ضحايا حرب اليمن

طفل يرسم صورة مموهة لأبيه.. هكذا يفكر أطفال اليمن الذين حرمتهم الحرب من آبائهم (شاهد)

محمد جازم- المشاهد

دخلت القاعة ومحمد ذو الخمس يرسم وجهاً مموهاً، سألته ماذا ترسم؟ فرد قائلا:” هذا أبي قتل قبل شهر من الآن”، تجمع إلى جانب محمد 10 أطفال جميعهم دون العاشرة من العمر، لشرح لوحاتهم المماثلة في المعرض الذي خُصص لآبائهم “الشهداء” وفق وصف علياء (وهي إحدى الفتيات اللواتي ينظمن الورشة الملحقة بالمعرض).

علياء : معرض رسومات الاطفال تجربة لامتصاص أحزان الأطفال وأوجاعهم بقصد تنمية الشخصية المسالمة في الطفل الذي فقد والده، وبالتالي الحد من العدوانية التي قد تتسرب إلى أعماقه بسبب(( الافتئات الثأري)) بين أبناء الوطن الواحد 

وتضيف علياء لـ” المشاهد” فكرة المعرض، شرحت لي محتوى اللوحات المعروضة لمزيد من الفهم، بالقول: “هذه اللوحات التي يطغى عليها اللون الأحمر والخطوط المتهدجة عبارة عن رسومات وجدانية لأبناء الشهداء الذين قتلوا أثناء ثورة فبراير 2011 وأطفالهم في الثالثة من العمر”.

“إنها تجربة لامتصاص أحزان الأطفال وأوجاعهم بقصد تنمية الشخصية المسالمة في الطفل الذي فقد والده، وبالتالي الحد من العدوانية التي قد تتسرب إلى أعماقه بسبب(( الافتئات الثأري)) بين أبناء الوطن الواحد” تضيف علياء.

“رسم جراح الحياة غير المرئية”

بمزيج من الحزن والألم، ذهبت أتطلع إلى اللوحات المعلقة على جدار الخيمة التي أقيم فيها المعرض، لفهم المشاعر الطفولية المرسومة على لوحاتهم، 
وتبدو جميع اللوحات؛ وكأنها تنقل إلينا حكايات كثيرة، تشكل بمجموعها سرديات بصرية كبرى كأنهم يحكون على هذا النحو: “كان العلم يرفرف عندما انطلق أبي من تحت ظلاله، وراح يعدو في الأرض حاملاً حزم الورد؛ ولكن طائرة حربية متوحشة، ذات خطوط زرقاء جاءت لتنتشله من الأرض بعد أن افتدى الأرض بدمه، لن تستسلم أشلاء أبي على الرغم من أنهم اقتادوها هامدة إلى الطائرة؛ إلا أنها عادت إلى الأرض، الأرض التي استقبلت أمطارًا غزيرة، نبتت منها أنواعٌ جديدة من الزهر”، سردت هذه القصة المكتوبة في لوحاتهم لأقول لكم أن الطفل يتكلم من خلال الرسم فاستمعوا جيدًا لما يقول كي تفهمون أكثر.

أسرتني الفكرة كما أسرتني الألوان والفضاءات والتكوينات، والخطوط التي فجرتها أصابع ملائكية بيضاء رغم حزنها وحزني.

خُيّل لي بأن هؤلاء المجروحين تدربوا على “رسم جراح الحياة غير المرئية” على حد تعبير بطل رواية “قلم النجار” لـ “ماينول ايفاس” الذي توجه إلى كاتدرائية ليرسم وجوه وجراحات رفاقه بدلاً من وجوه الأنبياء والقديسين المرسومين في واجهة الكاتدرائية.

“الطفولة عندي لغة كونية مشتركة لا تعرف للحزن سوى وجه واحد ولا يهمها من هو (الشهيد)؟، ولا إلى من ينتمي من القبائل؛ أو الأحزاب؟ ولا ما هي جنسيته؛ أو سلالته أو ديانته” كما يقول محمد سنان، وهو من المهتمين بتنظيم المعرض، مضيفًا: “في تقديري أن الطفل يؤمن بأن كل شهداء العالم آباؤه كما يؤمن الشهداء بأن كل أطفال العالم أبناؤهم؛ لذلك يذهبون إلى التضحية بأرواحهم طائعين”.

