا، غمرتنا التساؤلات الحزينة والمخزية: أين دور المحافظ والسلطات المحلية في محافظة لحج من هذه المآسي المتراكمة والمتراكبة في هذه العزلة؟؟ بل؛ أين دور رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزرائه؟
حسنا؛ إن كان كل أولئك وهؤلاء قد غرقوا- كما يقال- في تحسين تفاصيل حياتهم الخاصة فقط، وشغلتهم مهمتهم هذه عن مسئولياتهم الحقيقية..، أو حتى إن شغلتهم الحرب عنها، كما يقولون، فإن هو إذن دور المجتمع والمنظمات الخيرية والانسانية، الدولية والمحلية..؟؟
ومع أنه ما يزال هناك الكثير والكثير من المعانات المأساوية..، إلا أننا سنكتفي بختمها بهذه التساؤلات، علها تجد قلوبا وضمائر حية، واذانا صاغية تلتفت الى مآسي البسطاء في عزلة "زريقه الشام"، لتخرجهم من دوامة العزلة والموت البطي والحياة البائسة بكل ما تحمل الكلمة من معنى..
بل، حتى أننا نستطيع الذهاب أبعد من ذلك، لنقول: إذا أردت أن تزور قرى وعزل لا زالت تعيش حياة عصور التخلف الغابرة، لما قبل ثورة 26 سبتمبر 1962، عليك أن تزور قرى: المليوي، والغودره، والمالح.. وغيرها من قرى عزلة "زريقه الشام"..!!
ولمن لا يعلم- وهم كثيرون؛ تقع عزلة "زريقة الشام" إلى الغرب من مديرية "المقاطرة" التابعة لمحافظة لحج (جنوب اليمن)، وإلى الجنوب من مديرية "الشمايتين" بمحافظة تعز. ويحدها من الجنوب مديرية المضاربة ورأس العاره (لحج)، ومن الشمال عزلة بني محمد ومن الغرب عزلة راسن ومن الشرق عزلة الزعازع (وجميعها تتبع محافظة تعز)، ويبلغ عدد سكانها 3000 نسمه.
في عمق "اللّا حياة"
قام فريق من موقع "يمن شباب نت"، و"شبكة الرؤية نت الإخبارية"، بزيارة هذه المنطقة وقراها، واطلع على أحوال المواطنين هناك، حيث لم يجد سوى المعاناة والمصاعب والمآسي والآلام؛ تلك التي كانت معظمها تستوطن العصور الغابرة، ولم يكن في الحسبان اكتشاف وجودها في هذا الزمان، في ظل ما وصلت إليه البشرية من تقدم في شتى مناحي الحياة..!!
جهل، وفقر، ومرض؛ ثلاثية التخلف والموت، ما زالت تتجول هنا في عزلة زريقة الشام، بحرية كاملة، بلا منازع، ودون أن يردعها رادع؛ سواء من حكومة، أم من منظمات إنسانية خارجية وداخلية..!!
كانت تلك هي خلاصة رؤيتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا الانسانية، وربما العاطفية، المسجلة من هذه الزيارة..، والآن جاء الدور لنضعكم جميعا، قراء ومتابعين، أم مسئولين حكوميين وقادة منظمات مجتمع مدني، في عمق تفاصيل تلك اللّاحياة الطافحة..
متلازمة التخلف والموت
لا وجود للدولة أو حكومتها هنا؛ فمشاريعها لم تعرف هذه المنطقة وقراها المترامية منذ زمن طويل..!! كما يقول السكان.
فالجهل أصبح يخيم على معظم قرى المنطقة، التي لا تكاد تجد فيها سوى بضعة مدارس معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما يضطر الكثير من الطلاب الى قطع عشرات الكيلو مترات للدراسة- أو استكمال الدراسة الإعدادية والثانوية- في قرى مجاورة، وربما بعيدة كثيرا بالنسبة لأخرين..
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة صباحا.. بالنسبة لنا ربما كان الوقت ما يزال باكرا، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للطالب "باسم عبدالقادر الزريقي"، ذو الـ15 سنة، والذي يدرس في الصف الثالث الأعدادي (التاسع متوسط)..
كان باسم هو أول من التقيناه في عزلة "بني محمد"؛ بينما كان في طريقه اليومية الشاقة، يغذ الخطى نحو مدرسته البعيدة عن منزلهم في قرية "المليوي" في الزريقة..
"مافيش معانا مدرسة إعدادية في قرية "المليوي"، والمدرسة الوحيدة الأقرب لنا تقع في مديرية الشمايتين التابعة لمحافظة تعز". يقول باسم، الذي يضطر كل يوم إلى النهوض والتحرك باكرا الساعة السادسة صباحا، لكي يصل إلى مدرسته عند الساعة الثامنة بالكثير. كان يتحدث إلينا وهو يواصل سيره، ويستجمع أنفاسه المنقطعة، كي يلحق حصته الأولى.
