قادة يمنيون للبيع

من يشتري.. قادةٌ يمانيون للبيع!

كتب: جمال حسن

تعيد الانقسامات في اليمن فرز نفسها بصور شتى، وتتخذ وجوهًا في كلّ صراع يجِد، مستعيرة أدوارها القديمة.

يصف اللبناني أمين الريحاني اليمن في “ملوك العرب” بكلمتين “ضريح الدولة”، كانت صنعاء خلفه جميلة، بينما هو في طريق مغادرته غرباً، واليوم توقفت محادثات استكهولم في الغرب، وكان الريحاني يتحدث عن إمكانية أن تصبح صنعاء جاذبة للملايين إذا عُمرت، وللأسف كان دائماً حفارو القبور يحيطونها بالنعوش، وينتصب أمامها دائمًا ذلك الضريح الذي وصفه الريحاني.

مرحلة صالح، حين ارتخت التحالفات العصبوية التي شكلت نظامه، وهي قائمة على أشكال بدائية، وإن استعارت بعض المضامين المؤسسية الحديثة، كالجيش والأمن، لكنها ظلت مؤسسات ذات مرجعيات عصبوية وقبلية، أكثر من كونها تتمتع بمرجعية وطنية أو حتى سياسية، وعادت الأوضاع إلى صيغ قروسطية، هي نفسها ظلت اليمن محكومة بها على مدى قرون، فتهاوت شعارات الثورة واحتجاجاتها من أجل العدالة والمواطنة الكريمة إلى أشكال شبحية 

هل هذا على صلة بطبيعة الحواضر المُحاطة بالقبيلة والريف، وانعدام مشروع تحضير هذا المحيط، بل انعدام تحضير المدينة، لأنها مازالت أشباه مدن، فالعزلة والعدائية إزاء كل ما هو جديد، يلقي بظلاله على وسائل تنظيم متخلفة، وينسج حوله علاقات مركبة من الأخطاء تصبح أعرافًا متداولة لا يمكن تجاوزها.

وفي هذا السياق، ظل التاريخ اليمني محكومًا بسلسلة طويلة من الصراعات، وعند كل استقرار تكون حوافز الصراعات كامنة نتيجة السيطرة، لكن هذه السيطرة ما إن تختل تفرز من جديد أشكالاً للحروب، ومع غياب التنظيمات الحديثة، تتحول الملامح السياسية قائمة أو متخفية وراء عصبيات وما تقيمه من تحالفات، ومع اختلالها تستعيد لنفسها إفرازات جديدة، ولكنها تثير مطامح جديدة تُغذي حضورها بشكل عصبوي، ما يفتح الطريق للانقسامات والتدخلات الخارجية، وفي تلك الصورة لا ينتج عن الواقع تراكم سياسي.

وهذا ما شهدته مرحلة صالح، حين ارتخت التحالفات العصبوية التي شكلت نظامه، وهي قائمة على أشكال بدائية، وإن استعارت بعض المضامين المؤسسية الحديثة، كالجيش والأمن، لكنها ظلت مؤسسات ذات مرجعيات عصبوية وقبلية، أكثر من كونها تتمتع بمرجعية وطنية أو حتى سياسية، وعادت الأوضاع إلى صيغ قروسطية، هي نفسها ظلت اليمن محكومة بها على مدى قرون، فتهاوت شعارات الثورة واحتجاجاتها من أجل العدالة والمواطنة الكريمة إلى أشكال شبحية من الماضي، وعادت الانقسامات العصبوية المناطقية والطائفية، أساس ما هو انقسام وطني وسياسي، وهو المجال الذي أفضى لحرب مأساوية ومستقبل مجهول.

يستعيد التاريخ جذوره، من شجرة مغروسة في الجغرافية، أي أن ضريح الدولة، كامن في طبيعة الجغرافية اليمنية، وهو ما يتحكم بالأنساق التنظيمية والثقافية وحتى اللغوية، وهو ما صاغ أيضاً صورة للعزلة، فشلت اليمن من تجاوزها حتى في العصور الحديثة، ومع تطور وسائل التواصل الحديثة، وعاشت أشنع صورة لعزلتها في عهد الأئمة، لكن الثورات لم تحقق الانفتاح المطلوب، واقتصر التحديث على أطر محدودة، ثم عادت الحرب وألحقت اليمن بشكل جديد من العزلة، فأغلقت المطارات وانقطع الاتصال مع العالم، إلا بحدود وقنوات يتحكم فيها سماسرة الحرب. 

لا يختلف شكل الدولة عن ملامح اليمني المحفورة بتجاعيد وسمات شاحبة، و أخاديد غائرة، تنم عن شظف العيش وقلة المواد، وهذا على صلة أيضاً بلصوصية الحكام، الذين يستنزفون الموارد القليلة ضمن أهوائهم ومصالح بطانتهم 

غير أن الواقع السياسي في اليمن، يعيد إنتاج نفسه بصور قديمة مع تغيرات طفيفة، كما لو كانت حركة التاريخ في اليمن أشبه بدوامة يمكن أن يتشابه فيها الحاضر والمستقبل بالماضي،

ولا يختلف شكل الدولة عن ملامح اليمني المحفورة بتجاعيد وسمات شاحبة، و أخاديد غائرة، تنم عن شظف العيش وقلة المواد، وهذا على صلة أيضاً بلصوصية الحكام، الذين يستنزفون الموارد القليلة ضمن أهوائهم ومصالح بطانتهم.

