لا يمكن القول بيقين أن الحرب المعقَّدة في اليمن، التي تسير في عامها السادس، تقترب من النهاية. قد يقول البعض أن "نهايتها" وشيكة، لكن الأمر يتوقَّف على المعنى الذي نريده من كلمة "نهاية".
مؤخَّراً أعلن التحالف الذي تقوده السعودية لقتال الحوثيين المتحالفين مع إيران في اليمن، عن وقف شامل لإطلاق النار لمدة أسبوعين اعتباراً من الخميس 9 إبريل استجابة لمبادرة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار.
وقال التحالف في بيان إن وقف القتال تمَّتْ الموافقة عليه لمواجهة تبعات انتشار فيروس كورونا المستجد في اليمن، و"تهيئة الظروف الملائمة لتنفيذ دعوة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليمن لعقد اجتماع بين الحكومة الشرعية والحوثيين".
وكتب الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي، على حسابه في تويتر، أن إعلان التحالف وقف عملياته في اليمن يقدم فرصة للحوثيين لإثبات عدم تبعيتهم لإيران.
قبيل إعلان التحالف بساعات، قام الحوثيين بنشر وثيقة قالوا أنها تتضمن مقترحات قدموها من جانبهم إلى المبعوث الأمم المتحدة مارتن غريفث، لوقف نهائي للحرب ورفع الحصار والدخول في عملية انتقالية جديدة على مستوى البلاد.
أغلب الشروط والخطوات المنصوص عليها في الوثيقة الحوثية تم طرحها لكي تُنفَّذ من جانب التحالف بقيادة السعودية. تختزل الوثيقة أطراف الصراع إلى طرفين اثنين هما التحالف بقيادة السعودية والحوثيين الذين خصَّصوا لأنفسهم في نهاية الوثيقة موضعاً للتوقيع تحت هذه الصفة: "قيادة الجمهورية اليمنية"، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع سقف طموحهم إلى حد الرغبة في الاعتراف بهم كممثِّلين شرعيين للدولة اليمنية. وهناك بالطبع الأمم المتحدة التي استحضرتها الوثيقة كوسيط ومنسِّق للتنفيذ.
تكشف وثيقة الحوثيين، في مجملها، ما يبدو أنه الثمن المطلوب للإنتقال من محور إيران إلى محور السعودية. لكنه بالنسبة لهذه الأخيرة ثمن يبلغ حد الاستحالة في الوقت الحالي على أقل تقدير.
وكانت السعودية قد اعترفت بإجرائها محادثات، مباشرة وغير مباشرة، مع الحوثيين عقب الهجوم الكبير بطائرات مسيَّرة على منشآت أرامكو في 14 سبتمبر 2019، والذي تبناه الحوثيين، فيما كشفت تحقيقات، في وقت لاحق، مؤشرات عن ضلوع إيران الفعلي في ذلك الهجوم الأكبر من نوعه.
لكن لا يوجد ما يدل على أن الحوثيين قد شاركوا في المحادثات، التي تجريها المملكة معهم، بوصفهم "قيادة الجمهورية اليمنية"، بل على الأرجح بوصفهم جماعة مسلحة في اليمن مرتبطة بإيران.
ومن جديد تُثار الأسئلة عن الشكل المستقبلي للعلاقة بين الحوثيين والسعودية، بالنظر إلى خواص جماعة الحوثيين ونوع ارتباطاتها الإقليمية.
الحوثيون حركة كفاح جهادية "أصولية" أشاعت عن نفسها فكرة تشجِّع على تصنيفها جيوسياسياً وايديولوجياً ضمن محور استقطاب إقليمي طائفي تتزعّمه إيران في مقابل المحور الذي تتزعّمه السعودية. وبالتالي، فإن أيّ تحول مُزْمَع في علاقة الحوثيين بالسعودية من العداء إلى وضع آخر غامض الملامح، يثير فيضاً من التساؤلات عن نتائجه بالنسبة لمصير الجماعة في الداخل اليمني وبالنسبة لموقعها في نظام التوازنات الاقليمي.
