الأطراف الصناعية لجرحى الحرب

الأطراف الاصطناعية: قصة من قلب مأساة الحرب في اليمن

ما زال مُحمّد شُعيب (37 سنة) يتردد بعكازيه على مركز الأطراف الاصطناعية والعلاج الطبيعي في صنعاء للحصول على ساقٍ اصطناعي تحل محل نصف ساقه التي التهمتها قذيفة هاون باغتته وهو يعمل في مزرعته في محافظة الحديدة (غربي اليمن) قبل ستة شهور.

 

كان مُحمّد يقف بساقٍ واحدة متكئاً على الجدار بجانب النافذة في إحدى صالات المركز الحكومي الوحيد الذي يقدّم خدمات العلاج الطبيعي والأطراف الاصطناعية في صنعاء، كان يشاهد، بعينين أنهكهما الحزن، من سبقه في تركيب ساق اصطناعي، وهو يمشي ببطء على الممر بين السواند الحديدية للتأكد من مطابقة الطرف الاصطناعي لمقاسه وملاحظة مدى انسجام حركته.

 

لم يتوقع مُحمّد، وهو شاب في منتصف عمره، أنه سيصبح عاجزاً، وسيمضي بقية حياته بطرفٍ اصطناعي لا يريد منه سوى أن يمشي بسلام ارتضاه كتحصيل حاصل، أما ما دون ذلك فقد سلبت منه قذيفة الهاون كل شيء! لقد صار بسببها رجلاً بلا قدرة وشاباً بلا حلم.

 

يتحدث عن حالته بقلبٍ غلبته الحرب: "لم أعد قادراً على أي عمل، لم أعد صالحاً لشيء". ومثل مُحمّد عشرات الحالات يستقبلها يومياً هذا المركز التابع لوزارة الصحة في صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة (الحوثيين).

 

لكل حالة هنا قصة تمثل سطراً في مأساة بلد تنهشها حرب قذرة وحصار جائر من الشقيقة الكبرى (السعودية). فهذا مُحمّد علي عباس (54 سنة) عاد من الجبهة بساقيه، لكن الخدمات الصحية المتردية في المرافق الطبية في صنعاء لم تستطع مواجهة جرح بسيط في إحدى أصابع قدمه كمريض سكري، ما وصل به الحال إلى الخضوع لعشر عمليات واحدة تلو الأخرى، بدأت ببتر أصبع وانتهت ببتر الساق من أعلى الركبة. كان عباس يتحدث عن حالته، وهو يتدرب على المشي بساق اصطناعية، لكن قهر الرجل كان يتدفق من صدره زفرات، كان يتحدث قليلاً ويصمت معاوداً النظر صوب ساقه التي استبدلها بطرفٍ اصطناعي، "أنا طبيب وخذلني الأطباء، وتسبب غياب النظافة في المستشفيات في أن فقدت ساقي. وصلتُ إلى حال قلت بنفسي للطبيب: ابتر ساقي لم أعد احتمل الألم!".

 

وتمثل الحالات التي ترتاد هذا المركز للحصول على أطراف اصطناعية نسبة لا بأس بها من مجمل الحالات اليومية، وحسب إحصاءات مركز صنعاء فقد وصل عدد حالات إصابات الأطراف التي وردت هذا المركز فقط خلال سني هذه الحرب حتى عام 2019م نحو 3091 حالة رجالية و383 حالة أطراف نساء. ومن أجل مواجهة تزايد عدد الحالات المترددة على المركز يعمل قسم الأطراف الاصطناعية صباحاً ومساء “نواجه تزايداً كبيراً في عدد الحالات، لدرجة صرنا نأخذ المقاسات يومياً بعدما كنا نأخذها أسبوعياً. تأتينا الحالات من جميع المحافظات بأعداد لم يعهدها المركز”. يقول رئيس القسم مُحمّد البحري لـ “القدس العربي”.

 

على ما في الصور من قراءة مؤلمة إلا أن إحصاءات هذا المركز قد لا تمثل مجمل الواقع، على اعتبار أن ثمة مراكز حكومية مماثلة في عدن والمكلا وتعز والحديدة بالإضافة إلى مراكز غير حكومية استغلت وضع الحرب فاستثمرت في تجارة الأطراف الاصطناعية.

 

لقد تسببت الحرب المستعرة هناك في تدهور الأحوال المعيشية وتراجع الخدمات الصحية التي بدورها ضاعفت من معاناة الناس كنتائج غير مباشرة للحرب ما تسبب في تزايد إصابات الجلطات الدماغية والشلل وشلل الأطفال وحوادث السيارات وإطلاق النار والضمور الدماغي وغيرها من الإصابات الناتجة مباشرة عن الحرب، والمتمثلة في ضحايا المواجهات والغارات الجوية.