وهذه الموارد القليلة وشحة المياه، مصدر للصراعات وليس للتوزيع العادل، فالدولة هي منظومة سيطرة عسكرية، أكثر من كونها مؤسسة هائلة تتمتع بتشريعات وأنظمة مُركبة وحديثة، وتنامى الفساد على حساب خلق تنمية مستدامة، بحيث أصبحت الوظيفة العامة مصدرًا للتكسب والإثراء، وهو ما نتج عنه ثورة احتجاجات ثم حرب أهلية، كما أعاق أيضاً شكل السياسة في مرحلة عصيبة كما هي اليوم.

على مدى قرون لم تشهد اليمن فترة استقرار طبقات، وأخذت الطبقات تسميات استعارية كزعامات، لكنها لم تتمتع باستقرار معيشي لفترة طويلة، وظل الاقطاع تحت رحمة التقلبات السياسية 

هناك إشكالية أيضاً، تتعلق بتقلبات الطبقات الاجتماعية، وعدم استقرارها، وهذا يحتجز الظروف التي تساهم في تطور المجتمع، ولعل الأمر مرتبط بطبيعة الجغرافية والعلاقات الاجتماعية الموروثة.

وعلى مدى قرون لم تشهد اليمن فترة استقرار طبقات، وأخذت الطبقات تسميات استعارية كزعامات، لكنها لم تتمتع باستقرار معيشي لفترة طويلة، وظل الاقطاع تحت رحمة التقلبات السياسية، وإذا نجا منها، فإن التشريعات العُرفية كفيلة بتمزيقه، ولا يقتصر الأمر على تآكله بعد عدة أجيال نتيجة تشتت الورث، لينتقل الأحفاد سريعًا من طبقة الاقطاع إلى طبقة المزارعين.

ولعب نظام توزيع الورث دوراً في تشظي الأملاك، بحيث أن نصيب كل فرد يتفرق في مساحات صغيرة موزعاً على مناطق متباعدة، وذلك عامل يعيق من الإنتاج ويرفع كلفته، ومع أن هناك أسبابًا في التوزيع بتلك الصورة، لكنها لعبت دوراً في إفساد وسائل التنظيم، لأن ما يرثه الفرد هو تلك العشوائية، ويصبح عسر الحصول على الموارد سبباً في الشكاية والحسد وأيضاً عدم المبالاة، وجميعها أسباب تعيق من تطور المجتمع.

تلك العيوب تتسبب في خلافات قانونية مستمرة، وتساهم في نشوء طبقة طفيلية من المتكسبين وراء تلك النزاعات، وهذا بحد ذاته ينتج عنه مجتمع فاسد وغير قابل للإصلاح.

وفي حياة مضطربة وعديمة الاستقرار كتلك، إذا ولد اليمني فقيراً قلما تتغير أحواله، وإن ورث إقطاعاً أو مالاً سرعان ما يجد نفسه لا يتمتع بهذا المال فيرى حياته فاسدة بالنزاعات، أو يصبح عُرضة لابتزاز بعض طبقات الحكم وشبكة من حاملي السلاح، وانعدام هذا الاستقرار الطبقي، كما كان في الغرب أو حتى في بلدان أقل تحضر، لم يساعد على حدوث تطور سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فالركود في اليمن مآله تفجر الأوضاع المستمرة، وليس بمعنى السكون.

فالحركة دائماً يصيغها العنف والرضوخ بانتظار الفرص التي يكمن لها الطامعون؛ لأن النسيج العصبوي للتحالفات عُرضة للزوال السريع، نتيجة تضارب المصالح، 
وسرعان ما تتفسخ الأنظمة نتيجة العشوائية والعلاقات المشكوكة بين الجميع، لكن ما جرى خلال السنوات السابقة، يجعلنا نلمس هذا النمط، فخلال ما يزيد عن ثلاثة عقود، تشكلت طبقة اُثريت نتيجة نفوذها، ومع أنها كانت إلى وقت قريب محدثة نعمة، وهي ستظل كذلك في عُرف المجتمع الطبقي لأكثر من جيل، لكنها سرعان ما وجدت نفسها تخسر نفوذها، لتصعد نخبة جديدة من قاع المجتمع، وبسرعة البرق أصبحت ثرية، وهذا التقلب السريع، ينتج عنه دائمًا تفسخ قيم لم تترسخ بالشكل الكافي، وتفسخ أنظمة، وبالتالي تفسخ سياسي واجتماعي واقتصادي، ولا يساهم لإنتاج استقرار بحيث تصبح مدخلًا لإنتاج فنون وأشكال معرفية وثقافية من أي نوع كانت.

ولعل تلك الأشكال بحاجة إلى تحليل أوسع، واستشهادات أكثر لا تسعها مقالة صغيرة، لكنها أيضًا تقودنا إلى طبيعة رجال السياسة، وأيضاً روابطهم بوطنهم محكومة بالترزق عبر أي شيء، حتى لو كان المتاجرة بالسياسة، وكل احتلال أو تدخل خارجي، منشأه دائماً النزاعات والانقسامات، ذلك ما جرى حين احتل الأحباش اليمن، فالزعامات القبلية من اليزينيين التي كانت تقاتل في صف الملك الحميري يوسف اسار، دفعتها أطماعها للتحالف مع الأحباش، ولكنهم خسروا بلدهم وأطماعهم، فظهر ذو يزن بدافع الانتقام لتلك الدوافع السابقة، ولم يتحرر الوطن كما يحلو لنا في كتب التاريخ.

وهاهم مجدداً يقفون في طوابير عارضين أنفسهم على تلك العواصم التي تشتري وتبيع، جميعهم في مزادات سوق النخاسة، سياسيون وشيوخ وقادة عسكريون ورجال دين، وحتى صعاليك، استوى الجميع لأن العواصم أيضاً لديها طريقتها في تجميل عبيدها.

نقلا عن: المشاهد نت