في كل مكان تصله، وكل اتجاه تجول بنظرك إليه، لا تجد سوى مشاهد البؤس والعناء والفقر والمرض والتخلف، ليس بين الأطفال والنساء، الشريحة الأضعف، فحسب؛ بل أيضا بين الشباب قبل الكهول..!!
تلك المناظر الباعثة على الحسرة والألم، في ظل إهمال وتهميش فاضح من السلطات المحلية، وغياب تام للمنظمات الخيرية والانسانية على السواء..!!
"مافيش عمل، ولامساعدات.."!!، يقول عارف بجاش عوض الزريقي (45 عاما) بحسرة، قبل أن يستدرك، ساخرا: "والمنظمة الوحيدة الداعمة لي هي جملي هذا الذي أمامكم"، وأشار إلى الحيوان الضخم، الممتلئ بالصبر، الواقف بالقرب.
يعمل عارف في تجارة الأحطاب، التي يقوم بتجميعها من البرية لينقلها على ظهر جمله إلى مركز مدينة التربة، قاطعا مسافة خمس ساعات، لبيعها هناك. ويكسب عارف من بيع حملة الحطب الواحدة مبلغ 5000 ريال- أي ما يعادل 8.5 دولار أمريكي تقريبا، بسعر صرف اليوم.
يقال إن عزلة "زريقة الشام" كانت تنعم بالخيرات في السابق لما حباها الله من أرض خصبة واسعة، وكانت أحد أهم مصادر التمور منذ زمن بعيد..
أما اليوم، فيشكو الناس هنا من انعدام سبل العيش، حتى تلك التي كان المواطنون يعتمدون عليها، كـ: تربية النحل، والزراعة، بما في ذلك ثمار النخيل ومشتقاتها التي تستخدم في صناعة وحياكة المنسوجات،..، لم تعد موجودة أو متوفرة اليوم بالشكل المناسب والكافي، مع الجفاف الذي ضرب اليمن، وقراها بشكل خاص، خلال السنوات الأخيرة..!!
يقول الحاج عبدالغني نعمان علي، وهو بائع كوافي يصنعها بيديه من سعاف النخيل: "لم يُقدم لنا أي دعم؛ لا من الحكومة، ولا من المنظمات"، مضيفا: "أظل أعمل في حياكة هذه العزف لساعات وأيام، لأبيع الكوفية الواحده بالف ريال فقط..!!".
ومع ذلك، لا تسير أموره التجارية دائما على النحو المطلوب: "وأحيانا أبيع، وأحيانا أعود بدون أي فائده، ولا أجد ما أطعم به أولادي". هكذا يلخص الحاج عبد الغني، الذي لديه سبعة أولاد، حال تجارته البسيطة التي يعتمد دخلها كثيرا على حال وحاجة أبناء قريته الفقراء.
أما الأمراض والأوبئة فحدث عنها ولا حرج، حيث تجد لها مستنقعا خصبا للإنتشار والفتك بالكثيريين. وما يزيد من الأمر سوء، هو أن معظم المرضى يعجزون عن دفع تكاليف إيجار السيارة للوصول إلى مدينة التربة للعلاج، ليكون الموت أقرب إلى بعضهم من الحياة..!!
و"يتكلف المواطن الذي يقوم بإسعاف نفسه أو أحد مرضاه، من عزلة "الزريقة" الى مدينة التربة، مبلغ ثلاثون الف ريال إيجار السيارة، نظرا لوعورة الطريق.."!! بحسب السائق "وزير سعيد"، من أبناء الغودرة، الذي التقيناه بالصدفة في وادي قرية "المليوي" بينما كان يقوم باسعاف أمه مع مريض أخر إلى جوارها، على سيارته القديمة التي يستخدمها في النقل لكسب رزقه.
وبحرقة وألم، يواصل عبدالله محمد علي، وهو مواطن من قرية البيضاء بعزلة زريقة الشام، سرد بقية تفاصيل مأسيهم الناجمة أساسا عن إهمال وغياب الدولة بدرجة أساية، ثم المنظمات الخيرية والإنسانية..
وهنا يتحدث عبد الله عن معاناة الناس بسبب سوء الطريق المدمرة والمقطعة منذ أزمان طويلة، واستجدائهم للمساعدات الانسانية من المنظمات..
يقول عبد الله: " الدولة لم تقدم لنا أي دعم، فمنذ سنوات ونحن نطالب باصلاح الطريق ودعم الوحدة الصحية.. لكن دون جدوى.."!!. ويضيف: أما المنظمات غير الحكومية، فلم نتوقف يوما عن إستجدائها دعمنا بمواد غذائية نشبع بها بطون أولادنا الذين غالبا ما ينامون الليل وهم جياع".
