بشرى المقطري

صرخة في وجه الحرب… “ماذا تركت وراءك”؟

بلال قائد

كنت قد قرأت في فترة سابقة، مجموعة قصصية بعنوان “أقاصي الوجع”، للقاصة بشرى المقطري، ووجدتها مجموعة مختلفة تبشر بقاصة من الطراز الأول.
قاصة مشغولة بالهم الجمعي للمجتمع، لم تكرر ما هو مكرر. وفي رأيي كانت امتداداً للسرد الأنثوي، كما يقول أصحاب النقد. وهو ما انعكس على روايتها “خلف الشمس”، التي سارت فيها على منوال التجديد في السرد وفي اتباع أسلوبها الخاص.
ليأتي العام 2017م، وتصدر كتاباً بعنوان “ماذا تركت وراءك؟”، الذي تناولت فيه أكثر من 40 وجعاً حقيقياً وواقعياً من أوجاع ضحايا الحرب من كل الأطراف، بلغة أدبية مشبعة.
وبعد كل إصدار تثبت بشرى أنها كاتبة متدفقة مشعة عالية الحساسية في كل ما تكتبه.
في كتابها هذا تبين أنها تبرهن أن بذرتها مغروسة في هذه الأرض التي تآمر الجميع عليها، حتى أبناؤها.
وثّقت بشرى في هذه الصور الموجعة، الضحايا المنسيين في الحرب، وحاولت ألا تُنسى حكاياتهم وسط كل هذا الدمار، وألا يصيبها النسيان، وتواصلت مع جميع الضحايا الذين وثقت في الكتاب أوجاعهم. وفي حال تعثر التواصل مع بعضهم، تواصلت مع أقربائهم.
ولم تستثنِ الكاتبة أحداً في أي من المحافظات، ابتداءً من صنعاء، وانتهاءً بالمهرة، مروراً بصعدة وعدن وتعز وباقي المحافظات البلغ عددها 21 محافظة يمنية.
لقد وثقت الكاتبة، من وجهة نظر محايدة، جميع الانتهاكات التي طالت المدنيين. انتصرت على إنسانيتها العالية والمشحونة بالعاطفة الجياشة النابعة من الصدق والإحساس بها والامتلاء بوجعها.

توثيق الوجع الإنساني

“انفجار آخر، تذوب الشمعة وستنطفئ قريباً، لكن سيبقى أثرها على المنضدة، ليذكرني بأن شيئاً ما احترق هنا”، كما أوردت في الغلاف الأخير. فآثار الحرب لا تُمحى، يبقى أثرها في أرواحنا وذاكرتنا. تظل حية في ذاكرة من عاشها، “واكتوى بنارها، ونحن مازلنا نعيشها كل يوم، ولا ندري متى ستنتهي، ومتى سنكون قادرين على النسيان المستحيل! أشباح تسرع الخطى، ونيران تظهر من تحت الأرض، لا شمس تطلع عليهم، جثث أطفال ونساء بدون رؤوس، مقطعة الأوصال، متفحمة. حتى الجبال لم تسلم من الخوف. وخوف يصهر القلوب، قلوب الأطفال. الظلام المحيط يرفع منسوب الخطر. كل الأهداف تشابهت عليهم، لم يعودوا يفرقون بين قوارب صيد أو سفن حربية. تنهال قذائف، وصواريخ، السماء أصابها الجنون، تظهر عليها الخيوط البيضاء، لتظهر على الأرض حمم بركانية. تدركهم الصواريخ والقذائف وقنابل عنقودية محرمة دولياً تستخدم على المدنيين، تنخر أجسامهم حتى قبل أن يدرك الضحايا ذلك. مهما حاولوا أن يختبئوا، لا بحر ولا ملاجئ ولا شجر أو حفر! حتى بيوت الصفيح والقش لم تسلم، عن ماذا يبحثون فيها؟ وماذا يقصفون؟”.
إن الكتاب ينضح بأصوات الضحايا المبحوحة الباكية، والعيون الزائغة والنظرات التائهة. عندما تقرأ الكتاب يغزوك القهر وقلة الحيلة، وتشعر بأن جلدك يريد الانسلاخ من جسدك. تشم الأجساد المحترقة والروائح النتنة. أي صبر وجلَد في من يحكون! وأي قلب تملكه بشرى حتى تستطيع أن تسجل كل هذه الفظائع، وأن تحتمل قهر أكثر من 40 ضحية!
ابتعدت الكاتبة عن الجوانب السياسية التي لا تعني الضحايا في شيء، إلا أنها دونت التناقض الصارخ بين البؤس الذي عاناه المدنيون بسبب الحرب، وبين الثراء الذي ظهر عبر شراء الفيلات والأراضي، والمولات، والعمارات الشاهقة التي ترتفع خلال شهور معدودة، في حين يتقاتل الأطراف بالمدنيين، وتحويل أكثريتهم إلى ضحايا، إلى مجرد أرقام في سجلات المنظمات الدولية، ليتم مبادلتهم بالقليل من المبالغ المالية وأكياس من الدقيق وعلب الزيت.
كانت الحكايات الـ41 الموجودة بين دفتي الكتاب، تُحكى بلسان الضحايا، وتعيد صياغتها المؤلفة بلغة أقل ما يقال عنها أنها فاتنة، عميقة المعنى والمضمون، لامست فيها المشاعر، وحركت الضمائر الميتة في المتفرج الذي اعتاد على رؤية الموت في كل نظرة من نظراته. الموت الذي استقر في اليمن طوال 5 سنوات من الحرب. ورغم السواد الذي اتشح به كتابها، إلا أننا نستطيع أن نرى بصيص الأمل والمستقبل يخضرّ.

“حكايات بلغة الضحايا “

أبرزت في كل حكاية ما يميزها عن غيرها من حكايات، بلغة الضحايا أنفسهم وإحساسهم. قهرهم على أحبائهم، وعيونهم المنتفخة من البكاء، والقلوب التي تشققت من الحزن، والجدران التي لم تعد تستطيع أن تتحمل أكثر، فانهارت.
ما بين بداية الكتاب ونهايته، والتي أوردت فيها ببلوغرافيا مختصرة للضحايا، ابتداء من 26 مارس 2015م وحتى 29 سبتمبر 2017م، والتي حصرت فيها أكثر من 245 حادثة قصف بالطائرات والكاتيوشا وقذائف الهاون، وعددت فيها الضحايا من قتلى ومصابين ومعاقين بعاهاتٍ مستديمة.
يُصاب من يقرأ الكتاب بثقوبٍ كثيرة تتسلل منها كوابيس ونيران وخساراتٍ وبحرٌ أحمر اللون، وتتدلى منه أسماء الضحايا، والذين أصبحوا مجرد أرقام بعد أن تخلى الجميع عنهم.
الكتاب يُشهر إصبعاً في عيون القتلة وتجار الحرب والمنتفعين منها، والذين يختبئون خلف المدنيين، ويتاجرون بهم. وحتى لا يصيبنا التجاهل مثل كل مرة، فلتكن هذه الأصوات وأنين الضحايا ضد النسيان كذلك، وفي الأمل ألا يربح تجار الحروب المعركة، وأن دور الضحايا قادم للاقتصاص منهم.