كل المؤشرات تؤكد وظيفة هذا التنظيم وفقدانه القدرة على مقاومة الاختراق.
"القاعدة" ظاهرة إعلامية هلامية توظفها أطراف دولية وإقليمية ومحلية ضالتها الإرهاب لغطاء أجندتها.
انكشف حجم أكذوبة فزاعة الجماعات الإرهابية، وحجم التهويل والاستغلال الإعلامي، والتوظيف السياسي لها.
* * *
ثلاثة عقود وصورة اليمن في الإعلام الدولي أنه وكر لتنظيم القاعدة وبلاده الفسيحة. وتتناسب هذه الصورة المنمطة، والتي كان يشتغل على إبرازها نظام الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، باحترافية وذكاء كبيريْن، مع اللعبة التي دأبت الولايات المتحدة على استخدامها، منذ تسعينات القرن الماضي، مع أفول فزاعة إمبراطورية "الشر" السوفييتية وسقوطها، وزوال خطر الاتحاد السوفييتي مع بداية التسعينات.
وهو ما دفع صانعي الاستراتيجية الأميركية لصوغ استراتيجية جديدة، لشد الداخل الأميركي نحو عدو جديد متوهم، وإيجاد مبرّرات لوجود قواتها وقواعدها العسكرية واستمرار هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط وبقية دول الإقليم.
أدرك صالح تلك الرغبة الأميركية مبكرا، واشتغل عليها مستغلا هذه الظروف، لجلب مزيد من الدعم والمساعدات الأميركية لتقوية نظامه والجيش اليمني، وهكذا غدا اليمن محط أنظار العالم باعتباره منبعا للإرهاب ومعقلا له.
فيما الحقيقة أن اليمن لم يكن سوى ضحية لهذه الفكرة، ويدفع ضريبة ذلك كله من سمعته ومكانته، ما أثر عليها سلبا بشكل كبير، وهي الفكرة التي استغلها أيضا جيران اليمن جيدا، لدفع التهمة عنهم، وتحميل اليمن وزر الإرهاب كاملا.
وما حدث لاحقا هو الانكشاف الكبير لهذه اللعبة، لعبة الإرهاب الدولي الذي بدأت تتضح بعض خطوطه يوما فيوما، حتى صار واضحا لمتابعي قصة الإرهاب حجم التوظيف المخابراتي لها، وكيف يتم الاشتغال على هذه الورقة، بين حين وآخر، من بعض الأطراف التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وأجنداتها، من خلال فزّاعة شماعة إرهاب القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وقد كشف ما جرى في اليمن، طوال الخمس سنوات الماضية من الحرب، بجلاء حجم أكذوبة فزاعة الجماعات الإرهابية، وحجم التهويل والاستغلال الإعلامي، والتوظيف السياسي لها.
فمثلما حاول الحوثيون أن يستغلوا هذه الفزاعة، للبحث عن مشروعية دولية لانقلابهم تحت غطاء محاربة الإرهاب، انكشف أن هذه الفزاعة ليست سوى ورقة سياسية سهلة الاستخدام من كل هذه الأطراف، لضرب خصومها ووصمهم بالإرهاب، لتسهيل مهمتها وجلب تعاطف المجتمع الدولي المتورّطة بعض أطرافه في هذه اللعبة.
من أهم تجليات انكشاف لعبة "القاعدة" في اليمن ومحطاته هو ما رأيناه في الحرب ضد مسلحي هذا التنظيم، طوال الخمس سنوات الماضية تحديدا، فقد تمكّنت جماعة ما تعرف بأنصار الشريعة، التابعة لتنظيم القاعدة من دخول مدينة المكلا في محافظة حضرموت اليمنية، في 3 إبريل/ نيسان 2015، وسيطرت على كل معسكرات الدولة وأسلحتها الثقيلة والمتوسطة في المدينة، لأول مرة في تاريخ هذه الجماعة منذ ظهورها في بداية تسعينات القرن الماضي.
وبذلك تمكّنت من السيطرة على عاصمة أكبر محافظة يمنية ممثلة بحضرموت التي تعادل مساحتها ثلث مساحة اليمن تقريبا، ومع هذا بسطت القاعدة سلطتها على كل شيء في المدينة، وتمكنت من سرقة البنوك والمعسكرات، وبسطت الأمن بمفهومها المليشياوي الصارم.
ورغم ذلك كله، تمكّنت، بعد ذلك، وحدات عسكرية قليلة من قوات ما يسمى التحالف العربي، وبقيادة ضباط إماراتيين بعد عام من استعادة هذه المدينة، من دون أي قتال يذكر، بل سمح لأفراد "القاعدة" بالخروج من المدينة، مع أسلحتهم ومعداتهم، من دون أي اعتراض.
