للجوف ماضٍ عريق، وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ، وأعماق الأرض أيضاً، هي كنز يحوي بين جنباته الحضارة والمُستقبل معاً، وأنا أجوب صحراء الجوف القاحلة، ووديانها المُترعة بالخضرة والجمال، تذكرت هذه الحقيقة الغائبة، غمرني لحظتها إحساس فضيع بالزهو، الزهو المُستمد أصلاً من حب هذه الأرض، كيف لا، وأنا أمرُ فوق كنزها المخبوء.
الإيغال في تفاصيل محافظة كالجوف، يستدعي الكثير من الجهد، الكثير من الوقت، الكثير من الخوف، الأمر ببساطة كوكتيل مغامرات، ومعرفة شيخ أو شيخين كفيلة بترويض البشر والحجر، وجعل المهمة الصحفية سهلة للغاية.
من على قمة جبل «فرضة نهم» بدت الجوف، أرض معين، وموطن الحضارة الأزلي، مفتوحة ككتاب مكنون، حافل بالتاريخ، ومكتوب بلغة الكون الأولى، يستجدي بكل لغات الدنيا روح المبادرة التي ستسهم في فك طلاسمه، ونشر خباياه للوجود.
مضت السيارة بنا الهوينا، تارة في اتجاه الشمس، وتارة في اتجاه الأرض، على ظهر لسان اسفلتي يتلوى كثعبان ماكر، هو في الأصل أكثر أمانًا من عديد خطوط ثعبانية تنتشر في جبال السعيدة، نظرًا لضآلة مرور السيارات فيه.
بعد مرور ساعتين ونصف الساعة، انحرفت وجهتنا صوب الجوف، عبر خط اسفلتي متفرع من خط «صنعاء، مأرب، سيئون»، هبت نسائم جافة أشعلت في داخلي لهفة الشوق، وحثت الخطى على استعجال اللقيا، سألت رفيقي رحلتي الشيخ مبخوت محمد هضبان، والشيخ يحيى الهندوس، عن الجوف وسر التسمية، فجاءت الإجابة بأن باطن الأرض غني بالمعادن الثمينة والآثار، فقلت في خاطري وربما أنَّ الأجداد قد تنبؤوا بكنوز أحفادهم فأسموها الجوف، حتى لا يرحلوا عنها.
وفي المُقابل ثمة إجابة أخرى لم تبتعد كثيرًا عما سبق، ورد ذكرها في كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية بأن تسمية الجوف جاءت كتعبير تقريبي لطبيعتها الحاضنة للسيول القادمة إليها من جبال صنعاء الشمالية والشرقية، وجبال خولان العالية، وجبال نهم وهمدان، وكذا سيول الأمطار القادمة من جبال نجران، ومن جبال صعدة، وأنَّ طبيعتها الصحراوية تحبس مياه هذه السيول؛ لتشكل خزانات جوفية تُعطي النماء لأرض الجوف قاطبة.
كانت رحلتي الأولى إلى محافظة الجوف قصيرة، ومشتتة، تخللتها فواصل عديدة، وقصيرة، تجاوزت مديرية «الغيل»، ودخلت مديرية «المصلوب»، وفي منطقة القارة التقطت بعدسة عيني صورة عامة لكل شيء، ومن ملامح الوجوه المشرئبة بدت وبوضوح هيئة الجد الأول، فقسمات الأجساد تتشابه، تتكرر، وكأن الجميع أبناء لجد واحد، وقد استشفيت من على ملامحهم أصالة الإنسان اليمني، والشهامة العربية، والكرم الحاتمي، وكل المعاني السامية التي تميز بها اليمنيون على مر العصور.
مع نشوة اللقيا، ثمة سلام مختلف أستوقفني، فالذي أعرفه ويعرفه كثيرون ان قبائلنا ـ باتجاه الصحراء ـ سلامها بعد التحية و«حُيُتو» لا يتعدى المصافحة، واصطدام الأنوف، وهو الأمر الذي وجدت صعوبة بالغة في إتقانه، حيث لم أستطع «التنشين» !! وأثناء تكرار المحاولات قلت في خاطري: ترى هل تستطيع الوقاية الطبية أن تلغي هذه العادة المتجذرة في المجتمع البدوي، خاصة مع التفشي المريع لأنفلونزا الخنازير؟!.
