quot;قضيتنا باختصار شديد: لنا أكثر من 19 عاما نبحث عن العدل والإنصاف في محاكم الجمهورية، وأكثر من 14 حكما قضائيا ابتدائيا واستئنافيا ومحكمة عليا، وخسارة مادية بمبلغ 35 مليون ريال يمني.."، تقرأ هذه المعلومات في السطر الأول على امتداد لوحة قماشية طويلة (سبعة أمتار تقريبا) معلقة على جدار المجمع القضائي بمدينة تعز جنوبي اليمن، تحت عنوان "نداء استغاثة عاجل" موجه إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل اليمني.
أسفل اللوحة القماشية، وُضعت أوراق ووثائق متجاورة بأحجام متفاوتة من القطع الكبير والمتوسط، بشكل منظم وعناية فائقة، على مساحة كبيرة من جدار المحكمة الخارجي، بمحاذاة بوابتها الرئيسية الوحيدة والمطلة على شارع "الحصب" الرئيسي غربي مدينة تعز.
هنا، حوّل الحاج أحمد محمد صلاح الحداد (74 عاما) جدار المجمع القضائي إلى ما يشبه "معرضا توثيقيا" احتجاجيا، أو ما يمكن أن يطلق عليها "جدارية حقوقية"، لعرض قضيته بطريقة مثيرة ولافتة للانتباه.
بين حين وآخر، يتوقف المارّة ليقرؤوا بفضول ما وسعهم من تفاصيل قصة معاناة طويلة، مبثوثة على ما يقارب خمسين مخطوطة ورقية من القطع الكبير والمتوسط. وبالقرب منها، دائما، يوجد الرجل الذي غزا الشيب شعره ولحيته، للتوضيح والإجابة على الاستفسارات.
من ظلم الشركاء إلى الحرب
"منذ العام 1997، خضت مواجهة قانونية ضد شركائي السابقين أمام المحاكم في قضية خيانة أمانة، استمرت 13 عاما، حتى حكمت لي محكمة الاستئناف التجارية أواخر العام 2010 بتعويضات مالية، لم تصلني حتى اليوم".
يحدثك الحداد عن تفاصيل قضيته متنقلا بك بين المخطوطات الورقية المعروضة على الجدار، يشير إلى إحداها مستشهدا "انظر إلى هذه الوثيقة.. تجد فيها منطوق الحكم وتاريخه، وهذه فيها تاريخ تسليم الغرماء للأموال إلى المحكمة.. وتلك إفادة من أمين الصندوق السابق بتوريد المبلغ إلى خزينة المحكمة..".
في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2010 حكمت المحكمة الاستئنافية على شركاء الحاج الحداد بمنحه تعويضا بمبلغ 2.86 مليون ريال يمني مع عشرة آلاف دولار. وتنفيذا للحكم، سلم الشريكان 6000 دولار و185.680 غراما ذهبا إلى خزينة المحكمة التجارية.
وبعدها تسأله فيجيب "هنا مربط الفرس"، مضيفا "بعدها لم يصلني حقي من المحكمة حتى الآن"! ويستدرك "لذلك أنا هنا أطالب المحكمة بتنفيذ الحكم وتسليمي حقي مع الخسائر والتعويضات" يقصد تكاليف وأتعاب التقاضي والمتابعة منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
عقب الحكم المذكور، وبينما كان الرجل يسعى بين دهاليز المحاكم للحصول على حقوقه تلك، اندلعت الحرب اليمنية مع مطلع العام 2015، وتعرض موقع "جبل جرة" الشهير بتعز إلى قصف شديد دمرت خلاله معظم أجزاء المجمع القضائي الواقع فيه.
على إثر ذلك، قيل للرجل إن أمواله فُقدت نتيجة تعرض خزينة المحكمة للسلب والنهب خلال الحرب، ليبدأ بعدها مشوارا آخر من المعاناة في أروقة المحاكم.
