عبرت نائب رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر "فريا راضي" عن أملها في العودة لليمن كسائحة، بعد أن قضت العامين الماضيين كعاملة في المجال الإنساني، مشيدة بقدرة النساء اليمنيات على الابتسام والاستمرار والبدء من جديد والكرم الذي لا ينضب.
وقالت فريا راضي "اليوم أنا أغادر اليمن وقلبي يكاد يُفطر على ما رأيته في مأرب، عملت على امتداد 17 عامًا في القطاع الإنساني، في مناطق نزاع مختلفة، وهناك ملمح مشترك بينها جميعًا: المدنيون هم دائمًا من يدفع الثمن الباهظ".
وأضافت في مقال رأي نشره الصليب الأحمر على موقعه باللغة الانجليزية وحصل المصدر أونلاين على ترجمته من اللجنة الدولية، أن نهاية مهمتها في اليمن تزامن مع مرور خمس سنوات على الحرب وجائحة كورونا.
وأكدت "راضي" أن صورة "الأوضاع الصحية في البلاد قاتمة بالفعل من دون هذا الخطر الإضافي".
وأشارت المواطنة الإيطالية المتخصصة في العلوم السياسية والدراسات الشرق أوسطية، إلى المآسي والمعاناة التي خلفتها المواجهات الأخيرة في محافظة الجوف، والتي تسببت في نزوح الأسر للمرة الثانية والثالثة، والصعوبات التي تواجه العاملين في المجال الإنساني جراء القتال وما يقدمونه من مساعدات بسيطة تساعد على استمرار الناس على قيد الحياة.
وأوضحت أن مأرب التي زارتها في مرحلتها الجامعية وهي قرية صغيرة، أصبحت اليوم مدينة "مزدهرة غنية بالنفط وتعج بالحركة التجارية، وبها كذلك أكثر من 90 مخيمًا تؤوي النازحين الذين شرّدهم النزاع".
وفيما يلي نص مقال موظفة الصليب الأحمر فريا راضي مع توطئة من البعثة:
على مدى العامين الماضيين أشرفت «فريا راضي» على برامج المساعدة التي تقدمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) في اليمن. والآن بعد انتهاء مهمتها، تعرب عن رغبتها في أن تُكتب لها فرصة العودة إلى اليمن يومًا، ولكن ليس كعاملة في المجال الإنساني.
اليمن:نزاع ومعاناة، وكرم لا ينضب
فريا راضي
كرم لا ينضب
تشعر أنك أصبحت من نسيج هذا البلد. الأمر يتعلق بالناس أكثر من أي شيء آخر هناك. ابتساماتهم، دموعهم، عزيمتهم التي لا تلين، وفوق هذا كله، سخاؤهم المثير للدهشة.
أذكر جيداً عندما دعتني امرأة ذات يوم إلى منزلها. غرفة واحدة ليس بها من أثاث سوى أربعة أو خمسة فُرُشٍ على الأرض. أرتني ذلك العدد الكبير من الأدوية التي تتناولها، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث.أعدت لنا كوبين من الشاي، بدأت أرتشف من كوبي وتنبهت بعد برهة أنها لم تأخذ رشفة من كوبها.
سألتها: "لماذا لا تشربين؟ أليس المفروض أن نشرب الشاي معًا؟"
ضحكت قائلة:"الكوب الثاني لك أيضًا. عليك أن تشربي الاثنين، فليس لديّ شيء آخر أقدمه لك". بالفعل، لم يكن لديها أي شيء، ومع ذلك جادت بكل ما تستطيع.
تزامن موعد انتهاء مهمتي في اليمن مع ذكرى مرور خمس سنوات على اندلاع النزاع هناك. وتزامن أيضًا مع حلول شبح تهديد جديد، ذلك هو فيروس كورونا.
لقد لاقى اليمنيون أطنانًا من المعاناة على مدى السنوات الخمس الماضية، وفي بلد لا يعمل به سوى نصف المرافق الصحية تقريبًا، سيفرض خطر فيروس كورونا تحديات هائلة في عموم اليمن.
هناك مستويات مختلفة من الضعف في كل مكان في العالم، ولكن في اليمن هناك نزاع دائر، وهناك أناس نازحون وجرحى، ومن لا يستطيعون الحصول على الغذاء والخدمات الأساسية إلا بشقّ الأنفس.
لا بد من وضع جميع التدابير اللازمة لمنع انتشار الفيروس في البلاد. فالصورة الماثلة للأوضاع الصحية هناك قاتمة بالفعل من دون هذا الخطر الإضافي.
التفاوض من أجل الوصول
حين بدأت مهمتي مع اللجنة الدولية قبل عامين، لم ألبث كثيرًا حتى اعتدت الاستيقاظ صباحًا على دويّ الانفجارات، ولم يكن دويّ الانفجارات يتوقف في وقت الظهيرة، ولا حتى في المساء.
