توفي في لندن مؤخراً الموسيقار والمغني الصومالي أحمد إسماعيل حسين المعروف باسم حُديدي، الأب المؤسس للموسيقى الصومالية الحديثة، بعد إصابته بفيروس كورونا عن عمر يناهز 91 عاما. وكانت ماري هاربر، الصحفية في بي بي سي، صديقة للراحل وكتبت هذه المادة عن مسيرته.
كلما عزف حديدي على عوده، كان من المستحيل أن تظل ساكنا. تتمايل الأجساد، وتصفق الأيدي، وتطقطق الأصابع. موسيقاه كانت تنقل المرء الى عالم آخر، وبطريقة ما تتملكه.
ولكن كان هناك ما هو أكثر من ذلك في شخصية حديدي، أو "ملك العود" كما كان يعرف، فإضافة إلى موسيقاه الراقية كان قوة حياة، دافئاً وسخياً ومتواضعاً ومرحاً.
سائق حافلة وطالب
منذ اللحظة التي قابلته فيها شعرت أنني جزء من عائلته. لم أكن الوحيدة، فقد كان منزله اللندني مفتوحاً للجميع، حيث كان يعد القهوة اليمنية القوية، ويعرض المبيت على أي شخص بحاجة للمبيت.
كان بمثابة مدرسة موسيقية غير رسمية، يقصده أشخاص من كل أنحاء العالم للتتلمذ على يدي الأستاذ.
وكانت إحدى الطالبات امرأة صومالية في الستينات من عمرها، لم يسمح لها من قبل بتعلم الموسيقى. وكان طالب آخر سائق حافلة.
ولد حديدي في مدينة بربيرة الساحلية الصومالية عام 1928. وترعرع في اليمن على الضفة الأخرى من خليج عدن، وانجذب إلى الموسيقى منذ صغره.
الصومال بعد حوالي 60 عاماً من الاستقلال
وقال يوما: " كنت كلما رأيت فرقة الشرطة تعزف على الطبول، أعدو وراءهم، متخيلا أنني أعزف على تلك الآلات الموسيقية. كانت تجرفني، أفقد الإحساس بالوقت، حتى يجدني أحد أفراد العائلة فيصحبني إلى المنزل".
عندما كان حديدي في الرابعة عشرة من عمره، صحبه والده إلى حفل في عدن، حيث قدم قام أحدهم بالعزف على عود، فوقع حديدي في حب الآلة.
ووصف تعلقه بتلك الآلة الموسيقية بأنه مرض، فكلما رأى إحداها، كان يلتقطها ويعزف عليها.
وفي ذلك الوقت، التقى حديدي بالملحن وعازف العود الصومالي الأسطوري عبد الله قارشي.
وقال حديدي: "ذات يوم، لمست عوده، وشرعت في مداعبة الأوتار، ولاحظ قارشي ذلك على الفور، وسألني عن نوع الأشياء التي يشتريها لي والدي لآخذها إلى المدرسة".
أجبت قائلا: "كتب وأقلام رصاص". فقال قارشي: "إن ذلك لا بأس به، لكن عليه أيضا أن يشتري لك عودا بسيطا".
"عمل الشيطان"
تعلم حديدي بسرعة ولمع كعازف، وفاز بجوائز في المهرجانات، وبات صاحب شهرة. وعاد إلى أرض الصومال، ثم إلى جيبوتي حيث طرده المستعمرون الفرنسيون لغنائه الأغاني السياسية.
بعدها عاد إلى الوطن، حيثواجه أيضاً مشاكل مع السلطات. وفي وقت ما حاولت السلطات حظر موسيقاه، ووصفتها بأنها من "عمل الشيطان ".
كتب الموسيقار ذات مرة رسالة إلى رئيس جهاز الأمن الوطني يسأل فيها: "أين تلك السفينة الكبيرة المحملة عن آخرها بالحليب الطازج والعشب المورق التي وعدتم بها؟"
وقال إن الرسالة أغضبت الرجل الذي "أرسل لي كلمة صارمة مفادها أنني إذا لم أتوقف عن مثل هذه التصرفات فإنهم سيعملون على تشويه سمعتي الممتازة بين الصوماليين".
وكانت شعبيته الجارفة قد أثارت غيرة العازفين الآخرين.
وروى أن أحدهم سكب السمن في عوده ذات مرة في غفله منه فألف أغنية يسخر فيها من الشخص قام بذلك.
