كورونا

اليمن وفيروس كورونا!

شهرين من تسجيل أول حالة وفاة بسبب فيروس كورونا في الصين في 11 يناير 2020، أصبح كورونا هو حديث العالم اليوم وتسارعت الأحداث في الدول المختلفة واتخذت كل دولة منهجاً مختلفاً في مواجهة الفيروس. ورغم عدم الإعلان رسمياً عن أي حالات إصابة بالفيروس في اليمن حتى اليوم إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالمنشورات حول الفيروس سواء للتوعية أو لمطالبة السلطات باتخاذ إجراءات لمنع وصول وانتشار الفيروس في اليمن. وبالفعل اتخذت بعض الخطوات من قبل السلطات المختلفة ولا زالت النقاشات قائمة حول الإجراءات الممكنة.

 

وأود في هذا المنشور التفريق بين مستويين من الاستجابة لهذه الجائحة العالمية (بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية)، فهناك الاستجابة على المستوى الشخصي حيث يمكن لكل فرد أن يلعب دوراً في مواجهة الفيروس وحماية نفسه وأسرته ومحيطه عبر التأكد من اتباع الإرشادات التوعوية في غسل اليدين المتكرر بالماء والصابون وغيرها من الإجراءات، وسأشارك في منشور منفصل بعض هذه الإرشادات. وهناك الاستجابة الحكومية على مستوى السياسات العامة وتنفيذها وهذا ما أريد التركيز عليه في هذا المنشور. سأستعرض أنواع الاستجابات الحكومية حول العالم والإطار النظري الذي بنيت عليه هذه الاستجابات، وأقارن وضع اليمن الحالي مع تحديد أهم الجوانب التي يجب أن تراعيها أي إجراءات حكومية.

 

بشكل عام فإن الاستجابات الحكومية حول العالم تحاول الموازنة بين جانبين: الجانب الأول هو كيفية المحافظة على النظام الصحي في البلد من الانهيار بسبب الضغط الكبير عليه من حالات الإصابة بالفيروس وبالذات لمن تظهر لديهم أعراض حادة وهم في الأغلب من كبار السن أو ممن لديهم مشاكل صحية أخرى، أما الجانب الثاني فهو الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لأي إجراءات تتخذ من أجل السيطرة على انتشار الفيروس. طبعاً في جميع الدول توعية المواطنين هو من المسلمات ولا يوجد هناك خلاف حول ذلك وهو أبسط ما يجب على أي حكومة عمله. أما من بعد التوعية فتبدأ القرارات الصعبة.

 

بما أن الفيروس ينتقل باختلاط البشر فالقرار الأسهل هو إيقاف هذا الاختلاط عن طريق الإغلاق الكامل (lockdown) وهو ما عملته الصين عند انتشار الفيروس وكذلك ما عملته إيطاليا بعد فترة من انتشاره وكذلك بعض الدول الأخرى، وهنا قامت هذه الدول بإغلاق المنافذ ومنع الدخول والخروج للبلد (أو للإقليم الذي انتشر فيه الفيروس) وإقفال المدارس والجامعات ومنع التجمعات وفي كثير من الحالات حتى منع الخروج من البيوت. 

 

بالطبع يتطلب مثل هذا القرار قدرات كبيرة على التنفيذ وموارد هائلة ولكنني قلت أن هذا القرار سهل لسببين: أولاً لأنه يستجيب لمخاوف الناس وبالتالي من السهل على السياسيين اتخاذه لأنه سيأتي على هوى الكثير من المواطنين (أي أنه قرار شعبوي) حيث سيشعر الناس أن حكومتهم تعمل شيء من أجل حمايتهم وكذلك يقارنوها بما تفعله الدول الأخرى وبالتالي هناك ارتياح عند اتخاذ أي حكومة مثل هذا القرار بينما إذا لم تفعله يقارنوها بالحكومات الأخرى ويعتقدوا أنها تفشل في حمايتهم، السبب الثاني لأنه مثل هذا القرار لا يحتاج إلى تفكير أعمق في أي خطوات أكثر دقة أو في توقيت الخطوات المختلفة وتأثير كل خطوة على مدى انتشار الفيروس...إلخ حيث أن هذا القرار يذهب إلى الحد الأقصى من أجل الجانب الأول الذي تحدثت عنه في الأعلى وهو المحافظة على النظام الصحي في البلد من الانهيار وبالتالي ضمان القدرة على معالجة أي حالات إصابة ذات أعراض حادة، بغض النظر عن الجانب الثاني وهو الكلفة الاقتصادية والاجتماعية. 

