عبير محسن
تجهمت الوجوه والخوف بلغ أقصاه ذات صباح في نيسان/ أبريل 2018، إذ حكت قطرات الدماء التي صُبغت بها أرضية المحكمة مدى ظلم المرأة الذي يتحدى كل شيء لإخضاعها، حتى حرمة القضاء. كانت دماء الضحية سميحة الأسدي تستغيث كما فعلت هي، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتقول للقاضي “دمي في رقبتك”.
سميحة مطلقة ولديها طفلان من زواجها الذي انتهى بموافقة عائلتها، إلا أن أفراد العائلة شعروا بأن وجودها مع طفليها في المنزل حمل جديد كانوا في غنى عنه، فبدأت المضايقات تخنقها وطفليها. واستمر التعنيف اللفظي والجسدي لهم، والغريب أن والدها كان يرفض أي عريس يتقدم لخطبة سميحة، وهو ما كان سيكون بالنسبة إليها السبيل للخلاص من تلك الحياة الظالمة. قررت أخيراً الهرب بمساعدة إحدى صديقاتها ولجأت إلى المحكمة لطلب الزواج من شخص تقدم لها بعدما رُفِض كمن سبقوه. لكن القاضي رفض تزويجها وطلب حضور ولي أمرها. دُعي مرة أولى وثانية ولم يحضر إلى المحكمة، وفي المرة الثالثة جاء الأب مع الأم وشقيق الضحية. كادت ملامح الفرح ترتسم على وجه سميحة، لكن أمها سارعت إلى تمرير خنجر كانت تخفيه تحت ثيابها لشقيق الضحية، فباغتها بطعنة في رقبتها.
وعلى رغم هذا المشهد الذي أفزع الجميع وهذه الوقاحة الصارخة داخل قاعة المحكمة، إلا أن أهل القاتل سعوا لتبرئة الجاني. حكم القاضي على الجاني بالإعدام قصاصاً وتعزيراً، “لأنها كانت قضية رأي عام”، إلا أن الأب طعن في الحكم وأحال القضية إلى محكمة الاستئناف بحجة إسقاط الحكم عن القاتل مبرراً ذلك بأنها جريمة شرف.
قانون بلا عدالة
يُنظر إلى المرأة في اليمن على أنها عار، وتُعامل بناء على هذا الحكم المسقط عليها ظلماً، تنتهك إنسانيتها في مجالات الحياة كافة، تحت إطار المبدأ ذاته. وإذا كان القانون اليمني لا يُحترَم وفي أحيان كثيرة لا يُطبَّق، فإن هذا الاستهتار يتفاقم إذا ما كانت القضية قضية امرأة. ليس هذا فحسب، بل إن الصادم هو أن الدستور اليمني نفسه يُشرعن هذه الانتهاكات الجسيمة بحق المرأة في اليمن، بقوانين تنتزع كينونة المرأة وإنسانيتها وتحولها أداةً لا قيمة لها، وُجدت لخدمة الذكور فقط.
تقول القاضية سوسن الحوثي إن جريمة سميحة الأسدي متكاملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد وتعتبر عيباً كبيراً بحق القاضي. وتؤكد الحوثي أن “قانون الجرائم والعقوبات رقم 42 ينص على أن (دية المرأة نصف دية الرجل وإرشها مثل إرش الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل وينصف ما زاد ويعتمد في تحديد نوع الإصابة)، ما يقلل من آدمية المرأة ويجعل دمها مهدوراً، وهو أمر لا علاقة له بالدين الإسلامي الذي قال صراحة في القرآن (النفس بالنفس والجروح قصاص)، من دون تحديد جنس المقتول والقاتل، وهذا التمييز ما هو إلا نتاج تفكير قبلي ذكوري متزمت. وغالباً ما يتم تجاهل هذه القضايا التي تخص المرأة من قبل القضاء، لأن هناك قضاة يأتون من هذه البيئة التي تؤمن بأن المرأة تابعة في كل شيء للأسف، فتؤثر تلك القناعات سلباً في مجرى العدالة”.
صراعات بقاء
تمثل هذه القضية الكثير من صراعات البقاء التي تخوضها المرأة في اليمن، أبرزها هو دمها المهدور بغير حق، تحت الذريعة المشهورة “قضايا الشرف” التي تعد أكثر أشكال العنف ضد المرأة خطورة، وواحدة من أهم قضايا الانتهاكات التي تمس كرامتها وحريتها، إذ إن المجتمع اليمني يختزل شرف الأسرة والقبيلة بالمرأة.
وليست هذه الحادثة الوحيدة في اليمن، فبحسب تصريح إحدى العاملات في “مشروع المساحات الآمنة والدعم النفسي في اتحاد نساء اليمن” (تفضل عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية)، “فإن المقبلات على هذه المساحات لطلب المساعدة، زدن بشكل كبير. وبحسب السياق الطبيعي لهذه الزيادة، فإن العامل النفسي الذي يمر به الرجال بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية وانعدام الوظائف واليأس من هذه الأوضاع، ولأن المرأة هي الأضعف، فكان تعنيفها لفظياً وجسدياً الوسيلة الأولى لتفريغ هذه الطاقات السلبية أو التعبير عن الغضب والإحباط المسيطرين. المعنفات أصبح عددهن عشرة أضعاف ما كان قبل الحرب، حتى أن هذه الاعتداءات تصل في أحيان كثيرة إلى القتل”.
