ترجمة خاصة بـ"عربي بوست"
يمتلك الألمان فكرة واضحة جداً عن متى وصل “كوفيد-19” إلى بلادهم، وكيف حدث ذلك، لأن ألمانيا كانت مستعدة لفيروس كورونا أكثر من جيرانها.
ورغم أن العالم يحسد الألمان على أنهم الأقل من حيث نسبة بالوفيات بالنسبة لعدد الإصابات، فإن الألمان يخشون أن حظهم قد بدأ بالنفاد ويخشون القادم، حسبما ورد في تقرير لشبكة CBC News الكندية.
أول أسباب النجاح.. التعقب المبكر
تم تُعقِبَ أول 16 حالة إصابة واكتشف أن سببها موظفة في فرع شركة ألمانية لتصنيع قطع غيار السيارات في شانغهاي، التي زارت مقر الشركة الأساسي في إقليم بافاريا في 19 يناير/كانون الثاني.
وأُبلِغَت السلطات الألمانية في 27 يناير/كانون الثاني، في اليوم التالي الذي شعرت فيه الموظفة بالتعب بعد عودتها إلى الصين، وتمكنت من احتواء مجموعة المصابين في غضون أسبوعين عبر إجراء الفحوصات والعزل.
ثم ظهرت الموجة الثانية من الإصابات بفيروس كورونا المستجد في أواخر فبراير/شباط، مع عودة الأشخاص الذين سافروا في العطلة الشتوية إلى بلدهم من منحدرات التزلج في إيطاليا والنمسا.
لكن هذه المرة كانت أصعب في الاحتواء، واعتباراً من الأحد 29 مارس/آذار، سجَّلت ألمانيا 60659 حالة إصابة مؤكدة بالفيروس، وأصبحت بذلك أعلى خامس دولة من حيث عدد الإصابات في العالم.
لكن اللافت للنظر في تفشي “كوفيد-19” في ألمانيا حتى الآن هو العدد القليل نسبياً للوفيات، وهو 482 شخصاً حتى 29 مارس/آذار. ووصل بذلك معدل الوفيات في ألمانيا إلى 0.8% مقارنة بنسبة 4% في الصين، وما بين 6% و8% في فرنسا وإسبانيا، و11% في إيطاليا، وفقاً لمركز موارد الفيروسات التاجية التابع لجامعة جونز هوبكنز.
وجذب هذا التفاوت اهتماماً دولياً كبيراً، في الوقت الذي يحاول فيه علماء الأوبئة ومقدمو الرعاية الصحية والإعلام فهم ما إذا كانت ألمانيا توصلت إلى طريقة للحد من الخسائر البشرية بسبب هذه الجائحة العالمية.
مليون شخص خضعوا للاختبار
وإذا كانت ألمانيا تتمتع بأفضلية في مواجهة “كوفيد-19″، فمن المحتمل أنها تتمثل في الفحوصات، فعلى مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، أُخِذَت عينات من نحو مليون شخص وحلَّلتها، وتعمل مختبراتها حالياً بطاقة تصل إلى نصف مليون عينة في الأسبوع (ومع ذلك، يمثل هذا نسبة صغيرة من السكان البالغ عددهم 83 مليون نسمة).
قارن ذلك بكندا، التي فحصت 164564 شخصاً للكشف عن الفيروس حتى يوم الجمعة 27 مارس/آذار، ونحو 375000 ألف فحص في إيطاليا، أو الولايات المتحدة، التي لديها الآن أكبر عدد إصابات في العالم، وفحصت 541000 شخص رغم أنها عدد سكانها يعادل نحو أربعة أضعاف سكان ألمانيا.
وقالت ميلاني برينكمان، عالمة فيروسات في مركز هيلمهولتز لأبحاث العدوى في مدينة براونشفايغ الألمانية: “هذا ليس نهج نزولي، بل تصاعدي، وبدأ الجميع يخضع للفحص بمجرد توفر البروتوكول ونظام المتابعة”.
وأضافت: “لذا، أعتقد أننا تعاملنا مع الجزء الأكبر من المشكلة أكثر من دول أخرى، منها إيطاليا على سبيل المثال. فهي لم تجرِ الفحص ثم فجأة ظهرت الكثير من حالات في المستشفيات وقريباً ستجد نفسها غارقة”.
وساعدهم ذلك على تقليل انتقال العدوى للفئات الأكثر عرضة للخطر
وقد توفر الفحوصات المكثَّفة صورة أكمل عن أزمة فيروس كورونا المستجد في ألمانيا؛ نظراً لأنَّ العديد من حالات الإصابات التي اكتُشِفَت خفيفة أو عديمة الأعراض، أي الحالات التي لا تُفحَص في بلدان أخرى.
