"خزيمة لا ترد ميتاً" مثل شعبي نقله الأجداد للأبناء عن أشهر المقابر اليمنية الواقعة وسط العاصمة صنعاء، في تعبير ضمني عن السعة الكبيرة لهذه المساحات الأرضية التي استقبلت العديد من الموتى على مدى عقود من الزمن.
وبعد ارتفاع حالات الوفيات الناتجة عن الأوبئة هذه الأيام، أُغلقت المقبرة أبوابها أمام مرتاديها ليس بقرار رسمي؛ وإنما بتدخل من نيابة الأوقاف والإرشاد الواقعة تحت سلطة الحوثيين.. وكأن الواقع يشير بالقول "لا مزيداً من الجثث في المقابر".
لم يعد الأمر يحتمل التفسير أو التأويل.. القبور تنبش ويتم دفن جثث أخرى بشكل مكدس، فالجثث في عدد من المقابر تدفن فوق بعضها بسبب ارتفاع عدد الوفيات ورفض أهالي المتوفي دفنه في غير المقبرة التي أوصى لدفنه فيها، ما خلق ارتفاعاً عجيباً لأسعار القبور وسط صنعاء.
حفارو القبور يروون أحداثاً غريبة عند نبش قبور -بقصد أو بدون قصد- خلال بحثهم عن مساحة لدفن جثث أخرى مع إغلاق الطرق الفرعية وسط المقابر وتحويلها إلى قبور.
لقد تكدست الجثث فوق بعضها، وأصبحت القبور تجارة رابحة لزيادة الطلب عليها مع انعدام أماكن الدفن والحجز في هذه المقابر.. لم تعد تجد موضع قدم من شدة ازدحام القبور وتلاصقها مع بعضها البعض خشية أن تدوس على قبر أحدهم، فتضطر إلى التنقل في أوساط المقابر في حواف أحجار القبور.
وإلى جانب ذلك، فالمقابر في صنعاء لم تعد موحدة، هناك مقابر خصصت لقتلى جماعة الحوثي يطلق عليها "الروضات"، ولا يسمح بدفن المواطنين فيها، أما المقابر القديمة والمعروفة فتعيش واقعاً صعباً للغاية بين ارتفاع أسعارها وانتهاك لحرمة الميت فيها.
فريق "الموقع بوست" زار عدداً من المقابر على رأسها مقبرة "خزيمة" للإجابة عن تساؤلات المواطنين وأهالي المتوفين، وأعد التحقيق التالي الذي يحمل في طياته واقعاً مريراً يتطلب حلولاً عاجلة وقرارات لحفظ حرمة الميت اليمني على أرضه.
مقابر "تتجدد"
يقول المواطن عبد الله الكبسي لـ"الموقع بوست": "أسكن في منطقة الصافية بجوار أكبر مقبرة في اليمن (خزيمة) ونحن نعرفها من قديم الزمان، وهي ممتلئة الآن، وتم تجديد مساحة كبيرة منها وأصبحت قبور تحمل تاريخ 2019م، أي مساحات كبيرة تم دفنها قريباً ونحن نعرف أن في هذه المساحات قبور قديمة فكيف تم دفن جثث بشكل حديث؟ولماذا دفنت الجثث فوق بعضها؟".
وتساءل الكبسي قائلاً: أين حرمة الميت في المقابر، وأين دور الدولة في وقف هذا العبث الخطير، والتجديد يعني أن عملية نبش القبور مستمرة ويتم دفن الأموات فوق بعضهم البعض، وهذا لا يجوز شرعاً فالميت له حرمته وكرامته؟
وأضاف: "تم دفن 42 جثة من بيت تقي، القريبين من مطهر تقي، مسؤول السياحة في صنعاء وكثير من الحالات التي تدفن دون إعلان، كونهم يرون أن الميتين بفيروس كورونا ينفر الشعب منهم".
250 ألف للقبر
تُستغل حاجة المواطن في كل شيء حتى القبور، فقد وصل سعر القبر الواحد إلى 250 ألف ريال، حيث يقول أبوبكر محمد: "ذهبنا لندفن جارنا الذي توفي بـ"التهاب رئوي" حسب بيان مستشفى زايد في مقبرة سواد حنش لنتفاجأ أن سعر القبر 250 ألف ريال، ورغم محاولتنا مراجعة مشرف المقبرة لكنه أخبرنا أن نذهب للبحث عن مقبرة أخرى".
وأشار أبوبكر إلى أن هذه المبالغ التي تزيد 10 أضعاف عن سعر أرضية المقبرة يتصرف بها المشرفون على المقابر بانتهازية كما لو كانت ملكاً خاصاً بهم، إذ يقولون لمن يعجز عن الدفع: ابحث عن مقبرة أخرى، بينما الأهالي يريدون دفن قريبهم في منطقتهم، وليس في منطقة بعيدة عنهم".