استمرت رحلتي دون توقف، وهذه المرة إلى منطقة «ملاحا» حاضرة «بني نوف» الزاهية، وفوق اديم الذرات الرملية الساخنة وقفت أتأمل المشهد الأكثر روعة، الرايات البيضاء ترفرف على أسطح المنازل الطينية العتيقة، وفوق السيارات «الشاصات» المكشوفة، تُلقي بتحيتها المسالمة التي بعثت في نفوسنا الاطمئنان.
هناك بدت وبوضوح معالم الطراز المعماري الفريد الذي تتميز به مدن وقرى محافظة الجوف، فمعظم منازلها طينية تتكون من التبن والطين، وهي ذات أسطح مرتفعة، الغرفة الواحدة قد تعادل ارتفاع طابقين مما هو متعارف عليه، ورغم ذلك، فهي قوية، وذات متانة وصلابة تقاوم كل أنواع التعرية الطبيعية.
لحكمة أرادها معدو الرحلة، خاصة والمواجهات مع الحوثيين «الحرب السادسة» على أوجها، وبعد أن تلقيت تهديدًا من أحدهم، خرجنا من «بني نوف - المصلوب» من حيث لم نأت، وعبر طريق ترابي سلس، مُتجاوزين عديد مناطق وأودية تتداخل على مساحات شاسعة فيها أراض زراعية غناء، وأشجارها وارفة الظلال، بمدائن الطين البديعة، مُشكلة صورة مُعبرة عن ذلك الامتزاج بين الأرض والإنسان، عنوانها البقاء والنماء والخير لكل الناس.
بعد أكثر من ساعة، ولجنا مدينة الحزم عاصمة المحافظة من الخلف، فكانت بحق مدينة شبه حديثة، وفي جوف الحضارة، وبالغرب منها تقع المدينة القديمة على مساحة حوالي «2» كيلو متر، ويطلق على خرائبها «خربة آل علي»، فيما مباني قرية مشيدة تقع على أعلى جزء منها، وتظهر بين المنازل الحديثة أطلال جدران حجرية قديمة، وفي المدينة أيضاً معبدان صغيران على حافة الجانب الشمالي لها، أما أهم آثارها فتقع في السهل على مسافة حوالي «300» متر شمال غرب مساكن «آل علي».
حتى سنوات قليلة مضت كان يقوم في هذا المكان معبد «ذو مدخل»، وهو مبني من كتل الجرانيت الضخمة، المنقوش عليها مناظر مختلفة، وأطلال هذا المعبد باستثناء أحد جانبيه لا تزال راقدة على الأرض، وبالاتجاه شمالاً من مدينة الحزم، وعلى بعد نحو «7» كيلو متر توجد مدينة معين «براقش»، عاصمة مملكة معين القديمة، رابضة على ربوة صناعية من التراب لحمايتها من أضرار السيول، وعوامل التعرية التي لا ترحم.
أقام المعينيون مملكتهم في أرض الجوف السهلية؛ بعد أن استغلوا ضعف مملكة سبأ في القرن الرابع قبل الميلاد، وعرفت بمدنها التاريخية على طول وادي الجوف السحيق، وكانت مدينة قرناو عاصمة تلك المملكة العظيمة، بالإضافة إلى براقش الحاضرة الثانية، والعاصمة الدينية، وكذلك مدن خربة همدان «هرم»، والبيضاء «نشق»، والسوداء «نشان»، والقارة، وينبأ، وحزمة أبي ثور، ومن المعابد عثتر، والنصيب، وجبل اللوذ، ويغرو، وكهف أسعد الكامل.
