مع حلول الذكرى الخامسة لانطلاق عمليات التحالف العربي، لدعم الحكومة الشرعية اليمنية، في مواجهة انقلاب جماعة (الحوثيين) على السلطة، تتعمق على المستويين الشعبي والرسمي في اليمن نظرة مغايرة لأهداف التحالف العربي المعلنة، خاصة الإمارات، التي رغم سحب قواتها من التحالف، لا تزال تتمتع بنفوذ واسع عبر “ميليشياتها”.
فجر 26 مارس/آذار 2015، أعلنت السعودية، قائدة التحالف، انطلاق عملية عسكرية واسعة في اليمن، باسم “عاصفة الحزم”، بمشاركة 10 دول عربية، لإنهاء “انقلاب” الحوثيين، واستعادة اليمن من قبضة إيران، الداعمة لهم.
كان الحوثيون قد سيطروا على العاصمة صنعاء، وأحكموا سيطرتهم على الجيش ومؤسسات الدولة فيها، مستفيدين من دعم لوجستي كبير قدمه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وقد كان آنذاك صاحب نفوذ واسع داخل الجيش والمخابرات، رغم مغادرته السلطة.
مع دخول الحرب عامها السادس، فإن اليمنيين أقل ثقة بالتحالف، فالمعركة وفق خبراء لم تُحدث تغييراً جوهرياً في معادلة الصراع، والحكومة لا تزال حبيسة المنافي.
أما الحوثيون فرغم تلقيهم “ضربات مؤلمة”، فإنهم لا يزالون يهاجمون في مدن مختلفة من اليمن، في ظل استياء متصاعد من دور التحالف، واتهامه بالانحرف عن مهمته الأساسية المعلنة، نحو أهداف ومسارات أخرى سرية.
ويتكشف ذلك أكثر من خلال الدور الإماراتي، الذي اتجه نحو السيطرة على الموانئ والجزر اليمنية، إضافة إلى إنشاء وتشكيل ميليشيات خارج إطار الدولة اليمنية، ونقل الصراع إلى داخل المحافظات المحررة.
موقع استراتيجي
يتمتع اليمن بموقع جغرافي جعله يحتل أهمية استراتيجية على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، فهو يطل على “باب المندب”، الممر المائي الأكثر أهمية في العالم، والرابط بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.
كما يتحكم اليمن بخطوط الملاحة البحرية المؤدية إلى آسيا، إضافة إلى ما يمتلكه من جزر استراتيجية جنوب البحر الأحمر، تتيح التحكم بالمنفذ الوحيد للبحر تجارياً وعسكرياً.
تحرير أم استيلاء؟
مثّل نهار 13 يوليو/ تموز 2015، نقطة تحول مهمة في مسار الحرب، بإعلان التحالف عملية عسكرية واسعة لاستعادة مدينة عدن (جنوب) من الحوثيين.
وتمكّن آلاف المقاتلين (موالين للحكومة)، بعد ساعات قليلة، من استعادة مطار عدن الدولي وأحياء واسعة من المدينة، مسنودين بدعم جوي وبحري من التحالف. وبعد أسبوع، أصبحت عدن في قبضة “المقاومة والتحالف”.
رغم أن هذه الخطوة كان يُفترض أن تشكل نقطة تحول نحو عودة السلطة الشرعية، وتثبيت وجودها على الأرض، كما هو معلن في أجندة التحالف، إلا أن ذلك بدا “شيئاً بعيد المنال”.
فالقوات الإماراتية وضعت أقدامها على عدن، وشرعت عبر مقاتلين موالين لها (خليط من السلفيين وعناصر الحراك الجنوبي الانفصالي) في التغلغل داخل المدينة، وبناء نفوذ موازٍ، بعيداً عن سلطات الدولة.
وفي مارس/آذار 2016، شكّلت الإمارات قوات “الحزام الأمني” بعشرة آلاف مقاتل، دون تنسيق مع وزارة الداخلية اليمنية.