ضحية القضاء
لتسع سنوات خلت، بعد الحكم، لم يُمكّن الحداد من أمواله تلك، التي يقول إنه قَبِل بها رغم أنها لم تكن تمثل سوى جزء يسير من حقوقه المنهوبة، ومع ذلك ها هو يتكبّد خسائر طائلة بحثا عن حقه في أروقة "القضاء الفاسد والفاشل"، حسب وصفه.
في المحكمة، يمنعك حراس القاضي من الوصول إليه، فهو دائما مشغول وليس لديه وقت للصحافة! وبدلا من ذلك تجد موظفا فارغا يتبرع لك بالإجابة المعروفة والمستهلكة: إن الرجل المسكين يطالب بحق لم يعد موجودا، لأن خزينة المحكمة سُلبت ونُهبت أثناء الحرب. ويضيف موظف آخر بالجوار: ليس وحده من تعرض لهذه الكارثة، فهناك الكثير أيضا فقدوا ودائعهم مثله.
في مذكرة رفعها قاضي المحكمة التجارية إلى رئيس الشعبة التجارية بالمحافظة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أشار إلى أن الأمر "لا يتعلق بالشاكي (الحداد) فقط، وإنما بالأموال المودعة بالخزينة قبل الحرب بصفة عامة"، مؤكدا أن "هناك من يتردد على المحكمة للمطالبة بأمواله المودعة".
أورد القاضي هذا التوضيح بعد أن طالب في مذكرته بـ"إحالة كل من ثبت تورطه بنهب خزينة المحكمة إلى النيابة المختصة للتحقيق وفقا للقانون".
تشير هذه الإفادة والطلب إلى أن خزينة المحكمة قد نُهبت بالفعل، على عكس ما يأمله الحداد من أنها أفرغت قبل الأحداث. وهذا هو الالتباس بل الاشتباك بالأحرى، القائم حاليا بين الرجل المطالب بحقه المفقود، وبين القضاء الذي لا يجد سبيلا لذلك.
حين تخبره بهذه الحقيقة يحتد الرجل غاضبا، يمسك بيدك ويسحبك خلفه نحو جداريته العتيقة، ثم يقول لك بصوت مبحوح: "انظر إلى هذه الوثيقة، اقرأ هنا، هذه الإفادة من رئيس قسم التنفيذ بالمحكمة التجارية، يؤكد فيها أن خزينة المحكمة تم إفراغها قبل الأحداث في جبل جرة". وتاريخ الإفادة 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
لم تكن جداريته الحقوقية المعلقة هي كل ما يملك، فهناك أيضا كتاب كبير يحوي نسخة من القضية، يحمله داخل كيس معلق دائما على نصل "جنبيته" اليمانية.
قضية طويلة
مرهقا، أناخ بجسده على مقعده الحجري أسفل الجدار "يا ابني القضية طويلة ومعقدة والقضاء فاسد"، قال الحداد، وهو يدخل يمناه في كيسه البلاستيكي ليخرج كتابه "الحقوقي"، ويردف "أما إذا أردت أن تعرف حجم الفساد والفشل في القضاء، فانظر إلى هاتين الورقتين فقط".
ورقتان كبيرتان تناثرت على صدرهما قرابة 40 أمرا وإحالة قضائية موقعة، غطت بشكل عشوائي بياض الصفحتين، كرسم بياني معقد لا تعرف أوله من آخره.
بعزيمة وإصرار نذر الحاج الحداد ما تبقى من عمره لاستعادة حقه على أمل أنه "لا يضيع حق وراءه مطالب" كما يقول. لذلك، تجده يسابق خيوط الأصيل كل صباح، حاملا معه عدته الحقوقية، ينصب سلمه الحديدي ويشرع بإنشاء المعرض. ومع انتهاء دوام المحكمة يكرر العملية بشكل عكسي، ينصب السلم ويبدأ بتفكيك ولملمة الأوراق.. هكذا يفعل كل يوم.