وبالعودة إلى المراجع التاريخية الموثوقة، فإن التجارة وحماية القوافل كانت القاعدة الأساس التي قامت عليها الحضارة المعينية القديمة، مما حدا بالملك الفرعوني «بطليموس» بأن يصف المعينيين بأنهم شعب عظيم، وهي شهادة تاريخية واجب كتابتها بماء الذهب، عدها كثيرون مفخرة لحضارة اليمن القديمة، خاصة وأنَّها صادرة من قائد أعظم حضارة في ذلك الوقت.
قبل رحلتي إلى محافظة الجوف بيوم واحد، التقيت الدكتور ناجي صالح ثوابة ـ الخبير الوطني في الشئون الصحية والبيئية ومحافظ الجوف السابق، وبصفته أحد أبناء الجوف المرموقين كان يتحدث باعتزاز كبير عن محافظته المليئة بالكنوز والأسرار، فهي ـ حد وصفه ـ تتميز عن غيرها من المحافظات اليمنية، وعن مدن الجزيرة العربية بشكل عام، ففي مجال الثروات المستقبلية تمتلك ثروة مائية هائلة مخزونة في أحوضها الجوفية، وتكفي لإرواء أراضيها الخصبة، وأرض اليمن برمتها، كما أنَّها أرض زراعية تربتها عالية الخصوبة، ومناخها يتواءم مع مختلف صنوف الزراعات، وإذا ما استغلت جيداً، فإنَّها سترفد بلادنا بالكثير، وستكفينا مؤنة الاستيراد، وأضرار الأزمات الاقتصادية العالمية المتوالية.
وأكد ثوابة إن ثمة تباشير مُستقبلة كشفتها دراسات أجريت مؤخرًا عبر الأقمار الصناعية مفادها أن باطن أرض الجوف غني بالكثير من المعادن، وفيه مخزون كبير من النفط، وفيما يخص الثروات التاريخية «الآثار»، قال ثوابة أنَّ تاريخ اليمن القديم ما يزال في جوف الجوف، وأنَّ المحافظة لو نالت نصيبًا من الاهتمام والتنقيبات العلمية من قبل البعثات الأثرية المتخصصة، فإنها ستكون العاصمة الأثرية لليمن، لروعة ما تحتويه من كنوز نادرة.
في مبنى المحافظة، استقبلني المحافظ حسين علي حازب بوجوم شديد، ونفثها حسرات بأنَّ الجوف محافظة مهملة منسية من الحكومة ووسائلها الاعلامية، مُفصحًا باستياء بلغ حد الغضب من قرار إلغاء مشروع تطوير وادي الجوف الزراعي الذي أعطى الجوف الكثير، فالجوف - حد توصيفه - سلة خبز لهذه البلاد، وهي واعدة بالخير إذا استغلت الاستغلال الأمثل، ومن منطلق تلك الأهمية قدم حازب دعوته للمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال بأن يأتوا إلى هذه المحافظة البكر؛ لأن الواقع والدراسات مُبشرة بكل خير، وأي صعوبات ستذلل في هذا الجانب.
أجدني - هنا - مُجبرًا بأن أعلن توافقي التام مع كافة المقترحات الجادة التي دعت إلى الالتفات إلى هذه المحافظة الكنز، فهي بكل ما تحمله من مُقومات استثمارية في الزراعة والآثار على وجه الخصوص مصدر جاذب لأصحاب رؤوس الأموال، إلا أنني في المقابل أقولها صراحة بأنَّ تلك المقومات المغرية تتلاشى أمام اختلالات أمنية، وعنف قبلي لا يهدأ، ولا يحب الهدوء أصلاً؛ بل لا يدرك أنَّ الاستقرار والتنمية المستدامة مُرتبطة بالأمن، وما لا يستطيع أحد انكاره أنَّ أهل الجوف شركاء في ظلم أنفسهم، ولو أنَّهم تصالحوا فيما بينهم، واتجهوا صوب أراضيهم الزراعية بدلاً عن التقطع، وحمل السلاح، ونبش تراث الأجداد، لتحولت الجوف إلى سلة غذاء طرية لليمن، والدول المجاورة.
ـ صحيفة الجمهورية (2009)