 

الأطفال

 

على صعيد الأطفال تكشف إحصاءات الحالات تزايدا مخيفا في حالات شلل الأطفال خلال الحرب جراء التردي الناتج عنها، فبعدما كان اليمن أعلن قبل الحرب خلوه تماماً من فيروس شلل الأطفال، يكفي أن نعرف إنه وردت للمركز خلال عام 2019 657 حالة شلل أطفال، إما حالات الضمور الدماغي لدى الأطفال فوصل منها للمركز خلال العام نفسه أكثر من ألفى حالة. تلك، فقط، من أمكنها الوصول لهذا المركز.

 

كانت فاطمة ابنة الأربع سنوات تتحدث لدميتها في ساحة المركز، وهي تمسك بيد والدها وتمشي ببطء، حيث كانت ترتدي جهازاً تعويضياً في ساقها اليمين يساعدها على المشي مع تقويم وضع عمودها الفقري. يقول والدها: "أصيبت بالشلل عقب ولادتها، ولم نستطع الوصول إلى مركز الأطراف إلا قبل أيام، وسنغادر اليوم للقرية".

 

 أرقام

 

وفق إحصاءات رسمية، فقد استقبل المركز خلال سني الحرب منذ 2015 حتى 2019 تسعة وثمانين ألفاً وتسعمئة وعشرين حالة، منها أربعة آلاف ومئتين وتسعة وثلاثين ناتجة عن الحرب بشكل مباشر بما فيها 166 حالة ناتجة عن انفجار و525 حالة ناتجة عن انفجار صاروخي بالإضافة إلى 928 حالة ناتجة عن الغام أرضية بالإضافة إلى حالات أخرى نتجت، كما سبقت الإشارة، عن تدني الأوضاع المعيشية والخدمية جراء الحرب، فاستقبل المركز من ضحايا الجلطات الدماغية مثلا 4679 حالة. هذه الأرقام هي الحالات التي وصلت هذا المركز في صنعاء فقط.

 

في كل سنة من سني الحرب يزداد عدد الحالات التي ارتادت المركز مقارنة بالسنة السابقةـ ففيما استقبل عام 2015 ما مجموعه 14492 حالة وصل عدد الحالات في عام 2019 إلى 21242.

 

يأتي هذا الوضع في ظل إمكانات محدودة يعتمد عليها المركز، وخاصة مستلزمات الأطراف والأجهزة التعويضية والعلاج الطبيعي. يقول مدير المركز مُحمّد علي الأعوج لـ"القدس العربي" إن "أجهزة العلاج الطبيعي في المركز انتهى عمرها الافتراضي، لكنها ما زالت تعمل بكامل طاقتها صباحاً ومساءً، إلا أنها مهددة بالتوقف في أي وقت في حال عدم توفير أجهزة بجانيها أو بديل عنها".

 

وأضاف: "يستقبل المركز كافة مخرجات مشاكل الحرب من جميع المحافظات بما فاق طاقته الاستيعابية، لقد صار المركز يستقبل خلال الحرب أكثر مما كان يستقبله قبلها بنسبة 150 في المئة ما اضطرنا للعمل بنظام ورديتين صباحية ومسائية". موضحاً: "يقدم المركز خدماته برسوم شبه مجانية وكثير منها حالات مجانية". ونوه الأعوج بدعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في توفير بعض مستلزمات عمل المركز، معتبراً ذلك الدعم “يسهم في مواجهة بعض التحديات في ظل الحصار المفروض على البلاد” مشيراً إلى تكفل وزارة الصحة في صنعاء بحقوق العاملين الشهرية ما مكن المركز من القيام بمهامه على حد قوله.

 

مأساة الحرب والحصار في اليمن لها وجوه كثيرة. فها هي شابة عشرينية تجلس على كرسي متحرك أمام بوابة المركز، ويبدو أنها أنهت جلسة علاج طبيعي وتنتظر أن يأتي مرافقها بالسيارة. الصورة تنضح ألما، صورة بلد ينزف في كل جزء منه.

 

حالات كثيرة في اليمن أفقدتها الحرب أطرافها أو عطلت قدرة أطرافها على الحركة، وهي بذلك تضيف أعباءً جديدة على المستقبل، فتحت سماء هذا البلد قدرات بشرية كثيرة تتعطل كل يوم ومعها مؤشرات إعاقة تتصاعد كل ساعة. الحرب وحصار التحالف ما زالا يستنزفان قدرات من بقي من اليمنيين أحياء، بينما العالم كأنه أعمى وأصم لا يرى النزيف ولا يسمع الأنين في هذا البلد القصي!.