ويعتمد أسعار المقابر في نتائج النزول الميداني حسب ازدحام وإغلاق المقابر التي تشهد إقبالاً منقطع النظير من 100 ألف 250 ألف ريال، وهو مبلغ مرتفع جداً بالنسبة للأسر اليمنية، ومعظم الناس لا يستطيعون توفير هذا المبلغ، ولا وجود لحلول من الجهات المختصة إلا عبر إخراج الجثث إلى خارج صنعاء وهذا ما يرفضه أهالي المتوفين.
لا شكاوي
عن حالة غضب المواطنين من ارتفاع أسعار القبور ورفض المقابر استقبال جثث الأهالي في صنعاء، يقول مسؤول في وزارة الأوقاف بصنعاء (الواقعة تحت سيطرة الحوثيين) لـ"الموقع بوست" إن "جميع الناس يشكون انعدام القبور وارتفاع أسعارها لكن لم تصل شكاوى رسمية حتى الآن ولا يمكن أن نتخذ إجراءات قانونية دون توفر الأدلة".
وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "مع عدم تقديم شكوى لوزارة الأوقاف والإرشاد بصنعاء نحن لا نستطيع أن نقوم باعتقال المسؤولين عن المقابر، أو مواجهتهم بتهم باطلة".
وفي رده على حالة السخط من ارتفاع أسعار القبور وإغلاق عدد من المقابر، قال: "كثيراً ما نسمع أن المواطنين اشتروا قبوراً من 200 ألف لكنهم لا يجرؤون على تقديم شكوى بحراس المقابر خوفاً من قيام حراس المقابر من الانتقام ونبش قبور الجثث، وفي الحقيقة قد تكون هناك حالات كثيرة لكننا لم نعلم بها".
الجثة سحبتني!
لا يعلم الأهالي في صنعاء عن نبش القبور من أجل استبدال جثة مكان جثة أخرى بسبب ارتفاع أسعارها في صنعاء، وعدم وجود مساحات متاحة لدفن مزيد من الجثث، ويؤكد حديث عبد الله الكبسي لقاؤنا بأحد حفّاري القبور الذي يعمل بشكل متواصل في مقابر أمانة العاصمة.
"أشعر بالذنب وباللعنات تطاردني، إنهم يريدون سحبي للأسفل"، يصف أحد حفاري القبور والحسرة تبدو على عينيه، فيقول : "للأسف لم يعد هناك مساحات متوفرة في أكثر المقابر بصنعاء، ونجد صعوبة في البحث عن قبر خاصة وأن هذا الموسم ليس كمثله موسم، فقد ارتفعت حالات الوفيات بشكل مهول، حيث أقوم بحفر أكثر من 10 قبور يومياً".
وقال حفار القبور أحمد: "اضطررنا لنبش عشرات القبور، وكلما قمنا بفتح قبر وجدنا جثة ما تزال موجودة فيه، وهي قبور قديمة جداً ففي أكثر الأحيان تنتابني رهبة وخوف شديد عند حفر قبر تتواجد فيه جثة أحدهم.. شعرت بالجثة تسحبني إلى القبر وكأنه يقول: لماذا فتحت قبري؟.. أحسست بنفسي تنجذب إلى اللحد وأنه تشبث بقدمي، بعد أن رأيت الجثة شعرت بالخوف والرهبة وبسرعة قمت بدفنها من جديد".
كان أحمد يتحدث وعيناه ثابتتان متوجها إلى الأرض وكأنه يعيش لحظات نبش القبور، وهو يقول: "إنه عملي لا أستطيع أن أتركه وأتجاهل هذا الموقع المخيف عندما أتنافس مع زملائي على الحصص المالية والعائد الكبير الذي نجنيه في هذه الأيام وبشكل سريع في هذا الموسم الذي لم نجد مثله من قبل أن أصل إلى حفر عشرة قبور في يوم واحد".
اختفاء حفاري القبور
مع افتتاح عشرات القبور يومياً يؤكد حفاروها أن هذا العدد من الجثث في ظل تفشي جائحة كورونا انعكس على عدد حفاري القبور وعملهم، حيث يؤكد "حيدر مثنى" وهو حفار قبور أن الضغط الشديد على حفاري القبور سبب لهم أمراضاً، ويخشى إصابتهم بفيروس كورونا، وهو الأمر الذي أدى لنقص كبير في عددهم.
وكشف أصيل اليمني، أحد مسؤولي مقبرة خزيمة في صنعاء لـ"الموقع بوست"، اضطرارهم للطلب من أقارب المتوفي جلب عامل يفهم في حفر القبر، نتيجة الازدحام وعدم قدرتهم على حفر قبور جديدة.
