إعداد: متولي محمود
تختلف عادات وتقاليد المجتمعات العربية طبقاً للبعد الجغرافي والموروث الحضاري والثقافي, إلا أنها تتفقُ في تقاليد المغالاة في المهور, والبذخ في تكاليف الزواج, وبالتالي ارتفاع مقلق لمعدل العنوسة.
الزواج شرعة الله, وأحد أركان بناء المجتمعات, والحفاظ على النوع البشري عن طريق إنجاب الأطفال وتكوين اللبنة الأولى ونواة المجتمع “الأسرة”. وهو وسيلةٌ لإشباع حاجات الإنسان العضوية كالجنس والأمومة والاستقرار, والشعور بالانتماء. حيثُ أن حرمان الفرد منها يؤدي إلى الكبت وبالتالي الاضطراب النفسي. وقد حثنا ديننا الإسلامي الحنيف على الزواج, وإكمال نصف الدين وحفظ النفس من النزوات والانحراف, قال رسول الله محمد علية أفضلُ الصلاة وأتمّ التسليم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء).وحول النهي عن المغالاة في المهور, وتيسير الزواج للشباب, قال صلى اللهُ عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد). فتيسيرُ الزواج للشباب من شأنه صونهم من الانحراف والوقوع في المعصية, والتأسيس لأجيال فاسدة.
لكن تلك التقاليد العمياء التي تفرض مهوراَ باهظة, وتتّبع مراسيم أعراس بتكاليف مُفزعة, من شأنها تعكير عملية الزواج, وإدخال الشباب في قوافل الضياع. هذه العادات تأصلت منذ زمن, وعلى نحو تدرُّجي ولم تكن وليدة عشيةٍ وضحاها. فالبذخ والإسراف في الاحتفاء بالأعراس منذ القدم, دفع بالعائلات لطلب مبالغ خيالية من المتقدمين لخطبة بناتهم, للقدرة على مجاراة مراسيم الوسط المجتمعي.
على أية حال, لا تُولّد الكوارث سوى الخرب والدمار. ما تخلفه فعلاً مشكلة غلاء المهور صادم جداً. ومُخل بالتوازن البشري. ما لا ندركه حقاً أن الارتفاع الجنوني لتكاليف الزواج, يسبب مشكلات اجتماعية جمّة. فبالإضافة إلى الانحراف والضياع الذي تُحدثه, ثمةَ آثار نفسية جسيمة يسببها الكبت, فأحلامهم تستحيل رماداً تذروه الرياح, وخططهم التي لطالما رسموها بأنامل من نور سرعان ما تصيرُ مستنقعاتٍ من اليأس وخيبات أملٍ متلاحقة, وتتحول عقولهم إلى أدوات تدميرية.
لاشيء يفتكُ بالنفس بقدر خيبات الرجاء, والسقوط في قيعان اليأس والقنوط, وكراهيةُ الدنيا. هكذا يبدو منظر شاب انتظر سنواتٍ طوال للالتقاء بنصفه الآخر, وحُرم! أوطانٌ تتصدر قائمة الفقر والتخلف؛ عائلاتُ متخمة بالرجعية والجشع, ومجتمعاتٌ لا ترحم. ومن أين لشابٍ عاطلٍ عن العمل دفع تلك التكاليف, وتلبية رغبات ومطالب لا تكاد تنتهي حتى تبدأ؟! وكيف لزهرةٍ حان موسمُ قطافها أن تقضي عمرها انتظاراً لمن يُشبع جشع والديها, ويُرضي مجتمعها؟! هنا يجد الشباب أنفسهم في سرب قافلة “العنوسة”. تلك المفردة المقيتة, الثقيلة على الأنفس والمحطمة للقلوب, والتي تجعل منك مرمى لنظرة مجتمعٍ أعمى.