وكانت هذه الحادثة مؤشرا واضحا على وجود تفاهمات مسبقة مع قيادة هذه الجماعة على السيطرة على مدينة المكلا، وطرد القوات الحكومية من المدينة، ونهب كل مقدّرات الدولة العسكرية والمدنية، وبعد ذلك تسليمها للقوات الإماراتية والمليشيات الممولة من هذه القوات، وهذا ما تردّد كثيرا في مجالس الناس في المدينة طوال تلك الفترة.
وعزّز مثل هذه الأحداث كثيرا، التراجع الكبير لمسلحي تنظيم القاعدة وعملياتهم، طوال ما بعد تسلم الإمارات مدينة عدن، وبعدها المكلا، وتفرّغ "القاعدة" لملاحقة أي وجود للقوات الحكومية اليمنية الشرعية، في طول البلاد وعرضها، في مؤشّر واضح لوجود تفاهمات ما بين قيادة هذه الجماعة والأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في اليمن منذ ما بعد انقلاب مليشيات الحوثي على الحكومة الشرعية في 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
واليوم وفي ظل ما يُشاهد من تصفيات القيادات الكبيرة للتنظيم، بدءا بفهد القصع الذي قضى في غارة أميركية في منتصف العام 2012، مرورا بزعيم التنظيم، ناصر الوحيشي، والذي قضى هو الآخر في غارة أميركية في منتصف 2015، وليس انتهاءً بإبراهيم الربيش وحارث النضاري، اللذين قضيا، في 2015 بضربات طائرات درونز أميركية من دون طيار.
وكان كل هؤلاء يمثلون آخر الملهمين الكبار للتنظيم في اليمن على الأقل، ما جعله في حالة فراغ قيادي كبير، دُفع لملئه بقيادات شابة، غير ذات خبرة ولا أسبقية ولا أفضلية، بل دارت حولهم علامات استفهام كثيرة، فقد دُفع بقاسم الريمي لقيادة التنظيم، خلفا لناصر الوحيشي.
وكان قد تحدث عنه مخبر "القاعدة"، هاني مجاهد، في الفيلم الاستقصائي الذي بثته قناة الجزيرة منتصف 2015، حيث ذكر دور الحكومة اليمنية في تجنيد قاسم الريمي في عملية تفجير السفارة الأميركية في 2008، ودور هذا الرجل تحديدا حينها في تلك العملية، وارتباطه بجهاز الأمن القومي اليمني حينها.
وبإعلان "القاعدة"، أخيرا، مقتله، وتولي خلفه خالد باطرفي، يمكن الحديث عن مرحلةٍ جديدة للقاعدة، أكثر كاريكاتورية وانكشافا من أي وقت مضى، خاصة في ظل تضارب الاتهامات بين أطراف داخل القاعدة، وحديثها عن وجود تواطؤ من باطرفي ساهم باغتيال قاسم الريمي.
هذا عدا عن مسرحية باطرفي الذي غادر المكلا بمجاميعه التي سيطر بها على مدينة المكلا في 2015، وعودته اليوم إلى الواجهة خليفةً لقاسم الريمي، ما يضع علامة استفهام حول شخصيته المثيرة للجدل والشك والريبة وارتباطاته بأجهزة مخابرات دولية وإقليمية، كسلفه الريمي تماما.
ومهما يكن الأمر، فيما يتعلق بارتباطات بعض قيادات هذا التنظيم الذي شهد انقساماتٍ كثيرة، بين جماعتي أنصار الشريعة وأنصار ما عرف بالدولة الإسلامية، إلا أن كل المؤشرات تؤكد وظيفة هذا التنظيم، وفقدانه القدرة على مقاومة الاختراق وصيروة الاستمرار تنظيما لا يمكن اختراقه أو توظيفه.
تتعزز هذه الصورة كل يوم فيما يتعلق بحالة الضعف وعدم الفاعلية والتلاشي التام من مشهد الأحداث في اليمن، رغم أن المرحلة التي يمر بها اليمن، الموصوفة باستراتيجية "إدارة التوحش"، من ظروف الحرب والفلتان الأمني والفراغ السياسي الكبيرين. وكان هذا الوضع سيوفر فرصة كبيرة لتمدد التنظيم وإثبات وجوده على الساحة اليمنية فاعلا رئيسيا.
ولكن كل هذه الأحداث تؤكد أن ظاهرة "القاعدة" إعلامية هلامية الشكل والمضمون، ولا تعدو أن تكون ورقة تستخدمها من حين إلى آخر وتوظفها قوى وأطراف دولية وإقليمية ومحلية أيضا، تجد في ظاهرة الإرهاب ضالتها المفقودة غطاء لأجندتها ولتمرير مصالحها التي تتكشف اليوم مع أفول شماعة الإرهاب القاعدي في اليمن، والتي دأب الجميع على رفعها.
* نبيل البكيري باحث وصحافي يمني، رئيس تحرير دورية "مقاربات".
المصدر | العربي الجديد