محمد الأسعدي
استطاع العملاق الخفي “كورونا”، الذي يسببب مرص (COVID-19) خلال أقل من ثلاثة أشهر، أن يعصف بالكوكب الصاخب بالحياة وبات جلياً أن كوكب الأرض لن يعود كما كان عليه قبل 31 ديسمبر 2019، عشية اكتشاف أول حالة إصابة في ووهان الصينية.
من منا خطر على باله أن يعيش ما يحدث اليوم في العالم من دهشة واثارة وترقب واغلاق شبه تام ممزوج بالقلق والهلع والرعب؟ هل ستصدق لو أخبرك أحد عن شبه توقف للحياة في مختلف القطاعات والمجالات في أرجاء المعمورة في ظل كل هذا التقدم التقني والفني والمعرفي. لم يخطر ببال أحد أن ينعزل العالم في غرف صغيرة، وتتعطل الحركة مع وجود كل وسائل الاتصال والمواصلات.
كتب لي صديقي الهولندي هان بلوم، الذي عمل وعاش في اليمن لسنوات قبل 2011، أنه مستغرب أن مدينة كـ أمستردام شبه خالية من السواح، وأن المطاعم والمقاهي وغيرها مغلقة في المدينة، قال لي بواقعيته الساخرة: “لقد واجهتم أنتم كل هذا في صنعاء، الفرق هو أننا لسنا بحاجة إلى النظر في السماء بحثاً عن الطائرات (الحربية)، وأيضاً لأنه لم يعد هناك أي طائرات (يقصد توقف أو تدني حركة الملاحة الجوية في هولندا).
الهولندي هان بلوم: لقد واجهتم كل هذا في صنعاء، الفرق أننا لسنا بحاجة للنظر في السماء بحثاً عن الطائرات
أما صديقي الإيطالي الصحفي في الصحيفة الشهيرة “لا ريبابليكا” والذي دفعت بلاده الفاتورة الأغلى على الإطلاق لـ “كورنا” – على الأقل حتى الآن – كتب لي ردًا على رسالة تضامن معه: “إنه أمرٌ صعبٌ، ولكنه يعلمنا شيئًا، يفهم أحدنا ما يمكن أن تكون عليه الإقامة الجبرية، كما حدث للفلسطينيين أو الشعوب الأخرى التي تعاني”.
غيرتَ يا “كورونا” نمط الحياة لمئات الملايين (ربما المليارات) من البشر وأغلقت عليهم أبواب بيوتهم وفرضت حجراً اختيارياً واضطرارياً على الناس في أصقاع الأرض، ألغيت المناسبات والطقوس الجماعية والهوايات والألعاب الرياضة والفنون التي اعتاد عليها البشر، لقد أقفلتَ الفضاءات الواسعة.
كورونا والاقتصاد
اصبتَ العالم في مقتل، وأتيتَ على الاقتصاد في أصعب نقاط ضعفه منذ الأزمة المالية عام 2008 بحسب بلمبورغ.
عصفتَ يا “كورونا” بالاقتصاد العالمي وألحقت به خسائر فوق ما يمكن توقعه، حيث توقّع خبراء وكالة بلومبرج أن يكون العام الحالي الأسوأ منذ الركود العالمي الذي بلغ ذروته في عام 2009، وأن يفقد الناتج العالمي حوالي 2.7 تريليون دولار بنهاية 2020، وذلك على فرض استعادة الاقتصاد العالمي عافيته بحلول الربع الأخير من نفس العام، وسيكون الوضع أكثر سوءاً في حال عدم تحقق تلك الفرضية، بحسب TRT عربي.. وهذا بنظري رقم متواضع – قياساً بخسائر الحكومات والشعوب والشركات العابرة للحدود والشركات الوسيطة وخسائر النفط وغيره من القطاعات المتضررة بشكل مباشر كقطاع الطيران والسفر والسياحة – وخسائر الفرص البديلة وتعطيل القوى العاملة والمنتجة عبر الإجراءات التحفظية وتخفيض ساعات العمل، حتى الخبراء لا يمكنهم حساب الخسائر بدقة مع استمرار تفشي الوباء بهذا الشكل المريع.
نائبة رئيس البنك الدولي لقطاع النمو المتكافئ والمالية والمؤسسات السيدة سييلا بازارباسيولو، تقول في مدونة لها على صفحة البنك الرسمية: “لا أحد يستطيع التنبؤ عن يقين بالأثر الاقتصادي الكامل لتفشي الفيروس، فالكثير منه يعتمد على معرفة ما هو مجهول- إلى متى ستستمر العدوى، وكم عدد البلدان التي ستبتلى بها، وما مدى استدامة وتضافر سياسات المواجهة المنسقة والسريعة التي يتم تبنيها”.
هل هذا يكفي؟
خصصت الصين مطلع فبراير 173 مليار دولار لمواجهة تداعيات الفيروس المستجد ووضعت الولايات المتحدة الأميركية خطة مواجهة بقيمة تريليون دولار لدعم الاقتصاد في مواجهة الوباء، والأرقام هذه قابلة للزيادة مع استمرار الفيروس.
أما الاتحاد الأوروبي فيواجه تحد وجودي يهدد الوحدة الاقتصادية بين دوله بسبب الجائحة و”الاغلاق المنظم” للحدود وخفض التبادل التجاري وحركة المسافرين للحد من انتشار الوباء، وأعلن المصرف المركزي الأوروبي عن حزمة من المساعدات المالية تبلغ قيمتها 750 مليار يورو بغرض التخفيف من وقع وباء فيروس كورونا المستجد، وقال المصرف إنه سيشتري ديون الحكومات والشركات في منطقة اليورو، بما فيها اليونان وإيطاليا.