سأحاول في هذا الملف ما استطعت, استعراض هذه الأدواء المجتمعية الفتاكة, والتي هي في الأساس من صنع أيدينا. سنستعرض بشكل مُقتضب بعض مسبباتها, والنتائج التي تترتب عليها, كما سنحاول استعراض بعض الحلول التي قدمها المجتمع تباعاً للتخفيف منها, مع بعض التوصيات المقترحة للتخلص تدريجياً من آثارها, بالتعاون مع المخلصين من أبناء هذا المجتمع لخلق توعية شاملة بمخاطر هذه الآفات الاجتماعية ولفت أنظار الجهات المعنية لوضع حلول جذرية والاهتمام بالشباب, عماد الأمم لضمان تربية أجيال يُعول عليها النهوض بهذه الأمة.
المُسـبـبـــــات:-
للسعي لإيجاد حلول لمشكلة ما, لا بد في البداية من البحث عن جذورها ومسبباتها في بادئ الأمر, للتمكُّن من صياغة حلول ملائمة تجتث وتستأصل تلك الأسباب وتعالج ما يترتب عليها من نتائج.لكل مشكلة أسباب, قد تبدو غامضة أحياناً لكنها تكون أحياناً أخرى غاية في الوضوح, وأسباب مشكلتنا بادية للعيان لكننا نُصر على ارتكابها على نحوٍ ممنهج, لعدم قدرتنا على الخروج من داخلنا وصناعة التغيير الحقيقي. نورد هنا بعض الأسباب تباعاً حسب معايشتنا لها وبينها:
– التمسُّك بالموروث التقليدي في تأدية مراسيم الزواج وما يترتب عليه من إسراف في ذبح اللحوم وتقديم الأطعمة الفاخرة, والبذخ في شراء الحلي والمجوهرات للعروس.
– الجشع المقيت الذي وصلت إليه العائلات في بعض المجتمعات بطلب مبالغ تعجيزية كمهور لبناتهم.
– التعامل مع الإناث كسلع تباع وتشترى لمن يدفع أكثر, وبالتالي الإبقاء عليهن إلى أجل غير مسمى.
– الوقوع تحت تأثير الشطحات الرجعية لبعض أساطين المال, المتخمة بالتفاخر والتباهي الاستهلاكي كنوع من السمعة المجتمعية.
– ارتفاع معدّل الأمية, والجهل بالحقوق الفردية بعيداً عن شروط العائلات المستفزة.
– قصور الإرشاد الديني والتوعوي, وغياب الإعلام عن إثارة هكذا قضايا للرأي العام, وإيصالها للجهات المعنية, مع استمرار التنوير الكافي لشريحة الشباب, بدلاً من وقوعهم في شراك الأفكار الهدامة.
وهناك العديد من الأسباب الفرعية التي تفاقم المشكلة, والنتائج التي تترتب عليها كوارث اجتماعية عدة.
استفحـــال العنـوســة:-
يطلق مصطلح ” العنوسة” في مجتمعنا على الأنثى التي تعدّت مرحلة الزواج المتعارف عليها, بحيث تختلف تلك المدة من مجتمع إلى آخر لكن نتائجها لا تختلف كثيراً. على أية حال, تبرز مشكلة العنوسة لأسباب كثيرة لعل من أهمها غلاء المهور وتزايُد تكاليف الزواج وارتفاع معدل البطالة في أوساط الشباب, الأمر الذي يؤدي إلى عزوفهم عن الزواج. ثمةَ أمر غريب وجشع يُبديه بعض الآباء تجاه بناتهم ممن يحضون بوظائف, إذ يتم رفض المتقدمين لخطبتهن تحت مُبرر طمع أولئك الشباب براتب الفتاة وليس حبا بها لذاتها. لكن يتم أحيانا الرفض من البنت الموظفة ذاتها بحُجّة عدم ملائمة الخُطاب مستواها. هذه التقاليد المجحفة والتصرفات الاستعلائية تُهدد مستقبل شباب أمتنا وإناثها تحديداً. ما يزيد الطين بلة, أن عدد الإناث بات يناهز عدد الذكور مؤخراً. يبدو ذلك جلياً في الجامعات والمدارس المختلطة, حيث باتت نسبة الإناث تُمثل أكثر من النصف, ولكلمة “العنوسة” وقعُها على النفس, خصوصاً الإناث الأكثر رقةً, حيث تولد اضطرابات نفسية, وشعور بالحرمان من الاستقرار الأسري والعاطفي. أما انكسارات الشباب فيرتد وقعها على المجتمع, حيث يتولد سلوك انحرافي كالسرقة والاحتيال لتوفير المال اللازم, وقد يصل أحياناً إلى ارتكاب جريمة القتل للمتسببين في وصولهم إلى هذا البؤس والشقاء. فكيف لمجتمعاتٍ أن تنهض بشبابٍ ضائع, تعطلت مواهبهم وإبداعاتهم, أما طموحاتهم فلا تتعدى إشباع غرائزهم بطرق محرمة. هل نعي أننا ندمر مستقبل شبابنا وأمتنا على السواء؟! بتقاليدنا السوداء, وجشعنا المطلق. فالكثير من مبدعينا هجروا أوطانهم تاركين تعليمهم, ركضاً خلف الرزق لتوفير تكاليف الاستقرار وبناء أسرهم. وكم مهاجرٍ تزوج أجنبيةً, بلا مهر طبعاً, تاركين عاداتهم وقيمهم الدينية والمجتمعية.