وأعطى ذلك السلطات فرصة لكسر سلسلة العدوى في مرحلة مبكرة، قبل أن ينتقل المرض إلى شخص يمرض لدرجة الحاجة إلى طلب الرعاية الطبية في المستشفى.
وقالت ميلاني: “أعتقد أننا اكتسبنا الكثير من الوقت، الذي حضرنا خلاله المستشفيات لمرضى الفيروس الذين سيتوافدون في نهاية المطاف”.
معظم المصابين متوسطي العمر كما أن الإصابات كانت موزعة على الأقاليم
حتى مع جهود مكافحة “كوفيد-19” وبعض الأمان الذي وفرته، هناك شعور متزايد بالتشاؤم بين الخبراء الألمان وشعور بأنَّ الحظ الجيد الذي تمتعت به البلاد في هذه المعركة قد يكون مؤقتاً.
فمن جانبه، قال الدكتور كارل لوترباخ، عالم أوبئة وعضو في البرلمان الألماني: “ما فعلناه ليس مميزاً، بل كان الحظ حليفنا. نحن ندرك جيداً أنه في غضون أسبوعين، قد نواجه مشكلة كبيرة”.
وقال لوترباخ، المتحدث الرسمي منذ فترة طويلة عن القضايا الصحية من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إنَّ بلاده حظت ببعض فترات الراحة عندما يتعلق الأمر بـ”كوفيد-19″. ووفقاً للإحصاءات الحكومية، معظم الأشخاص الذين أصيبوا بالمرض حتى الآن كانوا صغاراً نسبياً -متوسط أعمارهم 48 عاماً- وبصحة جيدة.
إلى جانب ذلك، كان نطاق الإصابات موزَّع بشكل متساوٍ إلى حد ما في جميع أنحاء البلاد؛ مما يعني أنَّ أنظمة المستشفيات المحلية والإقليمية لم تُستنزَف حتى الآن كما هو الحال في أجزاء من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
ولكنهم يخشون الآن عاصفة وشيكة، الوفيات تتزايد
ومع ذلك، قال لوترباخ إنه يدرك تمام الإدراك أنَّ منحنى انتشار الفيروس في ألمانيا يتحول بسرعة إلى نذير شؤم.
فخلال الأسبوع الماضي، تضاعفت عدد الحالات، والآن تتزايد الوفيات اليومية كذلك. إذ سُجِلَت 47 حالة وفاة جديدة في 25 مارس/آذار، و60 حالة وفاة في اليوم التالي، و84 حالة في 27 مارس/آذار، و82 حالة أخرى في اليوم التالي.
وقال لوترباخ: “أعتقد أنَّ هذه مثل موجة مد قادمة. ارتفاع حاد في عدد المصابين، وكذلك عدد الأشخاص الذين يصابون بمرحلة خطيرة من المرض ويموتون مع الأسف”.
وهم مستعدون للأسوأ بفضل هذه المميزات
ومن المؤكد أنَّ ألمانيا مستعدة بشكل أفضل لارتفاع حالات الإصابة بالفيروس مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى؛ فهي لديها واحدة من أفضل أنظمة الرعاية الصحية المُموَّلة في العالم؛ إذ تحتل المرتبة الرابعة في نصيب الفرد من الإنفاق بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وتحتل كندا المركز الـ11، بينما تحتل إيطاليا وإسبانيا المرتبتين 22 و23 على التوالي. من جانبها، تنفق الولايات المتحدة أكثر من غيرها على الرعاية الصحية، لكن هناك فجوات واسعة في الجودة بين المستشفيات الخاصة والعامة.
وخصصت ألمانيا جزءاً كبيراً من ميزانيتها الصحية على البنية التحتية للرعاية الطبية الحرجة التي لها أهمية جوهرية إذا بدأت حالات الإصابة بـ”كوفيد-19″ في الارتفاع بشكل حاد، كما هو متوقع.
وفي هذا السياق، قال الدكتور أوه يانسنز، رئيس اتحاد طب الطوارئ والرعاية المركزة في ألمانيا: “في الوقت الحالي، يمكنني إخبارك أنَّ لدينا 10 آلاف سرير رعاية مركزة في ألمانيا متاحة للحالات الحرجة المصابة بالفيروس”.
وأضاف: “أوقفنا جميع العمليات، وحتى الجراحات الاختيارية، أوقفت جميعها، وأخبرنا الناس أن يأتوا للمستشفيات بعد انتهاء الظرف الحالي، وأعتقد أنَّ هذا إجراء مهم للغاية”.
وقال يانسنز إنَّ ألمانيا لديها بالفعل أسرة رعاية مكثفة أكثر من معظم الدول الأخرى -34 سريراً لكل 100 ألف نسمة- وهي نفس النسبة في الولايات المتحدة. فيما تمتلك كندا 12.9 سرير لكل 100 ألف نسمة (موزعة بشكل غير متساوٍ عبر المقاطعات والأقاليم).