في منطقة الخليج العربي (السعودية، الإمارات، الكويت وقطر) خصصت الدول بأرقام متفاوتة ما يزيد عن 62 مليار دولار لمواجهة الوباء وتداعياته.
الدول الفقيرة والأكثر فقراً
ولأن الدول الفقيرة لا يمكنها توفير هذه الأموال الطائلة لمواجهة الفيروس الخفي، رفع البنك الدولي المبلغ المخصص لمواجهة جائحة كورونا إلى 14 مليار دولار يوم 17 مارس، بعد أن خصص 6 مليارات فقط يوم 3 مارس – كدليل على حجم الكارثة وأهمية مواكبتها بهدف مساعدة الشركات والبلدان في جهودها للوقاية من فيروس كورونا (COVID-19) واكتشاف الإصابة به والتصدي لانتشاره السريع، وستُدعم حزمة التمويل النظم الوطنية للتأهب في مجال الصحة العامة، بما في ذلك احتواء تفشي المرض وتشخيصه ومعالجته.
أما صندوق النقد الدولي خصص مساعدات بقيمة 50 مليار دولار تقريبًا من خلال تسهيلاته التمويلية التي تتيح صرف الموارد على أساس عاجل في حالات الطوارئ للبلدان منخفضة الدخل وبلدان الأسواق الصاعدة التي يُحتمل أن تطلب الدعم في هذا السياق.
منظمة الصحة العالمية، البطل الجسور في مواجهة مد الفيروس والشائعات والتكهنات، وضعت خطة استجابة استراتيجية مطالبة بتمويل وموارد مقدارها 675 مليون دولار أمريكي، حتى اليوم حصلت المنظمة على 162.5 مليون دولار، ستتغير هذه الخطة والمبالغ المطلوبة أمام التفاقم السريع قبل منتصف أبريل القادم.
كورونا في الإعلام
لا يمكننا تقدير حجم وكلفة التغطية الإعلامية لأخبار “كورونا” على مدار الساعة على مختلف الوسائل والوسائط الإعلامية والإعلانية ومنصات التواصل الاجتماعي وشبكات الجوال والمطبوعات والمنشورات وغيرها من أعمال التوعية المبتكرة، فلو حسبنا على سبيل المثال لا الحصر، القناة الواحدة – كقناةMBC السعودية، حصدت ما يزيد عن 63 مليون دولار من إعلانات في رمضان 2018، ونحن نتحدث عن موسم “كورونا” الأكثر كثافة، وبكل اللغات وعلى مدار الساعة، فالمبالغ بعشرات إن لم يكن بمئات المليارات من الدولارات منذ انتشار الوباء حتى اللحظة.
أما عن محرك البحث الأشهر غوغل فإن كتبت Corona يمنحك ثلاثة مليار وخمسمائة وعشرة مليون نتيجة في نصف ثانية، بينما يعطيك ذات المحرك إن بحثت على الكلمة بالعربية “كورونا” 289 مليون نتيجة. وبالصينية المبسطة (新冠病毒) ترجمة من غوغل لكلمة Coronavirus يعطيك المحرك 246 مليون نتيجة في نصف ثانية تقريباً.
وهذه النتائج لا تستثني الكم الهائل من المعلومات والبيانات المضللة والشائعات والبطولات حول “كورونا” وهو ما يندرج ضمن ظاهرة “Infodemic” التضليل الإعلامي.
لنحترم السلطات ونمارس مسؤوليتنا الفردية والجماعية في مواجهة الوباء
هل نتعلم؟
إذن: هذا الفيروس جعل الدول المتقدمة والمتخلفة في ذات السياق من حيث الاستهداف والقدرة على الاختراق، سيكون الفارق بسرعة الاحتواء والقدرة على التعافي ليس للأشخاص فقط بل للاقتصادات والحياة كلياً، إذن: هي معركة، البشرية فيها في كفة والمرض في كفة أخرى.
كما أن حالة التحدي الوحشية التي فرضها الفيروس من تقليص استهلاك الوقود ووقف المصانع والمركبات والطائرات والسفن، أسهم بشكل ملموس وسريع بتنقية الكوكب، هناك فرق واضح لمسه الناس في المدن كثيفة السكان والحركة من نقاء مياه الأنهار ونظافة الجو، كالبندقية في إيطالياً.
يعلمنا الفيروس أن الاستثمار في العلم والبحوث والطب وتكنولوجيا استقراء المستقبل أفضل من الاستثمار في التسليح العسكري وأن الخطر الذي سيهدد الكوكب ليس من القنابل النووية، كما ألمح بيل غيتس في عرض لـ TED قبل هذه الكارثة الكونية، بل من كائنات مجهرية لا ترى بالعين المجردة.
كما أن هذا الفيروس الدقيق جعلنا ندرك ونثمن التفاصيل التي كانت مكتظة بها حيواتنا: العمل، الزملاء، السفر، اللقاءات الاجتماعية المختلفة، وهنا أتحدث عن الظروف الطبيعية وليس ظروف البلدان التي تعيش حروباً كـ: اليمن، ليبيا، سوريا وغيرها.
وأخيراً.. “كورونا” سيغير وجه العالم ولن يغادر الأرض إلا وقد رسم ملامح لعالم جديد ومختلف، ربما كلياً على ما نعرفه اليوم، لنحترم تعليمات السلطات حيثما نقيم ونمارس مسؤوليتنا الفردية والجماعية في مواجهة الوباء.
لنا إطلالة أخرى، وللجميع السلامة
المصدر | مقال خاص بـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم