كورونا

اليمن.. من لم يمت بـ”كورونا” قضى جوعاً!

سمعتها تخبر أمي أن مسماراً اخترق قدم ابنها أثناء عمله وأنه متعب جداً، لكنه لم يرضخ لتوسلاتها كي يرتاح في البيت ليوم واحد على الأقل، منكسة رأسها المثقل بالهموم، "إن لم يخرج ابني للعمل سنموت من جوعنا".

عندما رأيته نهاية ذلك اليوم، يجرّ قدميه، عائداً إلى بيته بوجه متّشح بالسواد والتعب، هالني المنظر. ظننت أنه هذه المرة سيرقد في البيت أياماً حتى يتماثل للشفاء، لكنه لم يفعل، فصباح اليوم التالي ذهب إلى عمله كالعادة، غير آبه بالمخاطر والمشقّات التي تنتظره… فذات التعب الذي يعيده مساءً شبه مقتول، أهون عليه من أن يترك 6 بطون تقاسي ألم الجوع.

عمر (اسم مستعار) جارنا، مذ عرفته وهو يعمل في البناء، أي “شاقي” كما يقال في اليمن لعمّال البناء، بعدما توفي والده وهو في التاسعة من عمره. له ستة أخوة ووالدة مسنّة، لم يشتكوا يوماً هذه العيشة الضنكاء، ولم يمدوا أيديهم مهما بلغ بهم الجوع… هي صديقة أمي المقربة ونكاد نكون الوحيدين الذين نعرف صعوبة حياتهم.

سمعتها تخبر أمي أن مسماراً اخترق قدم ابنها أثناء عمله وأنه متعب جداً، لكنه لم يرضخ لتوسلاتها كي يرتاح في البيت ليوم واحد على الأقل، منكسة رأسها المثقل بالهموم، “إن لم يخرج ابني للعمل سنموت من جوعنا”.

تجتاح اليمن إشاعات كثيرة لا نعرف حقيقتها فليس هناك من يتعامل مع المواطن اليمني كإنسان له حقوق… ففي هذه الظروف بدا جلياً أن النصر السياسي هو الأولى، فلا أحد يهتم بالكشف عن الأرقام الحقيقية للحالات المصابة بـ”كورونا” مثلاً.

تقول أم عمر، “سنستطيع مواجهة كورونا ونلتزم إجراءات الوقاية، لكن كيف سنواجه الجوع وصاحب البيت الذي يريد منا الإيجار؟”.

مع ذلك، لا يلتزم عمر إجراءات الوقاية التي تكلف الكثير، في الوقت الذي يجتهد ويكابد المرّ كي يحصل على 5000 ريال في اليوم، أي ما يساوي 8 دولارات تقريباً، بالكاد تكفي العائلة للعيش، في ظل ارتفاع الأسعار بين يوم وآخر. 

“لا نستطيع تحمل هذه الأعباء ولن يغير وجود كورونا في اليمن من حقيقة الوضع السيئ الذي نعيش فيه”.

منافذ مشرعة

هذا حال معظم اليمنيين، فلو تجوّلت في أحد شوارع صنعاء مثلاً، لرأيت الناس يحتشدون بشكل عشوائي، خصوصاً قبيل عيد الفطر الذي لا نعرف بأي حال سيحل علينا.

البعض يلتزم وضع الكمامات والكفوف البلاستيكية، لكن ذلك ليس كافياً، خصوصا أن هنالك حالات تم تأكيد إصابتها بـ”كورونا” في صنعاء وبعض المحافظات اليمنية الأخرى ومعابر السفر من جميع المحافظات مفتوحة وإليها. ويستقبل اليمن مسافرين عبر البر والبحر من الدول المجاورة بشكل شبه يومي، من دون تخصيص محجر صحي للتأكد من عدم حملهم المرض، على رغم المخاوف المتكررة والتحذيرات من أنه في حال انتشار كوفيد 19 إلى اليمن، ستكون له تبعات ونتائج كارثية.

يؤكد الناشط خالد لكرع رئيس فريق “شمسان ميديا للتوعية في عدن”، أن منافذ اليمن الشرقية، الشمالية والغربية ما زالت مفتوحة على دول الجوار أمام حركة المسافرين والنقل التجاري.