ثغرات متعمدة
هناك فصام واضح في خطاب القوانين اليمنية بدا متعمداً ومُفصّلاً، بما يتوافق مع النهج القبلي والذكوري الذي يقمع المرأة اليمنية ويحرمها حقوقها حتى في الحياة، ووردت نصوص يأخذ منها الجناة ثغرات قانونية لتبرئة أنفسهم، ما يسمح بانتشار الجريمة التي تستهدف المرأة اليمنية.
أحد هذه القوانين المــادة 59: “لا يقتص من الأصل بفرعه وإنما يحكم بالدية أو الإرش على حسب الأحوال”، والتي تسمح للآباء باستغلال سلطتهم الأبوية والإجهاز على بناتهم من دون عقاب.
الطفلة اليمنية مآب، (12 سنة)، قام والدها بتعذيبها مستخدماً الكاوية الكهربائية، وصوّرها بهاتفه المحمول أثناء التعذيب وهي تتألم ولا تزال حية، فيما دماؤها تنزف من أنحاء متفرقة من جسدها، وتم العثور على تلك المقاطع في الهاتف. وكان الوالد يعذب ابنته ويطالبها بأن تعترف له بأنها ارتكبت فاحشة، مع أن الطفلة لم تتجاوز الـ12 سنة. وكان الوالد قبل فترة، بحسب اعترافاته في التحقيقات، عرضها على 3 أطباء في صنعاء وتعز أكدوا له أنها ما زالت بكراً.
كشفت السلطات اليمنية آنذاك أن الأب (33 سنة)، أطلق رصاصتين من مسدسه في ظهر ابنته خرجتا من الصدر، لافتةً إلى أن الطفلة كانت تعيش مع أخوات أخريات لها عند شقيق والدها بعد طلاق أبويها. وأضافت السلطات أن الطفلة تعرضت للتعذيب بصورة “وحشية ومقززة”، مشيرةً إلى أن الأب برر جريمته بالدفاع عن الشرف.
وعلى رغم انتشار “جرائم الشرف” في اليمن، فإن قضية مآب مثلت صدمة للجميع، إذ كانت المرة الأولى التي تكون الضحية فيها طفلة بعد تعذيب وحشي.
وكانت المادة 59 الشافع الأول لتبرئة الوالد وهذا ما يعتبر مدخلاً لارتكاب الآباء ضد بناتهم جرائم لا يحاسبون عليها قانوناً. جدير بالذكر أن القانون هذا مأخوذ من الحديث “لا يقتَل والد بولده”، وهو حديث مختلف في صحته، وقد ضعفه كثر من أهل العلم، منهم علي بن المديني والترمذي وابن القطان وعبد الحق الأشبيلي، وأحمد شاكر، وحسّنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند، وصححه الألباني في “إرواء الغليل” (7/ 269).
قال الشيخ الراحل ابن عثيمين: “الدليل من الحديث المشهور: لا يقتل والد بولده، هذا من الأثر، ومن النظر: أن الوالد سبب في إيجاد الولد، فلا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إعدامه. والنساء والفتيات هن الأكثر عرضة للعنف الأسري ربما هذا يبرر تعمد إقرار هذه النصوص التي تنسجم مع الفكر والموروث العام للقبيلة”.
تشريعات مراوغة
أكثر من 90 في المئة من أعضاء مجلس النواب هم من مشايخ القبائل، لذلك، سلطة العادات والتقاليد القبلية الظالمة تؤثر في نصوص القوانين والتشريعات الذي يسنها مجلس النواب. هذا ما يفسر وجود خلل في هذه التشريعات التي تدعي المساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن جنسهم، إلا أنها قدمت مواطنة عرجاء للمرأة، وصفت بجانبها سياسات ومؤسسات وممارسات أخرى تأثرت بالبنى الاجتماعية والثقافية والسياسية الذكورية في اليمن، الأمر الذي جعلها تلعب دور المقوض للحماية الجنائية والقضائية من جهة، ودور المشجع لتنامي بيئة العنف ضد النساء والأطفال من جهة ثانية.
يقول المحامي والناشط الحقوقي ماجد عبد السلام: “التشريعات اليمنية تراوغ للتهرب من الالتزامات الدولية والاعتراف بالمساواة بين الرجل والمرأة، وأعتقد أن أهم القواعد القانونية التي تؤثر في حق المرأة، تتجسد في القواعد والإجراءات التي تتحكم بالسلوك الأخلاقي للمرأة، إضافة إلى القواعد التي تنظم امتيازات المرأة وحقوقها في قانون الأحوال الشخصية (فقرة الأسرة)”.
ويشير عبد السلام إلى أنه “لضمان تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء هناك حاجة إلى تغييرات قانونية وتشريعية جذرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات المجتمع وتقاليده، التي تؤثر فيها سلطة النظام القبلي الموازي للنظام القانوني للدولة، إضافة إلى النهج الديني المتشدد وخلق الوعي لتقبل فكرة إعادة النظر وتجديد القواعد المذهبية التي يستند إليها فقهاء القانون عند وضع التشريعات”.
تتعدد أشكال العنف في اليمن وكذا وسائل إزهاق الروح، والضحية دائماً واحدة المرأة أو الفتاة، لكأنه وأد الجاهلية للفتيات، لكن بشكله العصري والمقونن والشرعيّ.
نقلاً عن موقع درج