وأوضح أن انتشار كورونا وإصابة العديد به، أدى إلى استبدال عدد من حفاري القبور لكن الأشخاص الجدد في حاجة إلى خبرة في عمل اللحود والحفر بمسافات مناسبة وهذه الخبرة متوفرة لدى الحفارين الغائبين حالياً.
40 جثة يومياً
يقول أحمد، أحد حفاري القبور، لـ"الموقع بوست"، إن حفر القبور زاد في الشهر الماضي، إلى 40 قبرا يومياً، كما حدث 27، 28 مايو 2020، وقد تم دفن 19 جثة في مقبرة خزيمة باتجاه شارع الدفاع صباحاً، أما بعد العصر فقد وصلوا 8 جثث.
وأضاف أنه "لا يمكن إنكار وجود عدد متزايد من الأشخاص الذين يموتون بهذا الشكل، فيومياً يتم تسجيل من 5 إلى 10 في كل مقبرة، حسب المندوب الخاص بوزارة الأوقاف الذي يرفع التقارير بشكل يومي".
قرار إغلاق أكبر مقبرة
توجه الفريق إلى مبنى وزارة الأوقاف والإرشاد بصنعاء الواقع في منطقة التحرير، للسؤال عن الحلول في مواجهة تدفق الجثث المستمر إلى المقابر وما هي الإجراءات التي ستتخذها الوزارة، لكن الفريق وصل في وقت كان الوزير نجيب العجي في اجتماع طارئ، ولم يسمح لنا بتغطيته.
وتحدث نائب مدير مكتب الأوقاف بالأمانة، عدنان المضواحي، الذي حضر الاجتماع، لـ"الموقع بوست"، أن اللقاء ناقش مسألة إيقاف تدفق الجثث إلى المقابر بأمانة العاصمة لامتلائها، والانتقال إلى مقابر خارج صنعاء.
وأضاف أنه تم اتخاذ قرار إغلاق عدد من المقابر ومنها مقبرة خزيمة، ووجّه بكتابة لوحات جدارية على بوابات المقابر مكتوب عليها "لا مزيدا من الجثث في خزيمة"، ونؤكد لكم بأن مقبرة خزيمة أصبحت "ممتلئة ومغلقة".
يقول أحد موظفي وزارة الأوقاف حضر الاجتماع أيضاً إن "الوزير نجيب العجي لم يصدق البيانات والإحصائيات التي تشرح تدفق الجثث إلى المقابر بشكل كبير، واتخذ قراراً عاجلاً بمنع دفن الجثث في المقابر المزدحمة بأمانة العاصمة".
وقال الموظف لـ"الموقع بوست" إن العجي ضرب بيده طاولة الاجتماع قائلاً: "أوقفوا دفن الجثث في صنعاء.. يومياً 40 جثة.. الدفن هذا لا يحتمل، ووجه بإغلاق مقبرة خزيمة في العاصمة صنعاء".
ونوّه إلى إغلاق بوابات مقبرة خزيمة بمكينة لحام حديد كي لا يتم إدخال الجثث إليها مجدداً ونبش القبور القديمة فيها، ويشمل القرار إغلاق الثلاث البوابات وفتح الباب الصغير لزوار المقابر فقط.
ورغم إصدار قرار الإغلاق إلا أن مشرفي المقابر مستمرون في حجز القبور للجثث، حيث تابع قائلاً: "أخبرنا مشرفو المقابر بأن يتم حصر المساحة المتبقية للقبور ولم يتم ذلك حتى الآن، وإنما هناك استمرار في الحجز ويتحملون المسؤولية في ذلك".
إقالات
تزامنت أزمة المقابر مع ارتفاع أسعار القبور وحفرها؛ نتيجة ازدياد عدد الوفيات، دون إعلان رسمي بذلك، حيث يؤكد الموظف في وزارة الأوقاف أن الوزارة أقالت وفصلت عدداً من المشرفين والمسؤولين على المقابر بعد بيع القبور بمبلغ مئة ألف ريال، وتصل إلى 150 أو 200 بينما السعر الرسمي 20 ألف..أما التسعيرة المعتمدة من قبل الوزارة تتضمن ثلاث فئات هي الكبار (7000 ريال يمني) والأطفال (4000 ريال يمني) والفقراء (3000 ريال يمني) لكن لم يعد يعمل بها أبداً نظراً للظروف الاقتصادية في البلاد.
وأشار أنه تمت إقالة المشرف على مقبرة خزيمة واستبعاد مشرفين على عدد من المقابر لأنهم كانوا يتاجرون بالقبور، ويستغلون حاجة الناس في دفن موتاهم في صنعاء.
