يتحوّل الوضع في جنوب اليمن إلى مستنقع جديد للسعودية، في المنطقة التي يُفترض أنها موالية لها وخارج سيطرة خصومها الحوثيين، إذ يبدو أن "التسلسل الزمني" لتنفيذ اتفاق الرياض، الموقّع في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد انقلاب حلفاء الإمارات في عدن في أغسطس/آب الماضي، سيتحوّل هو الآخر إلى مأزق جديد للمملكة جنوباً، في ظل خلافات بين الحكومة اليمنية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" حول هذا التسلسل، لتصل إلى ذروتها في الأيام الأخيرة بعد إعلان المجلس "حالة الطوارئ" و"الإدارة الذاتية" لمدن الجنوب، وما تبعها من إشعال معارك في سقطرى.
واحتاج "المجلس الانتقالي" المدعوم إماراتياً، إلى 5 أيام من أجل الرد على الدعوة السعودية التي طالبته بالتراجع عن التمرد المسلح في عدن، وعلى الرغم من الترحيب المتأخر إلا أنه لم يكشف بوضوح عن إلغاء خطواته الانقلابية على اتفاق الرياض والمؤسسات الدستورية اليمنية، كما تصفها الحكومة الشرعية. وبعد أيام من التصعيد السياسي والعسكري، أغفل "الانتقالي الجنوبي" في بيان الترحيب، الحديث عن "حالة الطوارئ" و"الإدارة الذاتية" التي أعلنها قبل أسبوع، وقفز بشكل مباشر للتفاوض على الجانب السياسي والاقتصادي من اتفاق الرياض المتعثر، الذي رعته السعودية بين الشرعية والانفصاليين مطلع نوفمبر الماضي.
ويسعى "الانتقالي" لانتزاع مكاسب سياسية باعتباره سلطة أمر واقع في عدن، وإجبار السعودية على الرضوخ لمطالبه القديمة منذ 6 أشهر، وهي تفعيل الجانب السياسي والاقتصادي فقط باتفاق الرياض، من دون الإشارة بشكل مطلق إلى الجانب العسكري والأمني. في الجانب السياسي، سيحصل "الانتقالي" على شرعنة لكافة خطواته الانقلابية منذ أغسطس 2019، وسيصبح شريكاً في السلطة، وتحظى قراراته المرفوضة حالياً من المجتمع الدولي بالتأييد باعتباره حليفاً للحكومة الشرعية. وفي الشق الاقتصادي، سيكون شريكاً أيضاً في كافة المؤسسات الرقابية والسيادية على المال العام وسيحقق مراده في محاصرة حكومة عبدربه منصور هادي التي يتهمها بهدر المال العام وإنفاقه على حكومة منفية في الرياض.
وكما هي "المرجعيات الثلاث" عقدة مزمنة لكافة مبادرات الحل الشامل، إذ تتمسك بها الشرعية ويرفضها الحوثيون، من المؤكد أن "التسلسل الزمني" لتنفيذ اتفاق الرياض سيتحوّل هو الآخر إلى مأزق للسعودية، إذ تقرأ الشرعية التسلسل الزمني بأنه "إجراءات عسكرية وانسحابات من عدن وأبين وتسليم للسلاح الثقيل، يليها تعيين محافظ لعدن ثم تشكيل حكومة مشتركة. بينما يشعر "الانتقالي الجنوبي" بأن تنفيذ الشق العسكري بالانسحاب من عدن وأبين أو تسليم الأسلحة سيجرده من أهم عناصر القوة التي يمتلكها، تماماً كما هو الحال مع الحوثيين بالنسبة لاتفاق استوكهولم، إذ يرفضون الانسحاب من موانئ ومدينة الحديدة. لكن تشكيل حكومة مشتركة بين الشمال والجنوب يحصل فيها "الانتقالي" على نصيب الأسد من الحقائب الجنوبية، ستجعل منه ينفذ الجانب العسكري وقد أصبح دولة لا طرفاً انقلابياً.
وأكد مصدر حكومي لـ"العربي الجديد" أن الثقة ما زالت معدومة، خصوصاً مع إصرار أتباع الإمارات على إشعال حروب جديدة في سقطرى وحضرموت، ومواصلة التحشيد في أبين واغتيال جنود من القوات الحكومية. ووفقاً للمصدر، كان "الانتقالي" يحشد لإسقاط مدينة حديبو عاصمة سقطرى، من أجل استخدامها كورقة تفاوضية وانتزاع البنود التي يريد تطبيقها في اتفاق الرياض، مضيفاً أنه "ليومين متتاليين، وجّه فوهات مدافعه إلى الأحياء المأهولة بالسكان في الجزيرة المسالمة التي لم تشهد أي معارك على الإطلاق منذ زمن". وكانت المفارقة أن أتباع الإمارات، يصفون محافظ سقطرى رمزي محروس بـ"المتمرد على الشرعية الجنوبية"، وفجر أمس السبت، طالب القيادي في "الانتقالي" منصور صالح، محروس بتسليم مقر المحافظ ومركز سكنه لعناصر المجلس.