 

طبعاً مثل هذا القرار تكلفة باهظة جداً من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس من الواضح بعد ما إذا كان العزل الكامل للمجتمع لأسابيع سيضمن عدم انتشار الفيروس من جديد بعد رفع الحظر، أو عودة الفيروس للانتشار من جديد في موسم الشتاء القادم.

 

التوجه الثاني في مواجهة الفيروس تتخذه إلى الآن عدد من الدول على رأسها بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، وسأعرض مثال بريطانيا حيث أنه الأكثر وضوحاً وتفصيلاً للناس. تقول بريطانيا انها تعتمد في أسلوب مواجهتها للفيروس على فريق عريض من العلماء من مجالات مختلفة مثل الطب والأحياء و علم السلوك وعلم نمذجة وتحليل البيانات...إلخ. وبناء على النصائح العلمية ترى بريطانيا أن العزل أو الحظر الكامل للمجتمع غير فعال، حيث أن قدرة المجتمع على تحمل مثل هذه الإجراءات لن يدوم لأكثر من أسابيع معدودة، ولن يمنع هذا العزل الكامل الفيروس من الانتشار بعد انتهاء العزل أو في الشتاء القادم، ومن ناحية أخرى فإن تحليل التكلفة الكلية الاقتصادية والاجتماعية في مقابل الفوائد لمثل هذا القرار يظهر عدم فاعليته. 

 

وبالتالي أعلنت بريطانيا هدفين تطمح لتحقيقهما في استجابتها للفيروس: الأول أن تخفف ذروة انتشار الفيروس بحيث ينتشر الفيروس على مدى فترة أطول مما يسمح للنظام الصحي من استيعاب أي حالات إصابة (يمكن الاطلاع على الرسم البياني المرفق والمأخوذ من حساب الدكتور مشهور الحنتوشي لتبسيط هذا المفهوم)، والهدف الثاني هو حماية كبار السن ومن لديهم مشاكل صحية مزمنة أثناء انتشار الفيروس. كما تحدث المستشارين العلميين أنهم يعتمدون نظرية "المناعة الجماعية" (Herd Immunity) وهي أن إصابة نحو 60٪ من المجتمع كافي لإحداث مناعة جماعية تكفي لإيقاف سلسلة انتقال العدوى من شخص لآخر، مع التشديد على نقطة مهمة وهي أن الأغلبية العظمى من الحالات المصابة بالفيروس تتعرض فقط لأعراض خفيفة وغير خطيرة إطلاقا. 

 

وبناء على هذه الأهداف وهذا التوجه تستمر الحكومة البريطانية حاليا في التوعية، وانتقلت قبل يومين إلى نصيحة أي شخص لديه أعراض مثل الكحة أو ارتفاع الحرارة للبقاء في البيت لمدة 7 أيام، بينما أبقت على المدارس والجامعات مفتوحة ولم تتخذ أي إجراءات منع للسفر، وأعلنت بريطانيا أنها ستتدرج في الخطوات حيث أن الأهم هو توقيت اتخاذ كل خطوة وبالتالي فهم مستمرين في الرقابة وجمع البيانات وتحليلها وستتوالى القرارات التدرجية خلال الأسابيع القادمة.

 

بعد هذه النبذة عن التوجهات المختلفة حول العالم دعونا ننتقل إلى اليمن. سنستخدم نفس المؤشرين في تحليل الوضع في اليمن والخطوات الممكنة وهي: وضع النظام الصحي والتكلفة الكلية الاقتصادية والاجتماعية لأي خطوات. بداية من النظام الصحي فمع الحرب الحالية كما يعلم الجميع فإن النظام الصحي للأسف يتأرجح على شفى الانهيار الكامل، ولنا تجربة مريرة منذ 2017 في انتشار الكوليرا وعدم قدرة النظام الصحي العام على الاستجابة لهذا الوباء، وتوجيه المنظمات الدولية موارد هائلة للسيطرة على انتشاره (مع وجود الكثير من الملاحظات حول كفاءة وفاعلية هذه المساعدات). 

 

وبالتالي فإن نقطة البداية للنظام الصحي في اليمن متدنية للغاية إن لم نقل منهارة، وغير قادرة على تقديم الخدمات الصحية في الحالات الطبيعية، ومن السهل الافتراض أنها عاجزة تماماً عن مواجهة انتشار أي وباء جديد مثل فيروس كورونا. وبالنظر إلى الضعف الحكومي الشديد في هذه الفترة فلا يمكن أن نتوقع الكثير من الحكومة في تعزيز النظام الصحي أو بناء قدرته بشكل سريع للغاية لمواجهة انتشار الفيروس. وننتقل هنا إلى خطوات المواجهة فقد انتشرت العديد من الدعوات لإغلاق المطارات والمنافذ البرية.