لا أحد يعرف إن كان التحول - الذي لم تنضج شروطه بعد- سيكون مرهوناً بانفصال الجماعة عن محور إيران وحزب الله والإنتقال إلى المحور المنافس بقيادة السعودية، وما إن كانت جماعة الحوثي جاهزة ومؤهلة للقيام بقفزة هائلة من هذا النوع.
بالتأكيد، سيكون على الجماعة تهيئة وتحضير أفرادها لمنعطف كهذا بعد أن تم شحنهم عقائدياً بكثافة جعلتْ من العداء للسعودية ركيزة من ركائز الوجود السياسي والأمني للحركة الحوثية منذ نشأتها.
ثم إن الجماعة، إذا قرَّرتْ فك ارتباطها عن محور إيران، لا تعرف ما الذي ستفعله بشأن ارتباطاتها الأخرى ذات الطابع الجيوثقافي المستمد من نموذج وايديولوجية الثورة الاسلامية في إيران.
هل من الممكن أن ينتقل الحوثيين إلى علاقة ودية مع السعودية مع إمكانية الإبقاء على الأشكال والرموز والشعارات المنسجمة مع النسق السياسي للمحور الإيراني، أم إن هذه الأشكال والعناصر والرموز قابلة للمواءمة والتطويع بما يتناسب مع نظرة جديدة ونهج جديد إزاء السعودية؟ هل ستنقسم الجماعة في المستقبل إلى فصيل واقعي براجماتي وآخر عقائدي متصلب وجامد؟
وإذا لم تكن هذه الرموز والأفكار والشعارات، المرتبطة بمحور إيران وحزب الله، قابلة للمواءمة والتكييف والتوطين داخل محور السعودية، فهل ستتخلَّى الجماعة عن هذه العناصر الكامنة في نسيجها الفكري والتنظيمي، وتشرع في إعادة تعريف نفسها وصياغة هويتها في إطار محلي وطبقاً لمقتضيات الواقعية السياسية؟
من المفيد في هذا الصدد ملاحظة أنه، وفي العهد الجمهوري اليمني، بل وما قبله بقليل، كان النهج المعادي للسعودية في شمال اليمن بمثابة أداة فعالة في يد حركات المعارضة. ومنذ 1967 تقريباً، كان العداء للسعودية (الرجعية، وفقاً لشتيمة تلك الحقبة) في جنوب اليمن أداة لا تقل فعالية في يد نظام الحكم هناك، ولا سيما بعد أن وضع نفسه في دائرة نفوذ المعسكر الاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وهو المحور المضاد للمحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي تقف السعودية في مجال نفوذه.
وهنا يبرز سؤال آخر: هل يمكن أن تكون عملية التحول المتوقعة في طبيعة علاقة الطرفين (الحوثيين والمملكة)، نموذجاً مشابها لما حدث في الستينات من القرن الماضي عندما وجدت الرياض نفسها في الأخير مضطرة للإعتراف بنسخة "معتدلة" من النظام الجمهوري بعد أن قرَّر الزعيم المصري جمال عبدالناصر سحب قواته التي كان قد أرسلها إلى اليمن لتثبيت النظام الجمهوري في صنعاء وخاض في سبيل ذلك حرباً طويلة ومكلفة مع معسكر الملكيين المدعوم من السعودية حينها وعدد من الدول.. أم أن الحالة مختلفة هذه المرة وأكثر تعقيداً من حيث الظروف الدولية ومن حيث عناوين الصراع وأطرافه؟
من جهة أخرى، ليس هناك ما يؤكد أن مسار التطورات في علاقة الحوثيين مع السعودية، حرباً وسلماً، سيكون متماثلاً مع علاقة الإمام يحيى وحربه الشهيرة مع بن سعود والتي انتهت بهزيمة الإمام عسكريا وذهابه لمفاوضات أسفرت عن التوقيع على اتفاقية الطائف 1934، فهذا المسار معناه الاعتراف السعودي بالحوثيين حكاماً على صنعاء والشمال. ومعناه أن السعودية قبلت بخسارة حربها في اليمن. وهذه نتيجة ليست بالهيِّنة على جميع الأصعدة.
