مفيد الغيلاني- المشاهد
“لا أستطيع أن أغادر المنزل لإحضار الطعام أو الماء لأسرتي، إلا في أوقات محدّدة، متخفّياً وراء جدران البنايات أو مُغافلاً القناص”. بهذه الكلمات بدأ محمد عبده (70 عاماً) بسرد تفاصيل قصته، وهو يغالب دموعاً حارة في عينيه، تختزل معاناته الممتدة منذ 5 أعوام من الحرب، عاشها على خط التماس، الفاصل بين تمركز مسلحي الحوثي والقوات الحكومية.
شارع واحد فقط، لا يتعدى الـ20 متراً، يقع وسط حي الزهراء، شرقي مدينة تعز، وهو “النقطة صفر” التي تفصل تمركز القوات المتحاربة في الحي. تحول هذا الشارع إلى ما يشبه الغابة البرية بأشجار كثيفة، ومبانٍ نقشت جدرانها برصاص القناصة وقذائف الهاون، وحطام سيارات محترقة. وحدها الثعابين طاب لها السكن فيه.
نظراً لظروفه المادية المتردية، لم يستطع العم محمد -كما يسمونه- مغادرة المنزل، كما فعل كثر هنا، فهو لا يملك حتى بدل سيارة الأجرة التي ستقله مع أدواته المنزلية إلى مكان آمن، كما يقول.
عزلة مفروضة
قبل 5 سنوات، كان الحيّ ممتلئاً بالحياة وضجيج الباعة والمتسوقين في شوارعه، لكن الحرب جعلت منازل حوالي 2000 أسرة خاوية إلا من آثار قذائف الهاون والكاتيوشا، بينما أجبرت الظروف قلة على البقاء. هؤلاء هم القابضون على الجمر.
المواطن محمد عبده : إذا خرجت من الحي عبر الأزقة، من أجل الحصول على الماء، أعود وأنا مستعد للموت. عشنا رعباً لا يمكن تصوره، ففي الليل لا يمكننا إشعال أي ضوء، خوفاً من استهداف المنزل، أو من رصاص القناص، وعند اشتداد المواجهات كنا نعيش غالباً على وجبة واحدة، لتعذّر الخروج من المنزل”.
البقاء في الحي، كما يروي العم محمد، في حديثهلـ”المشاهد”، كان “باهظ الثمن”، فقد تعرض مرتين لرصاص قناص قوات “أنصار الله” (الحوثيين)، المتمركز في معسكر الأمن المركزي، شرقي حي الزهراء، ونجا في كلتيهما من الموت بأعجوبة.
“كنت إذا خرجت من الحي عبر الأزقة، من أجل الحصول على الماء، أعود وأنا مستعد للموت. عشنا رعباً لا يمكن تصوره، ففي الليل لا يمكننا إشعال أي ضوء، خوفاً من استهداف المنزل، أو من رصاص القناص، وعند اشتداد المواجهات كنا نعيش غالباً على وجبة واحدة، لتعذّر الخروج من المنزل”.
عدو القناص وصديق الثعابين
كان يوم 21 أبريل 2016، الأقسى بالنسبة للعم محمد، فقد أصيب برصاص قناص في رجله اليمنى، وظل يزحف وهو ينزف حتى خرج من الحي، فتم إسعافه إلى مستشفى الروضة.
يقول: “شاهدت الموت وأنا أنزف، زحفت لأكثر من ساعة حتى وصلت إلى المكان الذي تم نقلي منه إلى المستشفى”.
من جهته، يقول عبدالرحيم الجلال، الساكن في حي الزهراء: “من تبقى في الحي يعيش كل يوم على حافة الموت”، معلقاً: “تعرض الكثير من ساكني خطوط التماس هنا للدغات الثعابين وسط الظلام، فالقناص يستهدف أي مصدر للضوء، أما جارنا محمد فهو صديق الثعابين، ويوليها اهتماماً خاصاً، لكنه بالمقابل عدو القناص اللعين”.
ويتابع: “رغم امتلاك معظم السكان مصادر تقليدية للضوء، فإننا نعيش في ظلام دامس طوال الليل، إذ بمجرد انبعاث أي ضوء، ولو من ثقب صغير في النافذة، نتفاجأ بإطلاق الرصاص صوب ذلك الثقب”.
لحظة صمت ملؤها الخوف والرعب والقلق، عمّت أرجاء المنزل، بعد سقوط قذيفة بالقرب منه، لم تبددها سوى تنهيدة عريضة أطلقها العم محمد قائلاً: “حتى في المنزل ليس بوسعنا الجلوس في أي مكان نريد، فمعظم الأوقات نقضيها أنا ومن تبقى من أفراد عائلتي، تحت الدرج، خوفاً من القذائف”.
مكالمة صادمة
في الـ7 من مارس 2016، تلقى العم محمد مكالمة هاتفية من عبدالعزيز السبئي، وهو أحد مقاتلي القوات الحكومية، يبلغه فيها أن “طلقة قناص أصابت رأس ابنه الأكبر فارس، أمام مبنى البريد”.
يصف محمد الصدمة مستذكراً: “أُغمي عليّ، ولم أفق إلا بعد ساعتين تقريباً”. وبعينين غارقتين بالدمع وقلب يعتصره القهر، يقول بحسرة: “أُسعف فارس إلى مستشفى الروضة الخاص، وأجريت له إسعافات أولية، لكن عندما وصلت إليه كان قد فارق الحياة متأثراً بإصابته”.