وتبلغ نسبة إيطاليا 12.5 سرير لكل 100 ألف نسمة، وفي إسبانيا 9.7 سرير، في حين أنَّ المملكة المتحدة لديها 6.6 مساحة رعاية حرجة فقط لكل 100 ألف شخص.
ويمتلك الألمان أيضاً 25000 جهاز تنفس صناعي في متناول اليد. في حين تمتلك كندا إجمالي 7752 جهاز تنفس في جميع المقاطعات، إلى جانب 371 جهازاً آخر تحت الطلب؛ لخدمة سكان يبلغ عددهم 37 مليون شخص.
لكن كل ذلك قد لا يكون كافياً للتغلب على التركيبة السكانية للبلاد
إذ يوجد في ألمانيا، مثل إيطاليا وإسبانيا، واحداً من أكبر الشعوب سناً في أوروبا، إذ يبلغ 21.6% من سكانها 65 عاماً أو أكثر. وهذه الفئات العمرية الكبيرة معرضة بقوة لأضرار “كوفيد-19” مثل كبار السن في البلدان الأخرى.
وحتى يومنا هذا، سُجِّلَت 88% من الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا المستجد في ألمانيا بين الأشخاص في سن 70 أو أكبر.
وبينما لا يزال متوسط عمر المصابين بالعدوى في البلاد أقل بعشر سنوات من متوسط العمر في إيطاليا، وهو 63 عاماً، فقد بدأ بالفعل في التصاعد.
خطيئة الألمان.. بطء في تطبيق التباعد الاجتماعي
إذا كان الألمان في الطليعة عندما يتعلق الأمر بالفحوصات الجماعية، فقد كانوا أبطأ من الدول الأخرى في إغلاق الشركات غير الأساسية وفرض قواعد التباعد الجسدي.
وفي 11 مارس/آذار 2020، حذَّرت المستشارة أنجيلا ميركل -التي تعيش هي نفسها في عزلة ذاتية بعدما ثبتت إصابة الطبيبة التي أعطتها لقاح الالتهاب الرئوي بفيروس كورونا المستجد- من أنَّ 70% من السكان، أو 58 مليون شخص، قد يصابوا بالعدوى.
ومع ذلك، لم تعلن ألمانيا حالة طوارئ وطنية إلا بعد 11 يوماً، وتحديداً في 22 مارس/آذار، وحظرت كذلك التجمعات العامة لأكثر من شخصين، وأغلقت الحانات والمطاعم وصالونات الشعر واستوديوهات الوشم.
ويتوقع الخبراء في ألمانيا أنَّ الدولة ستحتاج إلى شهور إلى أن تتمكن من السيطرة على تفشي الفيروس، وحذَّروا من أنَّ معدل الإصابات بـ”كوفيد-19″ قد يرتفع مرة أخرى في الخريف، حين يتغير الطقس ويعود الناس إلى التواصل داخلياً بصورة أقرب.
من جانبه، أعرب مارتن شتورمر، الكيميائي الحيوي وباحث الفيروسات الذي يدير مختبراً خاصاً في فرانكفورت، عن اعتقاده أنَّ الحجم الحقيقي لتفشي الجائحة في ألمانيا لن يصبح مرئياً حتى بعد انتهائه، عندما يصبح من الممكن اختبار الأشخاص بحثاً عن الأجسام المضادة، وهي علامة على أنهم أصيبوا بالفعل بالعدوى حتى لو لم تظهر عليهم أعراض.
ويبقى شتورمر نفسه في المنزل تحت الحجر الصحي بعد أن أصيب بعدوى “كوفيد-19” خلال رحلة تزلج إلى النمسا. ويصف الأعراض بأنها غير مريحة -وتشمل ضيق التنفس ، وآلام شديدة في الظهر، وفقدان مستمر لحاسة التذوق والشم. لكنه قال إنه يشعر بالارتياح لأنه أصيب بمرحلة خفيفة من المرض.
وأضاف شتورمر: “في الوقت الحالي أنا سعيد لأنني مصاب الآن وأنني لست مضطراً للتفكير في ذلك في كل مرة أخرج من المنزل حين أعاود الخروج، وأتساءل هل يمكن لأحد أن يصيبني أو هل يمكنني إصابة شخص ما آخر؟”.
ويوضح شتورمر أنه حتى مع تزايد تفشي الفيروس، هناك بالفعل دروس يمكن أن تتعلمها ألمانيا، وبقية العالم.
وقال: “أعتقد أنه يمكننا أن نتعلم الكثير عن الاتصال بين الحكومات المحلية والحكومة الفيدرالية. ويمكننا تعلم الكثير عن النظافة الشخصية وغسل أيدينا بانتظام والحفاظ على مسافة اجتماعية من المرضى. يجب أن نراعي الفيروس، ونحترم المرض. لكن لا يجب أن نكون في حالة ذعر”.