زواج الشغـــار:-
ولأن تكاليف الزواج الباهضة رافقت مجتمعاتنا على مرّ السنين, فقد سُجّلت محاولات كثيرة للتخفيف من وطأتها, من تلك الحلول التقليدية: زواج الشغار أو البدل كما يسميه البعض. أُبتكر هذا النوع من الزواج في اليمن وهو عبارة عن زواج تقليدي على طريقة ” زوجني أختك, أزوجك أختي “, على أن يكون المهر مقابل المهر. بمعنى أدق, لا أدفع أنا ولا تدفع أنت. بالفعل ساهم هذا الحل في تزويج الشباب بلا مقابل والتخفيف من العنوسة, لكنه بالمقابل ولّد مشكلات أخرى ذات نهايات مأساوية. فمخاطره تكمُن في أن أي خلاف أو انتكاسة لإحدى الزواجين غالباً ما ينعكس على الزواج الآخر ويصيبه في مقتل. ورغم إجماع علماء دين أنه ليس من الإسلام في شيء, إلا أن البعض الآخر رأوا فيه حلاً لتيسير الزواج للشباب شريطة أن يُسمّى المهر للعروسين. يَحضرُ هذا النوع من الزواج كثيراً في الأرياف اليمنية الفقيرة لكنّه ليس منتشراً كثيراً في الوسط المدني نظراً لتعدد منابع العائلات.
الزواج الجماعي :-
وبالرغم من بروز حلول قبلية عن طريق تسمية مهر محدد يلتزم به الجميع, إلا أنه واجهَ انتكاساتٍ عدة في عدم تطبيقه من البعض. يُعد الزواج الجماعي من أرقى الحلول التي ساهمت كثيراً في تزويج الشباب والحد من تعاظم نسبة العنوسة. في الحقيقة, هناك تزويج جماعي من بنات أفكار بعض المجتمعات تم تداوله مؤخراً, خلافاً للزواج الجماعي المتبنَّى من قبل الجمعيات الخيرية. في هذا النوع من الزواج الأهلي, تنظمه مجموعة من العائلات وعلى نحو فردي, بالتشارك في إقامة حفلة زواج واحدة لعشرات العرسان,وتتقاسم هذه العائلات نفقات العرس كاملة, باستثناء المهر الذي يدفعه المتزوجون كلٌ على حدة. لكن وبرغم النجاح الذي حققه على صعيد تحجيم التكاليف, إلا أنه سرعان ما بدأ بالتلاشي, ونُعت بالتخلف كونه منافياً للتمدن.
أمّا الأعراس الجماعية التي ترعاها جهات خيرية وجمعيات أهلية كانت وما تزال أفضل الحلول, كونها تكفل كافة أو جزء كبير من تبعات الزواج من مهر ونفقات ومراسيم حفل جماعي للعرسان ككل. لكن هذه المشاريع باهظة التكاليف, ولا ترعاها سوى الجمعيات العريقة ذات الدعم النوعي, وهي قليلة جداً ومشاريعها سنوية, وما تستهدفه من شباب لا يشكلون سوى النزر القليل من أعداد هائلة يقعون تحت هذا الظرف المعيشي المزري. ولكنه تظل وسيلة مهمة في تكريس التضامن الاجتماعي والمسئولية الإنسانية.