ورغم أن هذه القوات تأسست في عدن، فإنها توسعت لاحقاً، لتشمل محافظات أخرى، بينها لحج والضالع وأبين (جنوب).
وعملت أبوظبي على تدريب وتسليح هذه القوات، وزوّدتها بأحدث الأسلحة والعتاد، وأشرفت على توزيعها وانتشارها في مطار عدن وموانئها، كما منحتها صلاحيات “الإدارة المطلقة” لمداخل المدينة.
منذ ذلك الحين تسيطر هذه القوات على عدن، وتواجه اتهامات بالضلوع في أعمال قتل واغتيالات شملت مئات من رجال الدين وقادة المقاومة الشعبية الموالين للحكومة.
كما تتهمها منظمات حقوقية بتنفيذ حملات ترحيل (مناطقي) لسكان من أبناء المحافظات الشمالية، إضافة إلى ارتكاب انتهاكات أخرى، منها اختطاف وتعذيب، بحق مواطنين من محافظات الشمال.
النخبة الشبوانية
مطلع 2016، شكلت الإمارات قوات “النخبة الشبوانية”، وأسندت قيادتها إلى المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو كيان مدعوم من أبوظبي، يطالب بانفصال جنوب اليمن عن شماله.
ورغم أن الإمارات بررت إنشاء هذه القوات ودعمها بالأسلحة المتطورة بـ”الحاجة لمواجهة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية”، والتي خاضت معه معارك في مديريات بمحافظة شبوة (جنوب)، فإنها استغلتها لفرض سيطرتها على المحافظة الغنية بالنفط، ومنع الحكومة من تصدير النفط والغاز، للحصول على عوائد تمكنها من السيطرة على الوضع الاقتصادي المتدهور، والحد من تهاوي قيمة العملة المحلية (الريال).
سلطة موازية بالساحل الغربي
كما هو الحال في عدن وشبوة، أنشأت الإمارات قوات “المقاومة الوطنية” (خليط من رجال الأمن والحرس القديم) في السواحل الغربية لليمن، وأوكلت قيادتها لطارق صالح، نجل شقيق الرئيس الراحل صالح، والذي غادر صنعاء بعيد مقتل عمّه على أيدي الحوثيين، حلفائه السابقين، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017.
على خلاف ما ظلت تردده وسائل إعلام ومغردون إماراتيون مقربون من حكام أبوظبي، من أن هذه القوات ستُسند إليها معارك تحرير الحُديدة (غرب) وصنعاء (شمال)، فقد تحولت تلك القوات إلى سلطة موازية، تتخذ من الشريط الساحلي مسرحاً ثابتاً لها، وتمارس ما يشبه “الحكم الذاتي”. ولا أحد يعرف تحديداً حجم هذه القوات، غير أن مصادر عسكرية تقدر قوامها بنحو 20 ألف مقاتل.
محاولات للسيطرة على سقطرى
في 30 أبريل/نيسان 2018، هبطت طائرة عسكرية إماراتية محملة بالجنود والمدرعات في مطار جزيرة سقطرى، ثم تلتها مجموعة طائرات عسكرية، حملت عشرات العسكريين الإماراتيين، وكثيراً من الدبابات والمركبات المدرعة.
بدأت هذه القوات بالانتشار في الأرخبيل، دون تنسيق أو إشعار مسبق لحكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، ما أثار غضب الحكومة، التي عبرت عن رفضها للوجود الإماراتي في الجزيرة، وطالبت أبوظبي بالمغادرة.
ولم تكتفِ الحكومة اليمنية بإطلاق التصريحات، إذ تقدمت بشكوى إلى الأمم المتحدة، واتخذت مساراً تصعيدياً أجبر الإمارات على الرضوخ، وسحب جنودها من الجزيرة، وفق اتفاق رعته السعودية.