استقر حديدي في نهاية المطاف في لندن، لكنه سافر إلى جميع أنحاء العالم، ليشيع البهجة بين الناس بموسيقاه الجميلة. ولم يمثل العمر بالنسبة له عائقاً. فقد كان لا يزال يعزف في الحفلات الموسيقية، وهو في التسعينات من عمره.
وعلى الرغم من مكانته الكبيرة، لم يكن "ملك العود" يحب الإثارة والأضواء.
أتذكر مراسم حفل توزيع جوائز في لندن، حيث فاز بجائزة عن مجمل أعماله خلال مسيرة حياته. كانت المراسم تتطلب ارتداء ربطة عنق سوداء، وقد جلبت ابنة أخته إحداها له ليرتديها، لكنه رفض ذلك بشكل قاطع.
حاولنا إقناعه بارتداء ربطة العنق، على الأقل عندما يذهب إلى المنصة دون جدوى.
وكان يتمتع بجاذبية عابرة للأجيال.
"أفضل أب"
ذهبت إلى إحدى حفلاته في قبو مكتبة صغيرة في لندن. وبطريقة ما، علم الموسيقي والمطرب الصومالي الشاب آر معنطا بأن حديدي يعزف هناك. فهرع من منزله مع عوده، وركض هابطا الدرج إلى قاعة مزدحمة، وانتزع مقعدا، وبدأ في العزف مع حديدي، كانا يبتسمان ويضحكان وهما يطلقان سحرهما.
وسلطان علي شيري هو كاتب السيرة الذاتية الرسمية لحديدي. كما كان طالبا لفترة طويلة عنده، ويصف حديدي بأنه "الرجل الذي زرع بذور الموسيقى الصومالية كما هي اليوم، وأفضل أب يمكن أن يكون لأي شخص".
ومن طلابه أيضاً، طالبة كانت تعزف معه في الحفلات العامة في بعض الأحيان وهي المؤلفة نظيفة محمد، والتي كانت بمثابة ابنة له.
تقول نظيفة: "كان كل شيء بالنسبة لي، لقد بدأ كمدرس للموسيقى، لكنه علمني التاريخ والثقافة واللغة أيضا. كانت الموسيقى تتدفق منه. حتى في مطبخه كان يبدأ في النقر بأصابعه على سطح طاولة المطبخ".
70 عاما من الأداء
وقال حديدي إنه ليس من الممكن دائما فصل الموسيقى عن السياسة، وخاصة في الأوقات الصعبة، مثل فترة دكتاتورية الرئيس السابق سياد برى التي استمرت طويلا، أو سنوات الصراع والجفاف التي استمرت طويلا أيضا، وغيرها من الأوقات الصعبة.
ويقول البروفيسور الصومالي أحمد ساماتار المقيم في الولايات المتحدة مقرا له: "كان وطنيا بنزعة مدنية راسخة، ورائدا بإمكانات لا متناهية في مجال الفن، فلقد قدم لنا العروض على مدى 70 عاماً".
وتقول نظيفة: "إن حديدي كان ثائراً طوال الوقت، يدعم الحريات الشخصية".
وهذه النزعة لم تلق صدى طيبا لدى الجميع، بمن فيهم والديه، اللذين لم يكونا سعداء أبدا بمسيرته الموسيقية، منذ أن كان طفلا.
وحول ذلك، قال حديدي: "كنا في حرب مع بعضنا البعض، وباتت الركلة واللكمة من أدوات لقاءاتنا. كان الأمر بالنسبة لهما كما لو أن ابنهما قرر تدمير حياته حتى قبل أن تزدهر".
وقد أصبحت العديد من أغاني حديدي جزءا لا يتجزأ من وجدان الصوماليين، بغض النظر عن خلفياتهم، وبغض النظر عن القبيلة التي ينتمون إليها.
وكان يرى في الموسيقى وتعاليمه محاولة للحفاظ على الديمومة الثقافية رغم الانقسامات الناتجة عن 30 عاما من الصراع.
وقال: "إن قلوب الموسيقيين الصوماليين مثقلة بالحزن الذي ينبع من تاريخنا المشترك المدمر، وبالتالي خسارتنا لميراثنا الثقافي الغني".
كما رأى أن الموسيقى وسيلة للإدراك الأشياء.
ويقول: "إن المخيلة الفنية لا تصقل نظرتنا للعالم فقط، بل إنها تمنحنا وسيلة للإدراك وللتحاور وللحلم وعيش حياتنا".