عزلة خارج الحياة
لم نكن نتوقع، ونحن نتجول في هذه القرى، أن نجد أناس يعيشون في عزلة عن الحياة بكل تفاصيلها؛ فلا وجود هنا حتى لشبكة اتصالات توصلهم بالحياة خارج حدود قراهم النائية..!! بل أن معظمهم لا يمتلكون أجهزة تلفزيونية وشاشات فضائية، كي يعرفوا ما الذي يدور خلف هذه الجبال التي تحاصر قراهم..!!
لا وصف أنسب للحال هنا سوى: إنهم لا يعرفون معنى الحياة؛ أو ربما يمكن القول: إنهم يعيشون خارج الحياة تماما..!!
كانت تنظر الينا بنظرات مركبة: ما بين الاستغراب من هيئتنا الحديثة، الدخيلة على المنطقة؛ وبين الاستعطاف: وكأنها تناشدنا انقاذها وعائلتها من معاناتهم وآلامهم..
الطفلة "كفاء"- ذات السادسة من العمر- التي كانت تجلس أمام بيتها القديم (صبل)، وتنظر إلينا تلك النظرات المركبة، بينما كنا نقترب منها. وحين وصلنا إليها بادرناها بالسؤال: "أين بابا"؟ نظرت إلى الأسفل، وردت بهدوء: "بابا مات"..!! ثم عادت ورفعت عينيها إلينا بنظرات حزينة نزلت كالصاعقة علينا جميعا: وكأنها تحملنا جزء من مسئولية ما حل بها وأسرتها وغيرها من أيتام وفقراء المنطقة..!!
والدتها، هي الأخرى، بدت عليها المعاناة واضحة من هيئتها وملامحها، لتتجسد أكثر من خلال كلماتها المتقطعة وهي تتحدث إلينا عن مأساتها: بدءً بزوجها الذي فارق الحياة قبل أربع سنوات، تاركا لها سبعة أولاد، بينهم خمسة بنات، مرورا بإبنتها الكبرى ذات الـ15 خريفا، التي توقفت عن الدراسة وهي في الصف السادس فقط بسبب عدم وجود مدرسة اعدادية بالمنطقة، ولعجزها عن الانفاق على مواصلة دراستها في عزلة بني محمد، التي تبعد كثيرا عن قريتها في الزريقة، كغيرها من فتيات المنطقة اللائي حرمن من التعليم ..!!
ولم تنتهِ المأساة عند هذا الحد، بل تواصلت مع الحديث عن مأساة ولدها الذي أصيب بمرض استدعى نقله الى تعز ومن ثم الى عدن، ليخضع لعملية جراحية. ومع أن تلك العملية أجريت له على حساب فاعل خير، إلا أنه لم يتعافى كليا، ومازال بحاجة إلى استكمال علاجه وهي لا تملك شيء..!!
لذلك، ناشدت الأم، عبر "يمن شباب نت"، أصحاب القلوب الرحيمة مد يد العون والمساعدة حتى تستطيع إكمال علاج ولدها المريض. كما انها ناشدت الجميع للنظر إلى حالها ووضعها المعيشي ومنزلها الذي لا يصلح للعيش الأدمي..!!
وساندها في ذلك، رئيس مجلس الأباء بقرية "المليوي" عبد الخالق محمد علوان، الذي أبدى تعاطفه الكامل مع معاناة هذه الأسرة، التي لم يؤكد أنه لم يعد لديها أي مصدر دخل بعد موت عائلها الوحيد، مناشدا أهل الخير، سواء من أهل المنطقة أم من خارجها، للوقف إلى جانبها ومساعدتها.
تساؤلات المسئولية والضمير الإنساني
أي عناء هذا، وأي قدر ساقنا إلى هذا المكان، الذي أيقض قلوبنا وحرك عواطفنا ومشاعرنا الإنسانية من جديد، بعد أن صدأت وكادت أن تموت بفعل أنغلاقها على أخبار السياسة وجرم الساسة والحكام..
ومع نهاية جولتنا، غمرتنا التساؤلات الحزينة والمخزية: أين دور المحافظ والسلطات المحلية في محافظة لحج من هذه المآسي المتراكمة والمتراكبة في هذه العزلة؟؟ بل؛ أين دور رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزرائه؟
حسنا؛ إن كان كل أولئك وهؤلاء قد غرقوا- كما يقال- في تحسين تفاصيل حياتهم الخاصة فقط، وشغلتهم مهمتهم هذه عن مسئولياتهم الحقيقية..، أو حتى إن شغلتهم الحرب عنها، كما يقولون، فإن هو إذن دور المجتمع والمنظمات الخيرية والانسانية، الدولية والمحلية..؟؟
ومع أنه ما يزال هناك الكثير والكثير من المعانات المأساوية..، إلا أننا سنكتفي بختمها بهذه التساؤلات، علها تجد قلوبا وضمائر حية، واذانا صاغية تلتفت الى مآسي البسطاء في عزلة "زريقه الشام"، لتخرجهم من دوامة العزلة والموت البطي والحياة البائسة بكل ما تحمل الكلمة من معنى..