بسبب انعدام الأمن، يصبح وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين أمرًا في غاية الصعوبة. ومع ذلك نحن لا ننفك نحاول الاستجابة لحالات الطوارئ في المناطق القريبة لخطوط المواجهة، لنقدم مساعدات يستفيد منها الناس على المديين القصير والطويل.
غير أن التفاوض مع أطراف النزاع المختلفة من أجل إيصال المساعدات الإنسانية يمثل تحديًا ويستهلك كثيرًا من الوقت. كانت ترِدني أحيانًا اتصالات هاتفية في منتصف الليل، من أطراف نحن على صلة بهم، يتحققون من كون الشاحنات المارة عبر أحد حواجز التفتيش تابعةً للجنة الدولية، أو تحذرنا من مشاكل أمنية محتملة.
لم يكن النجاح حليفنا دائمًا. ففي محافظة الجوف، أدى احتدام الاشتباكات في الآونة الأخيرة إلى إعاقة جهود الغوث؛ فلم تتمكن سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر اليمني من إجراء إجلاء طبي بسبب انعدام الوصول الآمن. وللسبب ذاته، لم نستطع تزويد مستشفى الجوف العام بالإمدادات الجراحية والطبية.
لا يمكن إغفال المرأة
قبل بضعة أسابيع تمكنّا من الوصول إلى مدينة مأرب، التي تبعد نحو 100 ميل شرق العاصمة صنعاء. شهدت المدينة تدفقًا للنازحين خلال الأسابيع الأخيرة من جرّاء تصاعد حدة القتال في المنطقة المجاورة.
أتذكر مأرب منذ كنت في اليمن في تسعينيات القرن الماضي، في إطار برنامجي الدراسي في مجال الدراسات الشرق أوسطية. كانت مأرب حينئذٍ قرية صغيرة، واليوم هي مدينة مزدهرة غنية بالنفط وتعج بالحركة التجارية، وبها كذلك أكثر من 90 مخيمًا يأوي النازحين الذين شرّدهم النزاع. ولقد وزّعنا بالتعاون مع الهلال الأحمر اليمني مواد غذائية وإغاثية على قرابة 70,000 شخص.
التقيت في أحد المخيمات طفلًا طلب مني أن أرافقه إلى منزله، لم يكن ذلك المنزل سوى خيمة. خيمة تكدست فيها خمس أسر، كل أسرة بأطفالها.
جلست وتحدثت إلى النساء. قد لا يكون حضور النساء ظاهرًا بدرجة ملحوظة في المجتمع اليمني، ولكن آراءهنّ مهمة ويجب عدم إغفالهنّ، إذ أنهن يحملن على أكتافهن وفي قلوبهن أعباء أسرهنّ والوضع المأساوي للبلاد.
ولقد أفضَين إليّ بقصصهنّ. وصلت جميعهنّ خلال الـ 48 ساعة الماضية، وهن نزحن مرتين أو ثلاث مرات بسبب النزاع.
في كل مرة ينزح الناس يفقدون ممتلكاتهم ويزداد ضعفهم. إحدى الأسر التي تحدثتُ إليها موطنها الحُديدة، التي تبعد نحو 300 كيلومترعن مأرب. انتقلت هذه الأسرة من الحُديدة إلى حَجّة، ومن حَجّة إلى الجوف، ثم من الجوف إلى مأرب.
لم يحملوا معهم من حياتهم السابقة سوى متعلقات بسيطة، وذكرى باتت بعيدة. ليس لديهم أي وسائل تعينهم على إعادة بناء حياتهم.ومع هذا كله، لا يزالون قادرين على الابتسام، ولا يزالون يجدون بعض مظاهر الحياة الطبيعية في الوضع الذي يعيشونه.
"لا أستطيع تخيّل كيف لي أن أبدأ حياة جديدة إذا فقدت كل شيء؛ كيف ستكون لدي قدرة على أن أجوب البلاد من شرقها إلى غربها، لا يكاد يستقر بي المقام في مكان حتى أرتحل إلى غيره كي أتجنب جحيم خطوط المواجهة التي لا تلبث تتغير، كيف ستجد الابتسامة طريقها إلى شفتيّ؟" تقول لي إحدى النساء اللواتي التقيت.
إلى اللقاء
اليوم أنا أغادر اليمن وقلبي يكاد يُفطر على ما رأيته في مأرب. عملت، على امتداد 17 عامًا في القطاع الإنساني، في مناطق نزاع مختلفة، وهناك ملمح مشترك بينها جميعًا: المدنيون هم دائمًا من يدفع الثمن الباهظ.
اليمنيون يتوقون إلى السلام، أكثر من أي شيء آخر. وأنا أتوق إلى أن أعود إلى اليمن، ليس وأنا أضع زيّ العاملة في المجال الإنساني، وإنما أتمنى أن يأتي يوم أعود فيه إليه سائحةً، وأن أشرب الشاي مع اليمنيين عندما يعود اليمن سعيدًا كما كان.