أما أولئك الآخرون من ضحايا الحرب أمثاله فلا حيلة لهم مثله أمام سلطة القضاء، مكتفين بتمثل الحكمة اليمنية القائلة "إذا كان غريمك القاضي، فمن تشارع؟".
المصدر/ الجزيرة نت
أسفل اللوحة القماشية، وُضعت أوراق ووثائق متجاورة بأحجام متفاوتة من القطع الكبير والمتوسط، بشكل منظم وعناية فائقة، على مساحة كبيرة من جدار المحكمة الخارجي، بمحاذاة بوابتها الرئيسية الوحيدة والمطلة على شارع "الحصب" الرئيسي غربي مدينة تعز.
هنا، حوّل الحاج أحمد محمد صلاح الحداد (74 عاما) جدار المجمع القضائي إلى ما يشبه "معرضا توثيقيا" احتجاجيا، أو ما يمكن أن يطلق عليها "جدارية حقوقية"، لعرض قضيته بطريقة مثيرة ولافتة للانتباه.
بين حين وآخر، يتوقف المارّة ليقرؤوا بفضول ما وسعهم من تفاصيل قصة معاناة طويلة، مبثوثة على ما يقارب خمسين مخطوطة ورقية من القطع الكبير والمتوسط. وبالقرب منها، دائما، يوجد الرجل الذي غزا الشيب شعره ولحيته، للتوضيح والإجابة على الاستفسارات.
من ظلم الشركاء إلى الحرب
"منذ العام 1997، خضت مواجهة قانونية ضد شركائي السابقين أمام المحاكم في قضية خيانة أمانة، استمرت 13 عاما، حتى حكمت لي محكمة الاستئناف التجارية أواخر العام 2010 بتعويضات مالية، لم تصلني حتى اليوم".
يحدثك الحداد عن تفاصيل قضيته متنقلا بك بين المخطوطات الورقية المعروضة على الجدار، يشير إلى إحداها مستشهدا "انظر إلى هذه الوثيقة.. تجد فيها منطوق الحكم وتاريخه، وهذه فيها تاريخ تسليم الغرماء للأموال إلى المحكمة.. وتلك إفادة من أمين الصندوق السابق بتوريد المبلغ إلى خزينة المحكمة..".
في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2010 حكمت المحكمة الاستئنافية على شركاء الحاج الحداد بمنحه تعويضا بمبلغ 2.86 مليون ريال يمني مع عشرة آلاف دولار. وتنفيذا للحكم، سلم الشريكان 6000 دولار و185.680 غراما ذهبا إلى خزينة المحكمة التجارية.
وبعدها تسأله فيجيب "هنا مربط الفرس"، مضيفا "بعدها لم يصلني حقي من المحكمة حتى الآن"! ويستدرك "لذلك أنا هنا أطالب المحكمة بتنفيذ الحكم وتسليمي حقي مع الخسائر والتعويضات" يقصد تكاليف وأتعاب التقاضي والمتابعة منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
عقب الحكم المذكور، وبينما كان الرجل يسعى بين دهاليز المحاكم للحصول على حقوقه تلك، اندلعت الحرب اليمنية مع مطلع العام 2015، وتعرض موقع "جبل جرة" الشهير بتعز إلى قصف شديد دمرت خلاله معظم أجزاء المجمع القضائي الواقع فيه.
على إثر ذلك، قيل للرجل إن أمواله فُقدت نتيجة تعرض خزينة المحكمة للسلب والنهب خلال الحرب، ليبدأ بعدها مشوارا آخر من المعاناة في أروقة المحاكم.
ضحية القضاء
لتسع سنوات خلت، بعد الحكم، لم يُمكّن الحداد من أمواله تلك، التي يقول إنه قَبِل بها رغم أنها لم تكن تمثل سوى جزء يسير من حقوقه المنهوبة، ومع ذلك ها هو يتكبّد خسائر طائلة بحثا عن حقه في أروقة "القضاء الفاسد والفاشل"، حسب وصفه.