ويرى الكاتب البريطاني جوناثان فنتون هارفي، في مقال له بموقع “Inside Arabia”، أن موقع جزيرة سقطرى هو ما جذب انتباه الإمارات التي ترى فيها “عنصراً محورياً”، لإمبراطوريتها الجيوسياسية المثالية التي تطمح إليها.
ويفسّر الكاتب “الأطماع الإماراتية” في الجزيرة، برغبة لدى أبوظبي في “إنشاء قاعدة عسكرية تكون متاخمة لمناطق تواجدها شرق إفريقيا، وبما يمنحها نفوذاً أكبر على البحر الأحمر وباب المندب، الذي يمر عبره قدر كبير من التجارة الدولية”.
تعز في مرمى الاستهداف
تُشكل تعز (وسط) واحدة من أكبر عُقد الصراع الدائر في اليمن. ورغم دفع الحوثيين بإمكانات ضخمة لحسم المعركة في هذه المدينة لمصلحتهم، إلا أنهم فشلوا في إحراز أي تقدم منذ اندلاع النزاع.
غير أن المفارقة كانت أن هذه المدينة هي الأقل حظاً في الحصول على دعم من التحالف، فقد تُركت لتتدبر أمرها مع الحوثيين بمعزل عن عمليات التحالف، كما أنه يندر مشاهدة أي عتاد أو مركبات عسكرية للتحالف في المدينة.
مصدر عسكري يمني قال للأناضول إن الإمارات، ومنذ وقت مبكر، وضعت “فيتو” أمام تحرير محافظة تعز، أو تقديم الدعم اللازم للمقاومة والجيش لاستعادة المناطق التي تخضع لسيطرة الحوثيين، وكان مبررها هو الخشية من تنامي نفوذ الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح).
لكن لا يبدو أن هذا هو العامل الوحيد، فأبوظبي وفقاً لمعطيات لاحقة، كانت تخشى من أن يؤدي تحرير هذه المحافظة إلى تقويض رؤيتها لمستقبل اليمن، القائم على دولتين أو إقليمين (شمال وجنوب) كحد أدنى، بما يتيح لها إبقاء الجنوب، بموقعه وجزره وموانئه، تحت سلطة نفوذها الواسع.
ولم تكتفِ الإمارات بالتخلي عن تعز، فعمدت إلى دعم تشكيلات مسلحة داخل المدينة (أبوالعباس)، لتتقاسم النفوذ مع السلطات الشرعية فيها.
غير أن السلطات في تعز نجحت، منتصف أبريل/نيسان 2019، عبر حملة عسكرية، في تقليم نفوذ هذه التشكيلات، والانتشار في مربعات واسعة كانت تخضع لسيطرة تلك التشكيلات لما يزيد على أربعة أعوام.
صراع متعدد الأوجه
لم يكن الانقلاب الذي دبرته الإمارات ضد الحكومة الشرعية في عدن، مطلع أغسطس/آب 2019، والذي أدى إلى تعزيز سيطرة الانفصاليين الموالين لها على المدينة، سوى إحدى حلقات الصراع الدائر في اليمن.
فالحكومة التي كانت تقاتل لاستعادة العاصمة صنعاء من الحوثيين، المدعومين إيرانياً، وجدت نفسها أمام انقلاب آخر في العاصمة المؤقتة (عدن)، من تدبير دولة أخرى تقول إنها “صديقة”، غير أن سلوكها لا يختلف كثيراً عن سلوك “الأعداء”.
ويقول خبراء إن الإمارات، التي أعلنت في فبراير/شباط الماضي اكتمال عودة قواتها من اليمن، لا تزال تتمتع بنفوذ واسع عبر ميليشياتها، وحولت المشهد اليمني إلى صراع متشعب الأجندات والأوجه، وهي التي تقف وراء عدم تنفيذ “الانتقالي الجنوبي” لاتفاق الرياض، الذي وقعه مع الحكومة، برعاية السعودية، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.