يرسمون بدم أبائهم

معظم عناصر اللوحات ومفرداتها تقول بأن لون المطر أحمر، ولون الشمس أحمر، ولون الظل أحمر. وكذلك لون الدوائر والخطوط والشخبطات، فمثلاً الطفل الذي يتميز عادة بالحركة والنشاط بقصد لفت الأنظار إليه، هذا الطفل هنا يبدو منفلتًا من هذا الشعور؛ كونه إزاء قضية يحس حيالها بالالتزام، ويمكنه حسب وعيه، وإمكانياته أن يعطي السماحة والرضى، ولعل ذلك ينبع من إحساسه المباشر بدوره كون الحدث يعنيه تحديداً ضمن المجموعة التي يشتغل معها ويدور في فلكها، بحسب وصف محمد حميد، أستاذ في قسم علم النفس بجامعة تعز الحكومية في حديثه لـ” المشاهد” ما يحدث هو أنني أشعر بصفاء بصري يغزو شبكية العين ودهاليزها وأقبيتها مضيفا حسنا فعل المنظمون للمعرض؛ فحين ذهبت اقرأ اللوحات باحثًا عن قاسم مشترك يجمع بين هذه العينة البشرية المتضررة بشكل مباشر. يا لمفاجأة ما رأيت، فقد وجدت أن اللون الأحمر هو القاسم المشترك الكبير بينهم بل جميعهم استخدم هذا اللون” يقول الفنان التشكيلي محمد سعيد الذي جاء لزيارة المعرض.

الاطفال يلونون أوراق الشجرة بالأحمر، بدلًا من اللون الأخضر، ومن لم يجد؛ فبالأصفر؛ مع العلم أنه يعرف جيدًا أن الشجرة خضراء، ولكن الرسم عند الطفل هو في الحقيقة استدعاء للّون المتحفز في الداخل، استدعاء للمناطق البعيدة في اللاشعور، استدعاء لتلك المناطق المتعلقة بالتوتر النفسي والعصبي 

أما المفاجأة الثانية وفق محمد أن معظمهم لم يستخدموا الألوان الفرائحيه ومن استخدمها لم يعطها حقها من الإشباع والارتواء، جاءت الألوان المعتمة في الدرجة الثانية بعد الأحمر الذي تلاه الأسود والبني والرمادي ثم تدرجت بعد ذلك بقية الألوان كما يقول الفنان محمد.

والأنكأ من ذلك الأمر أن بعضهم يلون أوراق الشجرة بالأحمر، بدلًا من اللون الأخضر، ومن لم يجد؛ فبالأصفر؛ مع العلم أنه يعرف جيدًا أن الشجرة خضراء، ولكن الرسم عند الطفل هو في الحقيقة استدعاء للّون المتحفز في الداخل، استدعاء للمناطق البعيدة في اللاشعور، استدعاء لتلك المناطق المتعلقة بالتوتر النفسي والعصبي، وقد تأكد ذلك من خلال استخدام درجات اللون؛ حيث أنني لاحظت إن اللون الأحمر القاني هو الأكثر حضورًا، مضافاً إليه الأحمر بكل تدرجاته اللونية “الوردي والأرجواني والياقوتي والمرجاني” أحيانا، يضيف محمد.

ويقول الصحفي محمود أسعد لـ” المشاهد” : “يُخيّل لي بأن كل واحد منهم يرسم بدم أبيه فحين أرى الألوان الكئيبة المعتمة أشعر بأن الطفل رأى في ذلك عقابًا موضوعيًا لذلك القبح الذي غيّب أعز المخلوقات إلى قلبه”.