وجاءت هذه الدعوة على الرغم من مؤشرات برزت عن تهدئة في سقطرى، إذ قال السكرتير الإعلامي للمحافظ، محمد عبد الله السقطري، لوكالة "الأناضول"، إن قوة مشتركة من القوات الحكومية والتحالف تسلمت مساء الجمعة مهام تأمين مدينة حديبو "تطبيقاً لاتفاق تم التوصل إليه بين القوات الحكومية والمتمردين التابعين للمجلس الانتقالي، لإنهاء التوتر في المحافظة". وفي وقت سابق، كشف مسؤول محلي في سقطرى، لـ"الأناضول"، عن توصل القوات الحكومية إلى اتفاق مع مسلحي "الانتقالي" لإنهاء التوتر العسكري في الجزيرة. واندلعت اشتباكات عنيفة الجمعة، استخدمت فيها أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة بين الطرفين.
وكما هو الحال في الخطوات الانقلابية الأخيرة في عدن، واصل "الانتقالي" توجيه إهانات متتالية للرياض، فبعد تحذير غير مسبوق للقوات السعودية المرابطة في سقطرى عشية تفجير الوضع، الجمعة الماضي، افتقر خطاب إعلان الطوارئ للحصافة المعتادة، إذ ذكر أتباع الإمارات أنهم "أمهلوا السعودية" منذ أشهر لتصحيح الوضع وأن موقف الرياض اتسم بـ"الصمت المريب". ووفقاً لمراقبين، فإن الرسائل التي حملها إعلان "الإدارة الذاتية" في الجنوب، كانت موجّهة للسعودية أكثر منها للحكومة الشرعية، إذ تم الحديث عن مؤامرات من قبيل "عدم دفع المرتبات لعناصره العسكرية والأمنية وعدم دعم الجبهات بالسلاح والذخيرة والتغذية أو إسناد عناصرهم بالغارات الجوية وخصوصاً في الضالع التي تتصدى لهجمات حوثية، فضلاً عن عدم رعاية الجرحى وأسر الشهداء". وكان الانفصاليون يحصلون على كافة هذه الخدمات وغيرها من المزايا من حلفائهم الإماراتيين، وباتت مسؤولية القوات السعودية التي تتولى الإشراف على عدن منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وقال تقرير حديث صادر عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، إن "الانتقالي" يشعر بأنه مستهدف من قبل السعودية، التي عملت بصمت لتفكيك قوة المجلس على الأرض، تحديداً حول عدن، عبر مزيج من الخطوات التي شملت شراء ولاء القادة العسكريين المحسوبين عليه. ومن بين تلك الخطوات السعودية "إنشاء قوات جنوبية جديدة يتزعمها قادة جدد موالون كلياً للرياض، وفرضهم لتولي السيطرة على الأرض في عدن وغيرها من المناطق المهمة خارج المدينة، مثل رأس العارة في لحج، كما أن حرمان قوات الانتقالي من مصادر دخلها يساعد في استقطاب المقاتلين لصالح تشكيلات عسكرية تُدفع رواتبها بشكل منتظم، ما يغيّر معادلة القوة والنفوذ في مناطق سيطرة الانفصاليين".
وأشار التقرير إلى أن سلسلة من الأحداث على مدار الشهرين الماضيين، صعّدت التوترات بين السعودية و"المجلس الانتقالي"، إذ أُهين الأخير علناً في مارس/آذار حين ضغطت السعودية على الأردن لمنع عودة عدد من قياداته إلى عدن من عمّان. كما أتت حادثة السيول في عدن لترفع مستوى الضغط الشعبي على المجلس، وحاولت السعودية استغلاله للدفع نحو عودة كامل الحكومة اليمنية إلى العاصمة المؤقتة عدن، إلا أن المجلس رفض.
وفيما توقع أن يتدهور الوضع جنوباً بشكل أكثر وينزلق نحو مواجهة عسكرية بين الحكومة و"الانتقالي" وخصوصا في أبين، استبعد التقرير أن تنخرط السعودية بشكل مباشر في المواجهات العسكرية بين "المجلس الانتقالي" وحكومة هادي في حال نشوبها، لافتاً إلى أن هناك قوات سعودية متواجدة في المناطق التي يسيطر عليها "الانتقالي"، وخصوصاً في عدن، وبالتالي من غير المرجّح أن تخاطر الرياض بجنودها وتعرضهم لخطر القتل أو الإصابة، أو أن يُؤسروا كرهائن.
وأضاف التقرير: "يُعد الوضع معقداً أيضاً بالنسبة للسعودية، أحد الأمور الملحة يتعلق بما يجب فعله بقواتها في عدن، فبقاؤها في المدينة في ظل إصرار المجلس الانتقالي على الإدارة الذاتية يعني إما موافقة السعودية على ما يقوم به المجلس، أو العجز أمام تحدٍ من وكيل من المفترض أن يكون مطيعاً، أو الانجرار إلى مواجهة مسلحة والنتيجة النهائية غير مضمونة".
وباتت السعودية في موقف لا تحسد عليه بالفعل، فقيادات الصف الأول لـ"الانتقالي"، وعلى رأسهم القيادي السلفي هاني بن بريك، وجّه في اليومين الماضيين إهانات علنية للرياض وقال إن طائراتها لم تحسم معركة ولم تحرر محافظة شمالية بالكامل منذ 5 سنوات، فيما رسائلها الداعية للتراجع عن الخطوات الانقلابية الأخيرة لم تجد آذاناً صاغية كما يفترض، وهو ما يجعل من الصعوبة التنبؤ بردة فعل سعودية مؤكدة تجاه ما يجري لها من أتباع دولة أصبحت على ما يبدو حليفا على الورق فقط.