 

وفيما أن هذا الإجراء بالتأكيد سيمنع انتقال الفيروس من خارج اليمن (على افتراض أنه لم ينتقل لليمن بعد وهي فرضية صعبة الترجيح) إلا أن السؤال الأهم هو الإغلاق إلى متى؟ إذا كان الإغلاق لمدة محدودة في انتظار خطوة أخرى تتبعها (مثلا توفير معدات الفحص وإجراءات الحجر...إلخ) فهذا ممكن، أما إذا كان الإغلاق فقط للحماية من انتقال الفيروس فهذا يفتح تساؤلات كبيرة لمدة كم سيستمر الإغلاق وكيف ستتعامل الحكومة مع الرعايا اليمنيين العالقين في الخارج وبالذات من ليست لديهم القدرة على تغطية مصاريف إقامتهم في الخارج لفترة طويلة (كما هو حال الكثير من المسافرين اليمنيين إلى مصر مثلاً) وكذلك ما هي تكلفة منع السفر على المجتمع ككل وبالذات منع حالات المرض التي تتطلب السفر...إلخ. 

 

إذا فإن إغلاق المطارات والمنافذ البرية قرار يستوجب الكثير من التحليل لاستيعاب جميع تبعات هذا القرار وموازنة ذلك مع الفائدة النظرية المرجوة من القرار.

 

وفي درجة أقل من الإغلاق يأتي قرار فحص المسافرين القادمين من الخارج، وهنا يطرح تساؤلين مهمين الأول هو مدى توفر أجهزة الفحص الحديثة في اليمن والتي تعاني حتى الدول المتقدمة من نقصها، والتساؤل الثاني حول مدى قدرة السلطات على عمل شيء لمن يثبت الفحص إصابته بأعراض الفيروس. فهل السلطات قادرة على تقديم خدمات الحجر الصحي؟ وهل السلطات قادرة على مراقبة وإنفاذ الحجر المنزلي؟

 

وفي جانب آخر يأتي قرار إغلاق المدارس والجامعات، وهو ما يبدو أن السلطات في صنعاء على الأقل قد اتخذته عبر تقديم موعد الاختبارات للمدارس إلى 21 مارس. ورغم أن مثل هذا القرار كما ذكرت سابقا قد يلقى ارتياحا لدى المواطنين المرعوبين من أخبار انتشار كورونا فهو يستجيب للمخاوف لدى الناس، إلا أنه لم تثبت أي دراسات أن مثل هذا القرار له تأثير كبير على منع انتشار الفيروس. مثلا في بريطانيا تقدر الدراسات العلمية أن إغلاق المدارس قد يؤخر ذروة انتشار الفيروس لمدة يومين. كما أن الأطفال وصغار السن هم أقل المجموعات العمرية عرضة للأعراض الحادة من الفيروس.

 

أما قرار إغلاق الأعمال والمكاتب والمصانع أو الطلب من الموظفين العمل من البيوت فلا أعتقد أنه يمكن اتخاذه في اليمن في ظل النشاط الاقتصادي المحدود للغاية بسبب الحرب فإن إغلاق الفرص القليلة جداً لكسب الرزق لا يمكن أن يكون له فائدة تبرر اتخاذ مثل هذا القرار.

 

هناك أسئلة أكثر من الإجابات وذلك في ظل غياب البيانات (لدي على الأقل) التي ربما تتوفر لدى السلطات المختلفة في اليمن (ولا أعتقد ذلك)، ولكن الأكيد أن الخيار الأمثل للمواطنين يظل في اتباع إرشادات الوقاية أما من الجانب الحكومي فالواقع يقول أنه بدون استجابة واسعة من المجتمع الدولي يتم التنسيق لها بكفاءة من قبل الجانب الحكومي والتنسيق بين سلطات صنعاء وعدن، فإن هناك القليل جدا الذي يمكن عمله في ظل الانهيار الحاصل وفي ظل الحاجة إلى استجابة سريعة جداً لا يمكن أن تتوفر للسلطات في ظل الظروف الراهنة.

 

نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ونعوذ به من شر ما خلق وندعو الله أن يجنب اليمن واليمنيين من كل شر.

 

* نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.

 

* رأفت الأكحلي ناشط يمني، وعمل سابقا وزيرا للشباب والرياضة في اليمن.