“ووري جثمان فارس كغيره في الثرى، ولا ذنب له سوى أن الظروف المادية المتردية، أجبرت والده على العيش وعائلته على خطوط التماس في حي الزهراء”، هكذا يصف فؤاد الفقيه، أحد ساكني خطوط التماس، الفاجعة.
ويسرد تفاصيل الحياة اليومية الصعبة التي لايزال يكتوي بنيرانها حتى اللحظة، قائلاً: “تجاوزت الحرب في حي الزهراء كل الخطوط الحمراء، فحولت المدنيين إلى دروع بشرية، واخترق رصاص القناص الطلاب والأطفال والنساء وكبار السن، حتى الكلاب”.
يقاوم الفقيه دموع القهر المحتشدة في عينيه، وهو يقول: “أصبح الحي صالة عزاء مفتوحة، لا يكاد يمر يوم، دون أن نودع فيه قريباً أو صديقاً”، مضيفاً: “ترجيت أحد المشرفين، ويدعى أبو تراب، أن يسمح لي بالخروج ليلاً، من أجل إسعاف زوجتي، لكنه رفض قائلاً: “كنت ستأخذ لها علاج تأخير الولادة”. أظلمت الدنيا في وجهي، وشعرت أن البيت أضيق من خرم إبرة”.
وبصوت متقطع، يروي تفاصيل ولادة زوجته: “لقد مرت ساعات عصيبة وأنا أسمع صراخها من الألم. 8 ساعات تقريباً هي الفترة الزمنية التي عانت خلالها زوجتي المخاض، وبمساعدة امرأة من الجيران، كانت قد جاءت إلى المنزل قبل أن يحل الظلام، رُزقت بابني رهيب”.
على عكس الفقيه، يبدو العم محمد أكثر تماسكاً عند الحديث، لكنه يحكي عن انكسار داخلي كبير يعيشه، فعدا “العيش كل يوم وكل ساعة بين الحياة والموت”، وتحوّل الأخير إلى رغبة بعدما أصبح “أهون من الحياة”، والإصابة مرتين، وفقدان الولد البكر، تعرّضت ابنته الصغرى لشظايا طلقة قناص في عينها، وباتت زوجته تعاني من مشاكل عصبيّة حادة.
“5 أيام بلياليها ظلت هديل تنزف، ولم نتمكن من إسعافها إلا في اليوم الخامس، لم يكن لدينا أي خيار سوى المكوث في منازلنا، وانتظار منقذ من السماء، أو الموت في أية لحظة”، يختم الرجل السبعيني المنهك كلامه.
ذكرى مؤلمة
عبدالله محمد كان الدليل الذي اصطحبنا للسير في الحي عبر طرق خالية من الألغام، وبعيدة عن عين القناص. يستذكر عبدالله بدوره حادثة القنص التي تعرضت لها ابنة العم محمد، قائلاً: “شاهدت الحادثة أمام عيني. كانت طلقة معدل مضاد طيران وقعت في واجهة المبنى الذي تقف أمامه هديل، فانعكست الشظايا المتطايرة باتجاهها، ما أدى لإصابتها إصابة بليغة”.
وبصوت محفوف بالقهر، يضيف: “حاولت مراراً، مع عدد من أبناء الحي، أن نجتاز الطريق لإسعافها، لكن دون جدوى، فالقناص كان يرصد كل شاردة وواردة”.
عقدة الصراع
منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2015، شكلت مناطق التماس الشمالية من مدينة تعز، و”حي الزهراء” تحديداً، عقدة صراع بين القوات الحكومية ومقاتلي جماعة الحوثي، كونها، وبحسب عبدالرحيم، “محاطة بالكثير من المواقع الاستراتيجية والحساسة، ابتداء من معسكر قوات الأمن الخاصة، مروراً بمعسكر التشريفات والقصر الجمهوري، وصولاً إلى خط جولة القصر، الشريان الرابط بين قلب المدينة، ومنطقة الحوبان، أقصى الشرق”.
ويقول عبدالرحيم: “عشنا أياماً عصيبة بداية المواجهات، في حي الزهراء، وبالتحديد يوم الجمعة 20 مارس، إذ أمطرت القذائف الحي حتى وقت صلاة الجمعة، نزح في ذلك اليوم 50% من السكان، ثم توالت عملية النزوح، ولم يتبقَّ اليوم سوى 66 شخصاً من أصل 1180 هم سكان الحي عام 2015”.
التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان : عدد ضحايا القنص في مدينة تعز، منذ اندلاع الحرب عام 2015 وحتى ديسمبر 2019، بلغ 828 قتيلاً، بينهم 75 امرأة، و110 أطفال، في حين توزعت البقية بين الرجال بـ572، و71 قتيلاً من كبار السن .
ويلفت إلى أن من “بقوا في الحي هم من الطبقة التي تعيش تحت درجة الصفر مادياً، ولا تمتلك أجرة الهروب من الموت”.
فارس، ابن العم محمد، هو واحد من بين 170 شخصاً قتلوا برصاص القناص في مديرية صالة، بحسب إحصائيات منظمة “التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان”، التي تشير إلى أن “عدد ضحايا القنص في مدينة تعز، منذ اندلاع الحرب عام 2015 وحتى ديسمبر 2019، بلغ 828 قتيلاً، بينهم 75 امرأة، و110 أطفال، في حين توزعت البقية بين الرجال بـ572، و71 قتيلاً من كبار السن”.
= تم إنجاز هذه المادة في إطار برنامج التدريب الذي ينظمه مكتب العلاقات الخارجية في “الجامعة الأمريكية في بيروت”، بالتعاون مع “مؤسسة دعم الإعلام الدولي”. اضغط هنا للمزيد من المعلومات حول البرنامج