ويتابع لـ”درج”: “الأوضاع في اليمن تتأرجح بين نفي وتأكيد وبين عصف الإشاعات واستغلالها لأغراض سياسية، والمجتمع يعيش حالة من الريبة والذعر، لكن من دون الالتزام بأدنى وسائل الوقاية”.

ويضيف: “صحياً منذ وصول الفايروس إلى أوجه في الانتشار الإقليمي والعالمي لم تتخذ أي إجراءات فعلية للوقاية منه، لا الحكومة الشرعية ولا السلطات الأخرى على الأرض أو حتى المنظمات الدولية والمحلية قامت بدور مدروس ومستدام للمساهمة في منع انتشار المرض”.

الجوع كافر

بلغ حجم الانكماش الاقتصادي في اليمن 50 في المئة بسبب الصراع المستمر في البلاد للعام السادس على التوالي، وهي نسبة مرشّحة للارتفاع. وبحسب تقرير أعدته المفوضية السامية للأمم المتحدة بقي أكثر من 80 في المئة من السكان دون خط الفقر، ما يفاقم الضغوط الهائلة على الاستجابة الإنسانية التي تعاني من نقص في التمويل.

تقرير آخر لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان “تقييم الحرب في اليمن على تحقيق أهداف التنمية المستدامة”، يقول إن استمرار اليمن في الحرب حتى 2022 سيصنف اليمن كأفقر بلد في العالم. وأوضح التقرير الصادر في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي أن 79 في المئة من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، ويصنف 65 في المئة منهم على أنهم فقراء جداً واحتوى التقرير على توقعات مريعة، وإذا استمرت الحرب خلال العقد المقبل، سيعيش 78 في المئة من اليمنيين في فقر مدقع وسيعاني 95 في المئة من سوء التغذية و84 في المئة من الأطفال سيعانون من التقزم.

ربما هذه الأرقام تبرهن سبب استهتار اليمنيين بجائحة “كورونا”، ولعل الأهوال التي قاسوها روضتهم على مشاهدة الجثث في كل مكان ولأي سبب كان، فالحميات بأشكالها تسيطر على البلاد في عدد كبير من المحافظات مثل الكوليرا وحمى الضنك والدفتيريا والمكرفس، وكلها أوبئة تنتشر بسرعة نتيجة لعدم توفر البيئة الصحية المناسبة، وانهيار القطاع الطبي بعد تدمير البنية التحتية للقطاع الصحي.

استسلام

“لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا”، أطلق أحد الباعة المتجولين هذه العبارة فور سؤالنا له عن سبب عدم التزامه الحجر المنزلي، الذي فرضه الخوف من “كورونا”، “نموت بكورونا أفضل من الموت جوعاً داخل بيوتنا التي لن يصبر علينا مالكوها إذا لم ندفع لهم الإيجار”.

يتجول بعربة جديدة بعدما فقد الأولى إثر السيول التي أغرقت العاصمة صنعاء منذ نيسان/ أبريل الماضي، “لا نستطيع تحمل هذه الأعباء ولن يغير وجود كورونا في اليمن من حقيقة الوضع السيئ الذي نعيش فيه”.

فقر وجوع وحرب لا تهدأ كلها أعباء جعلت اليمن في أسوأ كارثة إنسانية في العالم، وأدت إلى تحطيم النظام الصحي في اليمن وترك سكانها ضعفاء بسبب الجوع والمرض. وقد أعرب المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية للشرق المتوسط عن توقعاته بأن ينتشر الفايروس بنشاط على مستوى البلد، مشيراً إلى أنه سيظل يُشكِّل تهديداً كبيراً لـ 50 في المئة من الشعب اليمني والنظام الصحي المتعثر، إذا لم يتم تحديد حالات الإصابة وعلاجها وعزلها وتتبُّع مُخالِطيها على النحو السليم، حتى وإن كانت حالة واحدة خصوصاً أن لدى اليمنيين أدنى مستويات المناعة ضد الأمراض، مقارنة بالدول الأخرى، لكن السلطات المعنية سواء في الشمال أو الجنوب، لا تحرك ساكناً.

المصدر: درج