حـلـــــــول ومقترحــــات :-
في ظاهرة مُوغلة في العمق البشري كالمغالاة بالمهور, تكاد الحلول تنعدم في كومة من العادات والتقاليد العمياء, تشكّلت منذ عشرات العقود. القضية ليست في أزمة حلول, الحلول موجودة في متناول الأيدي لكن لا نستطيع تطبيقها, ولا نيّة لترك ذلك الموروث السحيق من التشويه للقيم المجتمعية. نرى بناتنا تتعنس, ولا نبالي. ونرى شبابنا يضيع, ولا نكترث, وهنا يكمن الخلل. ربما يجري التعويل على الجيل الصاعد لدحر هذه الظواهر العتيقة, وهذا ما يحتاج حملات توعوية مكثفة, مع تكثيف التنوير بمخاطر هذه العادات ودورها الهدَّام. إليكم تلخيص لبعض المقترحات :-
– استخدام كل الوسائل المتاحة, وجعلها منابر للتوعية المجتمعية. فالمساجد والمدارس والإعلام بكل أشكاله المرئي والمسموع والمطبوع, كلها منابر حرة بالإمكان إيصال الفكرة عبرها إلى كل بيت.
– حشد الجهود والطاقات للخروج بمواثيق شرف إما رسميّة أو مجتمعيّة على الأقل, لتحديد ضوابط للمهور وإلغاء الحفلات والبذخ.
– تشجيع ودعم إقامة الأعراس الجماعية, ومساندة الجمعيات والمشاريع الخيرية التي تُعنى بهذا الشأن.
– رعاية شريحة الشباب عبر برامج الدعم النفسي والمعنوي لتطوير فكرهم والقدرة على حل مشاكلهم بأنفسهم وللحد من انجرارهم إلى سبُل الانحراف.
وأخيراً, مليون (لايك) على فيسبوك مهراً لفتاة يمنية:-
عندما توجد الإرادة للتغيير, لا شيء يقفُ عائقاً أمامك, ولا تفقد الوسيلة كذلك. فقد لفت سالم عياش, مفسبك يمني, لفت أنظار المجتمع ووسائل الإعلام, وخلَق هالة من الغرابة والإعجاب في ذات الوقت لمشكلة غلاء المهور المستفحلة في مجتمعه عبر طلب غريب من متقدم لخطبة ابنته. كان بإمكان سالم عياش الاكتفاء بالقول أزوجك ابنتي بلا مهر, لـ أسامة القديمي المتقدم لابنته ويكتفي. لكنه لن يساهم بذلك في نشر الوعي لجميع الآباء. لكنه فضّل لفت الانتباه وقرع جرس الإنذار لكل من يهمه الأمر بالنظر في قضية باتت تؤرق الجميع.
ولأن سالم عياش ناشط كبير على صفحة فيسبوك, فقد استخدم هذا الموقع الاجتماعي لإيصال فكرته للجمهور, حيث فاجأ الشاب أسامة بطلب مليون (لايك) على فيسبوك مهراً لابنته. وبالفعل, أنشأ صفحة ليبدأ الشاب بتجميع الإعجابات للصفحة للوصول إلى العدد المحدد للزواج. فبمجرد إنشاء الصفحة, تهافت المستخدمون لدعم العريس ومشاركة الصفحة لأصدقائهم. وكانت عشرات الصحف والقنوات الشهيرة تداولت هذا الخبر الطريف والملفت, مما خلق ضجة إعلامية وهذا فعلا ما أراده والد الفتاة. ويقول سالم عياش: ما دفعني لمثل هذا الطلب هو غلاء المهور, وكذلك تشجيع الشباب على تصفح مواقع التواصل الاجتماعية ودعم حملات التضامن الإنسانية, لما لذلك من فائدة حد قوله. وبالفعل تم عقد القران, وتم إمهال الشاب فترة مفتوحة للإيفاء بمهر الفتاة, ولكن عياش أشار إلى أنه سيخفف تلك الشروط في حال تصعّبت الأمور .
المصدر: مدونة حكايا الربيع (متولي محمود)