وتابع حديثه: "تم الآن التوجيه بنقل الجثث من مديريات شعوب والثورة ومديريات أخرى إلى مقابر مديريات بني الحارث كونها أكبر مديرية من حيث المساحة، وعلى أهالي المتوفين نقل جثمانهم من المستشفيات إلى هناك" (لم يتم التحديد أي مقبرة بالاسم كون الكثير منها أصبحت ممتلئة).
الوصية هنا
"أهالي صنعاء أحق بالمقابر من غيرهم"، هكذا قال عبد الله جحزر، فأبناء صنعاء القديمة وسكان صنعاء الأصليين يوصون بدفن أقاربهم في مقبرة خزيمة أو المقابر القريبة منهم كون آبائهم وأهلهم مدفونين هناك ويوصون بدفن أبنائهم بجوارهم، ويقول جحرز: "لا يمكن أن يقبل أبناء صنعاء بإغلاق أرضهم الموقوفة في عديد من المقابر التي أوقفوها لهم".
"أصيل" مسؤول أحد المقابر يقول إنه تعرض للتهديد من بعض الأسر اليمنية المنتمية إلى صنعاء القديمة، "تم تهديدي وإبلاغي بأنه سيتم دفني لو أوقف جنازة الأسرة (...) في المقبرة المجاورة لمنزلهم حيث أخبرتهم أن المقبرة أغلقت بتوجيهات من نيابة ووزارة الأوقاف، وأنا أرفض استقبال مزيد من الجثث".
وتابع أصيل حديثه لـ"الموقع بوست" قائلاً: "لا أعتقد أن أهالي صنعاء سيسكتون عن منع دفن أقاربهم في المقابر المجاورة لهم لأنها موقوفة منهم ومن نفقتهم، فكيف يتم منعم من دفن أقرانهم"، مضيفاً: "أعتقد بأني سأترك عملي تجنباً للمشاكل إن لم يستجد أي جديد في هذا المجال".
أنواع المقابر
وعلى الرغم من استحداث عشرات المقابر في صنعاء، وتخصيص الأراضي المتنازع عليها وقفاً إلا أن تخصيص العديد منها لقتلى جماعة الحوثي لم يسهم في تخفيف الضغط عن المقابر القديمة الواقعة وسط صنعاء.
خذوا جثثكم
لم تتمكن وزارة الصحة العامة والسكان بصنعاء من دفن الجثث الموجودة في ثلاجات المستشفيات لارتفاع أسعار القبور، ونقل مراسل "الموقع بوست" قيام الوزارة بإصدار توجيهات إلى رؤساء الهيئات ومدراء عموم مكاتب الصحة بالمحافظة ومدراء المستشفيات العامة والخاصة بتسليم الجثث المتواجدة في مستشفيات صنعاء والجثث الخاصة بوفيات (كوفيد-19) لذويهم، والسماح لهم بدفنها، مع الالتزام بالإجراءات الوقائية عن الغسل والتكفين ونقل الجثة إلى المقبرة.
سوق سوداء
وفي جنوب اليمن، تحديداً في العاصمة المؤقتة عدن، لا يختلف الوضع كثيراً عن صنعاء، فقد شهدت المقابر فتح عشرات القبور يوميا والتي حفرت مؤخراً وأصبحت شاهدة على الإقبال الكبير على المقابر لاحتواء العدد الهائل للموتى.
يقول حفار القبور في عدن عبيد علي لـ"للمهرية نت": "أصبحنا نخشى من زيادة الضغط على المقابر بسبب الوفيات اليومية والتي تصل إلى ما يقارب خمسين حالة وفاة في اليوم الواحد، حيث أصبح حفر القبور بالشيول ولم نعد نستطيع الحفر بأيدينا وبالكاد نقوم بالتعليم على المساحات والتنسيق لإتمام عمليات الحفر".
وقال عبيد إن "سعر القبر في عدن وصل إلى 70 ألف ريال ونخشى أن يتم فتح سوق سوداء للقبور بسبب الازدحام عليها خلال هذه الفترة ونواجه مشاكل في حجز القبور الآن لأن كثيرا من الأهالي يحجزون قبورهم لأقاربهم بجوار بعضهم البعض ويدفعون مبالغ مالية للقائمين على المقابر والقبور حتى بعضها محفور وجاهز وعليها اسمه".
وأضاف: "نسأل من الله الرحمة واللطف بأهلنا في عدن.. الناس يموتون بسبب الوباء والأمراض الأخرى جراء هذه الآفة التي أصابتنا".
وتابع: "لم يحدث أن يتم الازدحام على المقابر بهذا الشكل، وأنا شاهد على جميع السنوات الماضية فلم يحصل أن تزايدت الأعداد بهذا الشكل".