في المحكمة، يمنعك حراس القاضي من الوصول إليه، فهو دائما مشغول وليس لديه وقت للصحافة! وبدلا من ذلك تجد موظفا فارغا يتبرع لك بالإجابة المعروفة والمستهلكة: إن الرجل المسكين يطالب بحق لم يعد موجودا، لأن خزينة المحكمة سُلبت ونُهبت أثناء الحرب. ويضيف موظف آخر بالجوار: ليس وحده من تعرض لهذه الكارثة، فهناك الكثير أيضا فقدوا ودائعهم مثله.
في مذكرة رفعها قاضي المحكمة التجارية إلى رئيس الشعبة التجارية بالمحافظة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أشار إلى أن الأمر "لا يتعلق بالشاكي (الحداد) فقط، وإنما بالأموال المودعة بالخزينة قبل الحرب بصفة عامة"، مؤكدا أن "هناك من يتردد على المحكمة للمطالبة بأمواله المودعة".
أورد القاضي هذا التوضيح بعد أن طالب في مذكرته بـ"إحالة كل من ثبت تورطه بنهب خزينة المحكمة إلى النيابة المختصة للتحقيق وفقا للقانون".
تشير هذه الإفادة والطلب إلى أن خزينة المحكمة قد نُهبت بالفعل، على عكس ما يأمله الحداد من أنها أفرغت قبل الأحداث. وهذا هو الالتباس بل الاشتباك بالأحرى، القائم حاليا بين الرجل المطالب بحقه المفقود، وبين القضاء الذي لا يجد سبيلا لذلك.
حين تخبره بهذه الحقيقة يحتد الرجل غاضبا، يمسك بيدك ويسحبك خلفه نحو جداريته العتيقة، ثم يقول لك بصوت مبحوح: "انظر إلى هذه الوثيقة، اقرأ هنا، هذه الإفادة من رئيس قسم التنفيذ بالمحكمة التجارية، يؤكد فيها أن خزينة المحكمة تم إفراغها قبل الأحداث في جبل جرة". وتاريخ الإفادة 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
لم تكن جداريته الحقوقية المعلقة هي كل ما يملك، فهناك أيضا كتاب كبير يحوي نسخة من القضية، يحمله داخل كيس معلق دائما على نصل "جنبيته" اليمانية.
قضية طويلة
مرهقا، أناخ بجسده على مقعده الحجري أسفل الجدار "يا ابني القضية طويلة ومعقدة والقضاء فاسد"، قال الحداد، وهو يدخل يمناه في كيسه البلاستيكي ليخرج كتابه "الحقوقي"، ويردف "أما إذا أردت أن تعرف حجم الفساد والفشل في القضاء، فانظر إلى هاتين الورقتين فقط".
ورقتان كبيرتان تناثرت على صدرهما قرابة 40 أمرا وإحالة قضائية موقعة، غطت بشكل عشوائي بياض الصفحتين، كرسم بياني معقد لا تعرف أوله من آخره.
بعزيمة وإصرار نذر الحاج الحداد ما تبقى من عمره لاستعادة حقه على أمل أنه "لا يضيع حق وراءه مطالب" كما يقول. لذلك، تجده يسابق خيوط الأصيل كل صباح، حاملا معه عدته الحقوقية، ينصب سلمه الحديدي ويشرع بإنشاء المعرض. ومع انتهاء دوام المحكمة يكرر العملية بشكل عكسي، ينصب السلم ويبدأ بتفكيك ولملمة الأوراق.. هكذا يفعل كل يوم.
أما أولئك الآخرون من ضحايا الحرب أمثاله فلا حيلة لهم مثله أمام سلطة القضاء، مكتفين بتمثل الحكمة اليمنية القائلة "إذا كان غريمك القاضي، فمن تشارع؟".
المصدر/ الجزيرة نت