استجابة لا واعية للواقع

المشتغلون في علم النفس يعرفون جيدًا كيف يتعامل الأطفال مع اللون، فالأطفال عندما يرسمون لا ينظرون إلى الأشياء الحسية؛ لأن الأشياء عندهم غير مدركة بحجمها الطبيعي، ويتغلب عليهم في هذه الأعمار الترميز بمكنونات الداخل، يجنحون إلى التعبير عن الأعماق ومن هناك يغترفون الأفكار، والألوان، والخطوط، إنهم يلتقطون من الألوان تلك التي يحسون بها، وهي في الغالب قريبة مما يعتمل في الوجدان؛ لذا نجد اللون الأحمر في اللوحات يخضب السماء، والأرض، ويلطخ الجدران، والواجهات، إنها استجابة لا واعية لما يحصل على ظهر الواقع.

يعتقد البعض أن لجوء الطفل إلى خطوط، ودوائر متعددة الألوان يعد نوعًا من الشخبطة، والواقع، إن تلك الخطوط الشبيهة بدوائر موج البحر، ليست سوى لوحات مكتملة بل وتمثل منتهى الفن؛ لأنها تجسد الحالة الإبداعية اللاشعورية التي تتملك الطفل في ذروة تجليه، كما يقول حميد.

حين يضاعف الطفل من استخدام ألوانٍ معينه؛ فإن ذلك لا يعني تزجية الوقت، أو تبديد الطاقة الزائدة، وإنما يشير ذلك إلى أن ثمة شيء استجد في حياته؛ الأمر الذي يحفزه إلى التعبير عن ذلك، في إشارة إلى معنى ما، أو عبر استخدام المشبه به وحذف المشبه، يجد الطفل نفسه في أوقات كثيرة مجهداً لا يستطيع التعبير عن ذاته، أو مقموعًا بوابل من التعاليم، والإرشادات المربكة التي يراها أحياناً متناقضة بسبب غضاضة سنه، أو لأسباب كثيرة مثل صغر حجمه، وليونة عظامه، وركاكة أطرافه، في هذه الظروف يضطر الطفل إلى اللجوء لأقصر الطرق، وأسهلها وفق المهتمين بالطفولة.
ويذهب الطفل إلى إرسال رسائل غير مباشرة، رسائل يتم الاتفاق عليها في اللا شعور، وتنطلق من فوهة الأقلام، والألوان، والكلمات، والجمل المتقطعة عادة، الرسوم إذاً، والألوان، وطرائق استخدامها، كل ذلك يعني أن ثمة شيء يؤرقه، وعلينا أن نتلقى رسائله بصدور عارية، وبالتالي فك شفراتها، والوقوف إزاءها بمسؤولية بحسب محمد حميد أستاذ علم النفس بجامعة تعز الحكومية.

دعوة إلى ترجمة أحلام الأطفال

“كنت كلما انتقلت إلى لوحة جديدة أحس بالأسئلة تلاحقني، ترى ما الفائدة التي رجاها معدو هذا المعرض؟ وهل يمكننا أن نستشف علامات مضيئة لمستقبل أيامهم”؟ ترى هل يتساءلون من خلال هذه الرسومات عن مصير آبائهم ولماذا فارقوا عالمنا؟ أم أنهم يحملون بشارة جديدة لعصر جديد وحلمًا جديدًا وضوءًا جديدًا؟ يتساءل الصحفي أسعد، فتأتي الإجابات متفرقة؛ لكنها قوية، ثابتة، مفعمة بخربشات جسورة، ملهمة بشحنات الدفق الشعوري، “نعم نحن على هذه الأرض وهذه الألوان هي ألواننا، ألوان أشواقنا وأحلامنا، ألوان أحزاننا وأفراحنا، سهولنا وجبالنا، جرى العرف أن أحلام الأطفال خارجة عن المألوف، نحبها، ونقدرها؛ لكنها خربشات، وقد جاء اليوم الذي لابد فيه أن ندرس، ونستمع إلى شكواهم، ونرد عن أسئلتهم، وندعو إلى ترجمة أحلامهم، وأشواق أقلامهم، وأصوات دفاترهم، وحقائبهم المدرسية يقول أسعد.