في تلك الحرب، كان الإمام يحيى في وضع قانوني أقرب لكيان دولة معترَف به لغياب البديل في ذلك الوقت. وكانت تلك الحرب تُعرَّف باعتبارها حرباً يمنية سعودية، خلافاً للحرب الراهنة التي لا يتمتع فيها الحوثيين بوضع قانوني وشرعي مشابه لوضع الإمام يحيى، كما أن السعودية دخلت هذه الحرب باسم الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وهو ما ينزع عن تدخلها العسكري صفة الحرب بين دولتين: اليمن والسعودية.
وليس من المتوقّع، بالقدر نفسه، أن تشبه التطورات في علاقة الحوثيين بالسعودية أي شكل من أشكال العلاقات اليمنية السعودية الرسمية وغير الرسمية في اليمن الجمهوري شمالاً وجنوباً.
من الجانب السعودي، لا يبدو أن ثمة مشكلة إيديولوجية تعيق انتقال العلاقة مع الحوثيين من الحرب والعداء إلى التعاون والصداقة. فالسعوديين، تاريخياً، لم يكونوا مرتبطين يوماً بعلاقة صارمة ومصيرية مع أي مجموعة أو زعامة يمنية. أيَّدتْ السعودية في ستينات القرن الماضي، كما ذكرنا، أتباع الإمامة الزيدية ضد الجمهوريين المدعومين من جمال عبدالناصر. وهي الخطوة التي تشير دائماً إلى أن تحالفات المملكة في اليمن ليست متناغمة بالضرورة مع خطوط الانقسام المذهبي "الزيود - الشيعة"، و"الشوافع - "السنة".
السؤال الحاسم هو: ما الذي حقَّقه الطرفان الرئيسيان من الحرب؟
لا بد أن مقياس الفوز والخسارة سيتغير بتغير وتنوّع تعريفات أطراف الصراع لهذه الحرب. إذا نحن نظرنا الى الحرب بحسب تعريف الحوثيين لها في إعلامهم الخاص، أي بوصفها حرب تشنها السعودية كدولة ضد اليمن كدولة، فإن اليمن الذي يقولون أنهم يدافعون عنه هو الطرف الخاسر والمدمَّر بالقياس إلى حجم الخسائر والأضرار الطفيفة التي لحقت بالسعودية كدولة حتى الآن على الأقل.
أمّا إذا نظرنا اليها بالصورة التي يقدمها إعلام التحالف بقيادة السعودية والأطراف اليمنية الموالية له، أي إذا نظرنا إليها كحرب تخوضها السعودية داخل اليمن - وليس ضد اليمن- لتغليب طرف يمني يمثل السلطة الشرعية، المعترف بها، على طرف يمني آخر انقلابي ومعادي للسعودية وحليف لإيران، فإن نتائج الحرب، في هذه الحالة، تقاس بطرق مختلفة كل الإختلاف.
السعودية في حربها داخل اليمن لم تحقق أهدافها على النحو الذي يرضي آمال وتوقعات من استنجدوا بها واحتموا في كنفها.
وهكذا فالحوثيين، بحسب تعريفهم المعلن للحرب، هم في موقع الطرف الخاسر. بمعنى أن اليمن - التي يدّعون تمثيلها- خاسرة ومستباحة ومقطّعة الأوصال. ومع ذلك، من الجائز القول أن الحوثيين، كجماعة، ربحوا الحرب، في حال توقّفت الحرب عند النقطة التي هي عليها حالياً.
التحالف بقيادة السعودية، وبالقياس إلى تعريفه للحرب وإلى أهدافه المعلنة، هو أيضاً في موقع المتعثّر والخاسر (حتى هذه اللحظة على الأقل).
وبما أن الحوثيين حلفاء إيران، فأرباحهم وخسائرهم هي أرباح وخسائر المحور الإيراني.
المصدر: المصدر أونلاين